فقه السيرة (14)

 

 

 أهم اعتراضات المشركين

كانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين. 

أولاً: اعتراضهم على الوحدانية. 

لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) [لقمان: 25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، قال تعالى: ( أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) [الزمر: 3]. 

وقد انتقلت عبادة الأصنام إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد استغراب قال تعالى: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) [ص: 4-7]. 

ولم يكن تصورهم لله تعالى ولعلاقته بخلقه صحيحًا، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها ولدت الملائكة، وأن الملائكة بنات الله –تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. 

فكانت الآيات تنزل مبيِّنة أن الله عز وجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولم تكن له صاحبة قال تعالى: ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: 100-101]. 

ومبينةٌ أن الجن يقرون لله بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) [الصافات: 158]. 

ومطالبةً المشركين باتباع الحق وعدم القول بالظنون والأوهام: ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) [النجم: 27-28]. 

وموضحةً أنه لا يعقل أن يمنح الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين: ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) [الإسراء: 40]. 

ومحملةً المشركين مسؤولية أقوالهم التي لا تقوم على دليل: ( وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) [الزخرف: 19]. 

ثانيًا: كفرهم بالآخرة . 

أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ ) [سبأ: 7-8] فقد كانوا ينكرون بعث الموتى: ( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) [الأنعام: 29]. 

ويقسمون على ذلك بالأيمان المغلظة :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ) [النحل: 38، 39] وكانوا يظنون أنه لا توجد حياة في غير الدنيا, ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) [الجاثية: 24-27] وفاتهم أن الذي خلقهم أول مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة قال مجاهد وغيره: جاء أُبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات ( أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس: 77-79].

كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكَّر الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب, لبيان الطريق الذي به يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد أن يموت الطالح والصالح, ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته قال تعالى: ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ) [القلم:35-38] إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر، قال تعالى ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ )[ص: 27، 28]. 

وضرب القرآن الكريم للناس الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادرٌ على إعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية ( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الروم: 50]. 

وذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب الكهف بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة قال تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) [الكهف: 12]. ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) [الكهف: 19]. ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [الكهف: 25] وغير ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك. 

ثالثـًا: اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لا يكون بشرا مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكا، أو مصحوبا بالملائكة: ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) [الإسراء: 94] ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ ) [الأنعام:8] ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) [الأنعام:9] أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر وكانوا يريدون رسولاً لا يحتاج إلى طعام وسعى في الأسواق: ( وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) [الفرقان: 7، 8] وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعًا كانوا يأكلون ويسعون ويعملون ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) [الفرقان: 20]. 

ويريدون أن يكون الرسول كثير المال كبيرًا في أعينهم: ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) [الزخرف: 31]. يريدون الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف.

ونسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجنون: ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الحجر: 6،7] ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) [الدخان: 13، 14]

ورد الله عليهم بقوله: ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [القلم: 2] 

كما نسبوه إلى الكهانة والشعر: ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) [الطور: 29، 30]. 

كما أنهم كانوا يعلمون أنه لا ينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن ما يقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة. 

ونسبوه صلى الله عليه وسلم إلى السحر والكذب: ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) [ص: 4]. ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) [الإسراء: 47، 48]، وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [الأنعام: 10] وتعلمه أن المشركين لا يكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك الأقاويل: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) [الأنعام: 33]. 

رابعًا: موقفهم من القرآن الكريم . 

كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله واعتبروه ضربًا من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها: ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [يس: 69، 70] وكيف يكون القرآن شعرًا وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس ويقولون خلاف الحقيقة. ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ ) [الشعراء: 224 -226].

فهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وليس شبيهًا بقول الشعراء، ولا بقول الكهان: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) [الحاقة: 40-43]. 

وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم أن القرآن الكريم ليس شعرًا ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمدًا يتعلم القرآن من رجل أعجمي كان غلامًا لبعض بطون قريش، وكان بياعًا يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف من العربية إلا اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، ولهذا قال تعالى ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) [النحل: 103]. 

أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل. 

واعترضوا على طريقة نزول القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرقًا أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32]. 

فلما اعترض المشركون على القرآن وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات 

تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنس والجن مجتمعين عن ذلك: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [الإسراء: 88]. 

بل هم عاجزون عن أن يأتوا بعشر سور مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ) [هود: 13، 14]. 

وحتى السورة الواحدة هم عاجزون عنها: ( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [يونس: 37-38]. 

فعجزهم مع أن الفصاحة كانت من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لا يشبه كلام المخلوقين.

 

 

أسباب عداوة قريش للدين الجديد 

شهدت مكة وبلاد العرب قبيل ظهور الإسلام عدداً من الرجال حملوا إلى أمتهم وقبائلهم صوراً جديدة، وأفكاراً مغايرة لواقعهم، ودعوات صارخة ضد الظلم والعبودية والشرك والوثنية، فالصعاليك الثائرون على الظلم، والفقر، والعصبية القبلية من أمثال عروة بن الورد. والباحثون عن الدين الحنيف أمثال: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، والْمُحرّمون شرب الخمر، أمثال عبد المطلب بن هاشم، وشيبة بن ربيعة، وقيس بن عاصم السعدي، وعبد الله بن جدعان، وعُفيف بن معديكرب الكندي، والأسلوم اليامي من همدان، وأبو أمية بن المغيرة، والحارث بن عبيد الله المخزوميّان، وأصحاب حلف الفضول، وقس بن ساعدة الأيادي، وحاتم الطائي .

إلاّ أنَّ هؤلاء جميعاً وأمثالهم، لم يحملوا إلى قريش والعرب كيفاً متلاحماً متآلفاً، ذا أبعاد عقائدية متكاملة، ومنهجاً سلوكياً واضحاً يشمل كل شؤون الحياة، ومع ذلك لم يسلموا من أذى أقوامهم، وعناد زعمائهم، فكيف بهم وقد بعث الله عزّ وجلّ في مكة نبياً منهم يحمل إليهم وإلى العرب والعالم، ديناً يختلف عن أديانهم؟ ومنهجاً ينقض مناهجهم، وعقيدة تُسفِّه عقائدهم، إلا أن يكذّبوه ويستهزئوا به، ويؤذوه، وينالوا من أصحابه؟!.

لم يكن هذا نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دون الأنبياء وأتباعهم، فلقد كان مثل ذلك لكل نبيّ ورسول، ولكل مؤمن ومؤمنة، فما هي الأسباب الدافعة لمواجهة الإسلام ورسوله وأتباعه ومحاولة القضاء عليهم في مكة وخارج مكة؟

أولاً : الأسباب الدينية . 

كانت الصورة العامة للدين في مكة، تحمل مزيجاً من العبادات والعقائد، تسوده الوثنية وعبادة الأصنام، مع ما تولد عنها بينهم من أنصاب وأزلام، وكهانة وتقاليد، بالرغم من وجود آثار باقية للحنيفية، وما شابهها من تشوهات وانحرافات.

خوفهم على زعامتهم الدينية في مكة وعند العرب

فمكة لا تزال عاصمة الوثنية، وهي في الوقت ذاته، بلد البيت الحرام، ومركز الحج والعمرة، مما أعطاها زعامة بين القبائل العربية التي تحج إلى البيت وتُعظم الكعبة. وتقيم لها نُصباً وأصناماً آلهةً يعبدونها، ويتقرّبون بها إلى الله، ويذبحون عندها في كل موسم، ولكن سيّد هذه الطقوس والعادات، يُديرها ويُنظمها، ويسوسُ شؤونها، إنّما هي قريش، وعلى الأخص ما ورثته عن قُصي بن كلاب، من دار الندوة، وسدانة للكعبة، ورفادة وسقاية الحجيج.

جاء الإسلام بعقيدة التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، وأنكر الشرك والوثنية، وهذا ما جعل قريشاً تهتزُّ لذلك خوفاً على زعامتها الدينية، وظنّاً منها أنَّ الحج والعمرة، وما تتمتع به قريش من مناصب وزعامة على العرب، قد ألْغتْها جميعاً عقيدة التوحيد، لذلك انبرت قريش تدافع عن عقيدتها وزعامتها، تحارب رسول الله ? وأصحابه، وما جاء به من ربّه.

ـ تمسكهم بعقيدة الآباء

لقد جاء الإسلام بدين يختلف عن دين آبائهم، وهم متمسكون بما ورثوه عنهم، فكان ذلك من أسباب عداوتهم الدينية له، قال تعالى:

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [لقمان/21] .

وقال: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [سبأ/43] .

وقد ورد في رواية ابن سعد في الطبقات: فكان ذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها دونه، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فشنفوا لرسول الله ? وعادوه

ـثانياً : الأسباب الاقتصادية

لم يأتِ الإسلام بعقيدة نظرية، فلسفية لا تطبيق لها، ولا علاقة لها بحياة الناس اليومية والمادية، لكن الإسلام جاء بعقيدة تعالج كل ما في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وللاقتصاد نصيب وافرٌ فيها، تُنظّمهُ، وتُشرّعه، وتوظّفه في المسالك الشرعية التي ترتقي بالإنسان فوق المادية والأنانية والاستغلال، وعلى الرغم من أن العهد المكي للدعوة النبوية، لم يتناول بعدُ بالتطبيق البنية الاقتصادية التي شرعها الإسلام، إلاّ أن المشركين وجدوا فيه خطراً على مصالحهم الاقتصادية للأسباب التالية

ـ حرص قريش على زعامتها التجارية للعرب

تتمتع مكة بموقع متوسط بين اليمن جنوباً والشام والعراق ومصر شمالاً، وكان تجارها منذ عقود الإيلاف، سادةً للتجارة العربية والدولية في شبه الجزيرة العربية وما جاورها من بلدان، فكان لتجار مكة أسواق وعملاء في كل من الحبشة ومصر والشام والعراق وفارس، ويحملون تجارات العرب من جزيرتهم إلى تلك المناطق، ويأتون منها بالبضائع، وكثيراً ما كانت القافلة التجارية لقريش ملكاً موزعاً بين المساهمين بها من جميع أبناء مكة كل بحسب ما يقدر على المشاركة به، وجَرَت التقاليد العربية على ضمان سلامة التّجّار والتّجارة التي يحملونها، وكانت الأشهر الحرم الأربعة -ذي القعدة وذي الحجة والمحرم /متواصلات/ ورجب يتوسط الأشهر الأخرى- أكثر أشهر السنة حُرمةً وأماناً، بل لقد بلغ نبوغ تجار قريش في مجال الاستثمار الاقتصادي، حَدَّ توظيف الأموال في غير التجارة، كشراء البساتين واستثمارها، والاتجار بالمعادن الثمينة، كالذهب والفضة والمجوهرات، فكانت التجارة عند ذلك هي المورد الأساسي لأبناء قريش في مكة، التي تفتقر للموارد الزراعية والحيوانية بسبب طبيعتها الجغرافية الصعبة.

لذلك كله خشي زعماء الشرك في مكة، أن تتعرض هذه المصالح وزعماؤها للخطر، لأن انهيارها دينياً يعني انهيارها اقتصادياً، ولا انفصال بين الدين والمعاملة، وهذا يعني أنه (لا انفصال بين العقيدة والاقتصاد) .

ولقد منَّ الله على قريش، وصرف عنهم حملة الفيل وقال لهم في ذلك: { لإِيلافِ قُرَيْشٍ*إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ*فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [سورة قريش] .

ـ أهمية الأسواق التجارية:

إذا كانت مكة محط قوافل الحجاج والعمّار، فإنها أيضاً محط رحال التجار من كل مكان، يرتاد العرب أسواقها، يتبادلون فيها منتجاتهم وتجاراتهم، ويُنشدون فيها أشعارهم، ويقصّون فيها أخبارهم ورواياتهم، ولم تكن هذه الأسواق بعيدة عن متناول رسول الله ?، فقد كان يأتيها ويدعو الناس فيها إلى الإسلام، فكانت بذلك مجالاً للدعوة بين العرب يَنْزلُ منازلهم في السوق ويحادثهم.

ثالثاً: الأسباب الاجتماعية:

لم يكن المجتمع القرشيُّ في مكة، ذلك المجتمع الذي تصبو إليه النفوس وترضى به العقول، وتدعمه الغالبية من الناس الذي يعيشون وسطه، بل كان مجتمع التمايز والعصبية الجاهلية، والإسلام يقوم لأجل بناء مجتمع صحيح البنية، سليم الدعائم، واضح المعالم، تسوده الألفة والمحبة، والتعاون، والإخاء، تنظمه روابط عُليا بأسس عقلية وعلمية وأخلاقية، تنطلق من مبدأ تقوى الله، لا من مبدأ الثروة والنسب، والعرق واللون والجنس، والقوّة، ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بقوله: «إِنَّما بُعثت لأُتَمِّم مكارم الأخلاق». وقال ?: «إِنَّما بُعثت لأُتَمِّم صالح الأخلاق» 

لقد كان شائعاً بين العرب من العادات والتقاليد والأخلاق، ما أثنى عليه الإسلام، وعزّزه كالكرم والشجاعة، والمروءة وإغاثة الملهوف، والصدق والأمانة، ومنها ما حاربه الإسلام، كالزنا وشرب الخمر، والغزو، والعصبية، وعادة الثأر، ووأد البنات، وإنكار النسب، والعبودية، والتفاخر بالأنساب، والتقليد الأعمى، وإتباع الآباء على ضلال.

كما اعتمد الإسلام في نشأته على العلم والتعليم، والحرية والتحرير، والوحدة والتوحيد، لذلك كله كان الإسلام نذير تغيير اجتماعي شامل للبنية العامة، في مجتمع قريش والعرب، وهذا يعني بالنسبة لزعماء الشرك في مكة، تبدل موازين القوى في المجتمع، يحرمهم تسلطهم، ويحسر نفوذهم، ويحرر عبيدهم، وما إلى ذلك من تبدلات، وهذا ما دعاهم للوقوف في وجه الإسلام .

ـ الإسلام والنّزعات العائلية والأنانيات الفردية

كان من مظاهر الفساد الاجتماعي في مكة، ما كان عليه الناس من عصبية عائلية وأنانية فردية، وصراعات على النفوذ والثروة والزعامة، وكان ذلك كله يتمثل بموقف عمرو بن هشام -أبو جهل- حيث يقول: (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذا! والله لا نؤمن به ولا نصدقه). وهذا شاهد على أثر الأوضاع العائلية في إثارة العدوان على الإسلام والمسلمين.

ـ الإسلام والمستضعفون في مكة

دأبت الآيات المكّيّة على تحرير المستضعفين، ودَفْعِهم باتجاه تحررهم من المستكبرين، فكان ذلك نذيراً يُهدد المصالح الزعامية، والهيمنة والإذلال الذي كان يُمارسه زعماء الشرك في مكة. قال تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة/166-167].

وقال: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ/31-32].

ـ الإسلام والتفاخر بالأنساب والأولاد

لشدَّ ما كانت قريش تتفاخر بالأنساب والأولاد، ويُبيح بعض زعمائهم لنفسه أن يُفسد، ولا يُقام عليه الحدّ، بينما يقام الحدُّ على المستضعفين الذين لا نسب لهم، وكان من الأمثلة الفاضحة على ذلك، (ما فعله أبو لهب بن عبد المطلب، يوم سرق غزال الكعبة، وباعه ليشتري بثمنه الخمر، وانكشف أمره، فلم يقام عليه حد السرقة، وإنما أقيم على الغلامين الَّلذين حملا إليه الخمر، ديك ودييك، فقطعت قريش يد كل منهما ولم تقطع يد أبي لهب). ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول في دعوته قومه: «اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً...)

قال تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون/101-102]. وقال: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ/37].

وكذلك كان موقف الإسلام من البنات وما يتعرضْنَ له من احتقار ووئد.

وأخيراً: إنّ خوف الزعامة القرشية وأغنياء مكة معاً، على ما كان لهم ولمكّة من أهمية، ومنافع أدبية ومادية عظيمة، بسبب وجود بيت الله الحرام في مكة وسدانتهم له. فقد كان هذا البيت مثابة للناس وأمناً لجميع العرب، على اختلاف أديانهم وقبائلهم يؤمونه من كل حدب وصوب، ويقيمون له أسواقهم، كما يعتبرون قريشاً إماماً لهم في أمورهم الدينية والاقتصادية،وكانت هذه الإمامة تحفظ لهؤلاء عزّة الجانب ووفرة الحرمة، وكان ذلك الخوف ناشئاً من أنَّ نجاح الدين الجديد سيكون سبباً لانصراف الناس عن مكة والحج، وصف الله سبحانه خوفهم هذا فقال: { وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص/57].

وجدت قريش في جميع ذلك أخطاراً تهدد مصالح زعمائها، ومبرراً لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم  والدين الذي بعثه الله به إليهم وإلى العرب والإنسانية.

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين