فقه السيرة (13)

 

من مصالح سرية الدعوة في المرحلة المكية

1- وهي أعظمها تكوين جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتحمل على كاهلها تبليغ الدعوة والتمكين لها في الأرض، وهذا يحتاج إلى لقاءات فردية للكشف عن معادن الرجال وتحتاج إلى مساعدٍ خبيرٍ بأنساب قريش والعرب كالصديق رضي الله عنه، والمتتبع لسير هذا الرعيل الأول يجدهم هم الذين أشادوا صرح الإسلام الحضاري على أكتافهم، فمنهم الخلفاء الراشدون، ومنهم وزراء الاقتصاد كعثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما ، ومنهم قادة الفتوحات كسعدٍ وأبي عبيدة – رضي الله عنهم جميعاً –، وتكوين هذه النخبة لا يتأتى في الدعوة الجهرية، بل بدعوةٍ سريةٍ تعد مرحلة اصطفاء للطاقات، وإعدادٍ للقواعد التي يشاد عليها صرح الإسلام الحضاري.

إن بناء النماذج الدعوية الأولى التي ينعكس فيها فكر الداعية الأول وخلقه وأسلوبه هو السبيل الأمثل لتحقيق بناء المرحلة الأولى للدعوة، ثم الاهتمام بقضية المراحل التي يستطيع فيها الإنسان أن يتبدل ويتحول، من حيث الموضوع والزمن، ليطبق ما يقتضيه الدين الجديد للمجتمع، وما لم يكن ذلك وببرنامجٍ واضحٍ ومحددٍ، فإن نجاح الدعوة سيكون مرهوناً بيد أعدائها لا بيد أصحابها، وهذا يعني الفشل المحقق.

2- الوقاية من الاصطدام بقومٍ جفاةٍ لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيس، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم‏.

يقول الدكتور معاذ البيانوني: "وقد كان رسول الله متوازناً في التعامل بين السرية والجهرية بتقديره عاجل الأمر وآجله، فقد رأى صلى الله عليه وسلم مصلحة العمل السري في المرحلة الأولى لشدة ضعف المسلمين وقلة عددهم، وقوة الكفار وكثرة عددهم، والحاجة إلى إيجاد خليةٍ مؤمنةٍ تمثل بذرة الإسلام الأولى، ولهذا استمر صلى الله عليه وسلم هذه المدة التي قاربت السنوات الثلاث كاتماً أمره، وكذلك تعامل مع من أسلم معه بهذه السرية التامة التي كانت سبباً في الحفاظ على الدعوة الإسلامية في بداية أمرها، ثم بدأ التدرج بنشر الدعوة بمواقف فردية متعجلة قام بها بعض الصحابة كما فعل عمر وأبو بكر وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنهم –، ثم كان إعلان الإسلام على الملأ، وكان ذلك بعد أن تأسست القاعدة الأولى للإسلام بالقدر الذي يضمن لها الاستمرار، وتحقيق الأهداف، فتحققت الثمرة الآجلة".

يقول الدكتور السباعي رحمه الله في ذلك: "إن دعوة الإصلاح إذا كانت غريبةً على معتقدات الجمهور وعقليته، ينبغي ألا يجهر بها الداعية حتى يؤمن بها عددٌ يضحون من أجلها بالغالي والرخيص، حتى إذا نال صاحب الدعوة الأذى، قام أتباعه المؤمنون بدعوته بواجب الدعوة فيضمن ذلك استمرارها".

3- ضمان انتشار الدعوة الإسلامية بين الذين تميل نفوسهم للوحدانية وترفض عبادة الأوثان ويبحثون عن الحقيقة، فتبلغهم الدعوة وتجمعهم برسول الله وتعلمهم الدين الجديد

4- ضمان اتساع نطاق الدعوة في البطون والعشائر والقبائل، وتوغلها في الأوساط الاجتماعية، على اختلاف مستوياتها وامتداداتها في مكة وخارجها، حتى يصبح من العسير على زعامة مكة القضاء عليها وكسب الزمن

5- ضرورة الإبقاء على أفرادٍ مؤمنين يكتمون إيمانهم وسط زعامة قريش وبنائها الاجتماعي، ليمكن المسلمين من معرفة ما يأتمرون به ضد الإسلام

6- ضرورة إتاحة الفرصة أمام الذين دخلوا في الإسلام من مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعميق عقيدتهم، وتعليمهم أمور الإسلام، وتأهيلهم للصمود والدعوة.

إن إسرار النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته كان وفقاً لسياسةٍ مصلحية تعتمد على موازناتٍ دقيقةٍ كما رأينا يقول في ذلك العودة "وإن كان الكتمان والاستسرار، سياسة مصلحية في كثير من أمور الإسلام في الحرب والسلام، فهو كذلك في موضوع الدعوة، فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع، وإلا فالأصل هو بيان دين الله وشرعه، وحكمه لكل الناس، أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات، فهو أمرٌ مصلحيٌ خاضعٌ للنظر والاجتهاد البشري، إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيانٌ، ولا بلاغٌ، ومن ذلك مثلاً معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدعوة، فهذا أمٌر مصلحيٌ لا يخل بقضية البلاغ والنذارة، التي نزلت الكتب وبعثت الرسل من أجلها، فيمكن أن يظل سرًّا متى كانت المصلحة في ذلك مع القيام بأمر الدعوة والتبليغ؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر الناس وأعلن النبوة، ظل يخفي أشياء كثيرة، لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي".

دعوة العشيرة للتأكد من حمايتها قبل الجهر بالدعوة:

بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه، وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية، وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى، حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين (الشعراء: ??? – 215).

فجمع الرسول عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاؤوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلاً‏، ‏ فكلمهم رسول الله وقال لهم: "‏إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا‏"‏‏، فقال أبو طالب:‏ ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك‏.‏ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به‏‏ فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسى لا تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب‏، فقال أبو لهب:‏ هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب‏:‏ والله لنمنعه ما بقينا‏.

وبعد تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، وجهر بدعوته.

كان بدء النبي بعائلته وعشيرته مبنياً على موازناتٍ عظيمةٍ فالجهر بالدعوة في مكة البلد الجاهلي الذي توغلت فيه الروح القبلية، يحتاج إلى تأييدٍ من العشيرة أو حمايةٍ ونصرةٍ منها، خاصةً وأن الدعوة أخذت طابع المواجهة المعلنة، وهذه المواجهة تعرض الداعية للخطر، فلا بد له من حماية، وعشيرة الداعية هم أكثر الناس استعداداً لحمايته، سواءً آمنت العشيرة أم لم تؤمن، فإن حماية العشيرة لابنها الداعية خطٌ أصيلٌ في الدعوات، لذلك رأينا موقف أبي طالبٍ مختلفاً عن موقف أبي لهب، فقد تبنى حماية النبي صلى الله عليه وسلم رغم عدم دخوله في الإسلام، كما أن موقف أبي طالب المعلن في حماية الرسول ونصرته، عكر صفو أهل مكة لأنه كان بمثابة إعلان معركةٍ داخليةٍ جديدةٍ في صفوف أهل مكة.

وكل ذلك كان في مصلحة الدعوة لحماية قائدها، وإحداث خرقٍ في التحالفات ضدها فأعظم بفقه رسول الله وسياسته الرشيدة.

 

 

الجهر بالدعوة على جبل الصفا:

بعد نزول قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين ) (الحجر :94) ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإنني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت :( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ).

وفي رواية- ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: «أنقذوا أنفسكم من النار....» ثم قال: «يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحماً سأبُلها ببلالها». 

كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم. 

ولما تمت هذه المرحلية الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين قال رسول 

الله صلى الله عليه وسلم: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفًا بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة وإنذارًا، في حكمة وبلاغة، لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم ولكن أبا لهب قال: تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟.. وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الإعلام فقد اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه ، وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث لتزيد من عمليات الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق؛ وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم رجال الإعلام والدعوة أن الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة التامة بين المرسل والمستقبل أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقاً لا كذب فيه. 

ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير حين نزول قوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ? إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ? الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ ? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) [الحجر: 94-97]. 

كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها ممن كان يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوي زعماء الكفر والشرك. 

كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس. 

الحلقة السابقة هــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين