الفراغُ العلميُّ في زَمَنِ الثَّوْرَاتِ العربيَّة (3)

ظواهرُ التعليم السبعُ في السنواتِ السَّبْع

المبحث الثالث: ظواهرُ التعليم السبعُ في السنواتِ السَّبْع

إن الإجابة العلمية عن أسئلة البحث تقتضي استطلاعًا واستباناتٍ علميّة مفصَّلة لكل التخصصاتِ والمراحلِ العمرية على مدى سنواتِ الثورات ومقارنة كل سنة بما قبلها واستبانات خاصة بمناطق النزوح وبلاد المهجر، وأخرى لأسبابِ التسربِ وانحسارِ التعليم وعواملِ الأمية وخط سير الإنتاج العلمي المتوقَّع كمًّا وكيفًا تراكُمِيًّا فيما لو فرضنا أن هذه الحقبة حقبة استقرار، ثم القيام بدراسة تجريبية عمليَّة على عيِّنات الدراسة في كل حالة وإعداد دراسات إحصائية لذلك كله من أجل إصدار أحكام صحيحة، وتستدعي الإجابة على الأسئلة أيضًا مقارنةَ التعليم في الثورة والاغترابِ بما هو متاح للموالين للأنظمة الحاكمة خلال سنوات الثورات، أما مقارنة فروق التعليم في زمن السلم بزمن الحرب فتلك مسألة أعمق.

وإنني لَأَكُرِّرُ أنني لا أكتمك سرًّا بأنَّ الدراسةَ اقتصرت على إثارة المشكلة ولم تقدِّم إجابة علمية عن أي من الأسئلة؛ ذلك أن الإجابات العلمية تستوجب القيام بكل ما سبق، وتلك أعمال بحثية مُسهِبة حقيقةٌ برسائل جامعية في أقسام علم التربية والاجتماع والسياسة، لكن يمكن سرد ظواهر تنكشف بها حدود البحث مفصَّلةً وتصلح أساسًا لمقاربات ومدخلا لدراسات أكاديمية بحتة:

الظاهرة الأولى: ضعف الفرص والإمكانيَّات

بينما يمضي الطَّلَبةُ إلى مدارسهم وجامعاتِهِمْ وَفْقَ مناخ وبيئة تعليمية مهيَّأةٍ شَكْليًّا تحت سلطانِ الأنظمة المستبدة، نَرَى زملاءهم في المخيمات ومناطق الحرب والحصار وكهوف النزوح وبعض دول اللجوء يتكدسون في المنشآت التعليمية؛ فيضعف مستوى التعليم والخِدْمات المقدَّمة أو تنعدم، بل يُرْفَض أكثر الطلاب لضيق المنشآت وشحِّ الموارد التعليمية كما في لبنان حتى عام 2015م، ثم إنَّه قلما يحظى أحد هؤلاء الطلاب بالالتحاق بالجامعة لا سيما التخصصات المرموقة لأسبابٍ تحكيها ظروفُ الحربِ والاعتقالِ واللجوءِ والحياةِ الشَّاقة، نعم ثَمَّة قلَّةٌ آخرون حظوا بفرصٍ ما كانت لتتاحَ لهم لو لم يهاجروا.

إنَّ هذا المشهد ليُحمِّلُ الأفرادَ وفِرَقَ العمل ومنظمَّات المجتمع المدني مسؤوليةَ تدراك القصور وسدّ الثغرات من خلال مجموعة إجراءات وبرامج مقترحة، منها:

1- استثمار المنظمات لجزءٍ من مواردها في التعليم من خلال برامج دقيقة مبنية على دراسة جدوى إيجابية وتفاعلها مع مؤسسات حكومية وخيرية يستفاد من مراكزها المتاحة دائمًا أو خارج ساعات دوامها الرسمي.

2- تنظيم فرق عمل لدعم المنقطعين عن الدراسة والمراهقِين الأُمِّيْين من خلال تيسير التعليم البديل أو المفتوح أو المستمر أو عن بعد من خلال المراسلة والدروس التفاعلية والمسجلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويقوم عليها مشرف مجموعة متخصص للدعم والمتابعة.

3- مبادرات فردية لتفعيل برامج (المدرِّس المتطوِّع) ساعةً يوميًّا مع مبدأ (الأم مَدْرَسة)، استمرارًا لفكرة العالِم الثائر عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى: (إذا علَّمت ولدًا فقد علمت فردًا وإذا علمت بنتًا فقد علمت أمَّة)، وتهدف إلى تحسين سريع لأداء أولياء الأمور ليغدوا مدرسين فعليين لأولادهم في البيوت وفق برنامج مكثف يوازي برامج الدراسة المنتظمة ومدعَّم بوسائل مساعدة من الشَّبكة، يبدأ به المدرِّس المتطوِّع ثم يوكِل مهمة الاستمرار إلى الأسرة، وتغدو مهمته التقويم والمتابعة الجماعية المباشرة أسبوعيًّا مرةً في مراكز متاحة أو في بعض البيوت أيام العطلة الأسبوعية أو المتابعة عن بعد من خلال مواقع التواصل، وشيءٌ من هذا يقوم به بعض المغتربين المصريين المثقفين: يتخذون من بيوتهم مدرسة نموذجية بإدارة الأبوين فقط، فإذا حانت الامتحانات التحقوا بالمراكز الخارجية لها من خلال سفارات بلادهم.

الظاهرة الثانية: أثر الحرب على العملية التعليمية

ينبغي تحديد مدى تأثير الحرب والرُّعب والنزوح واللجوء والظروف المعيشية القاسية والوضع الاجتماعي الناجم عنها على التعليم والأداء وعدد المعلمين المتخصصين، وتأثير هذه الأحوال على المتعلمين ونفسيتهم ووعيهم وأدمغتهم وعقولهم وتصورهم للواقع والمستقبل.

الظاهرة الثالثة: أثر المحيط على الطالب المغترب

مجموعات الرِّفاق في العملية التعليمية في بلاد الاغتراب والنزوح تتركُ في الطفل أثرًا تتباين درجاته من بلد إلى آخر، فبينما يكتسب في بعضها إيجابيات المدنية الحديثة؛ تتجذر فيه سلبياتها وقوميّات وانتماءات وطنية ليس فيها خصوصية الوطن الأم ولا بيئته ولا ثقافته، ويكابد مرارة النظرة السلبية والتفرقة أحيانًا.

الظاهرة الرابعة: مشكلة الاعتراف بالشهادات

تتمثل هذه الظاهرة في النظر إلى الشهادات العلمية كمًّا ونوعًا واعترافًا وفاعليةً، ومدى قناعة الطلاب بنجاعة الدراسة دون شهادة معترف بها، وتأثير ذلك على درجة العناية والاهتمام بالعلم والتعليم، فربما أدَّت مرارة هذا المشهد إلى أن يردِّد بعض العامة: وهل أغنَت الشهاداتُ عن الدارسين من قبلُ شيئًا؟ فها هم الجامعيُّون وحَمَلة الشهادات العليا في بلاد المهجر والنزوح عمَّالٌ كالأمّيّين بل أسوأ حالًا؛ فلا هم خَبَروا المهن من قبلُ ليتقنوا إحداها ولا فرصة تتاح لهم في مناطق النزوح ولا في بلاد المهجر لموانع عدة أهمُّها اللغةُ الأحنبيةُ وندرةُ الفرص في تخصصاتهم وقوانينُ تلك الدول في تشغيل الأجانب المتخصصين... وهذا واقع مشهود صحيح نسبيًّا لكنَّه ليس عامًّا؛ فثمَّة جامعيون استكملوا المطلوب منهم، وآخرون أتقنوا اللغات، وأُتيحت لقسم آخر فرص عملٍ مناسبة، واتَّجَه بعضهم للتعليم مرة أخرى حسب التخصص المرغوب في سوق العمل حيث يقيم هو، فأسهر ليله وأجهد نفسه، وصار متخصِّصًا في مجال آخر؛ ثم إنَّه رغم نسبيّة صواب ما يردِّده العامة عن انعدام الفرص للمتعلمين يعود كلٌّ منَّا ليسائل ذاته في أعماق نفسه: إذا رضينا بالعاجلة فمن للآجلة؟ إنْ أعرضنا عن العلم والتعليم بدعاوَى كهذه فمن سيعلم أجيالنا القادمة بعد التحرير إن عدنا بلا علم ولا شهادة؟ أما الموالون لأنظمة الاستبداد فمنهم من أعدوا أنفسهم ومنهم من أُقحموا في المؤسسات التعليمية من غير أبوابها، فحجزوا مقاعد التعليم في كل المؤسسات، ناهيك عن أنَّ كيل المستبدين قد طفح فاجتثوا من الهيئات التدريسية ومؤسسات التعليم كل من خمَّنوا أنه معارض لظلمهم وطغيانهم وفسادهم في خفاءٍ، فماذا عسى أن يعلِّم أعوانُ القتلة أبناءَنا وعلام سيربونهم؟! ويل ثم ويل إن آلت إليهم وحدهم زمام التعليم ليعودوا فيربوا جيلنا القادم على فسادٍ وخِسَّةٍ وخنوعٍ للمستبد واستعبادِه وعلى سلوكياتٍ وصفاتٍ رَذلةٍ توارثتها جيناتهم وقامت عليها مصالحهم كابرًا عن كابر.

الظاهرة الخامسة: تحكم المستبد وأتباعه بالتعليم 

ينبغي ملاحظة مدى تكثيف أنظمة الاستبداد لأعداد الموالين القائمين بالعملية التعليمية في التعليم الجامعي وما قبله وتحكُّم تلك الأنظمة في هذه الحِقبة بفرص التعليم العالي، وعلى هذا: كيف ومتى وأين يمكن أن تُهَيَّأَ فرصٌ لإعداد كفاءات تدريسية في كل التخصصات لتكون مؤهلة للمنافسة والتصحيح المطلق الشامل للمفاهيم والقيم؟

الظاهرة السادسة: المناهج بين الأدلجة والتحريف

وقعت المناهج تحت سياط الأدلجة ومباضع عمليات التشويه والكذِب والتحريف، وتلك أمُّ الخبائث، فعن أيِّ عمليَّة تعليمية تتحدَّث وقد أُغير عليها حتى غارَتْ أركانها - المعلِّم والمتعلِّم والكتاب - في مياه آسنة؟ وليس الكتاب أحدُ عناصر المناهجِ هو وحدَه من سِيْمَ وبال المسخِ والتزويرِ، بل طالَ العبثُ توظيفَ الوسائلِ التعليمِيَّةِ والتقويمِ والأنشطة الصفِّيَّة والموجَّهة والحرَّة؛ ثم إنَّ الأدلجة والبنية الفكرية في المناهج والمؤسسات والهيئات التدريسية يتفاوت أثرها في جيلِ المستقبل لدى كلٍّ من أنظمة الاستبداد ودول الإرهاب وأنظمةِ التطرُّف العرقي أو الدينيّ ولدى أنظمة دول الاغتراب وجيل الثورة، وهي مسألة لها بصماتها في صناعة الوعي والتاريخ وبناء الجيل أو تخريبه، فجديرٌ بها أن تُفرَد بالبحث، فلربَّما يحتاج الأمر إلى دراسة ميدانية مفصَّلة سابرة لجرائم دُوَل الإرهاب وتنظيم الدولة والعِرقيِّين العابثين بالمناهج في ضوء معايير علمية تربوية حيادِيَّة لإعداد المنهج وبنيته وإطاره ومحتوياته بعناصره السبع؛ ولهذا وجبَ إفراد هذه الظاهرة برأسها ببحثٍ آخَر.

الظاهرة السابعة: اللغة الأُمُّ واللغات الأجنبية

ومدار الحديث هنا عن اللغة الأم ولغات دول الاغتراب، إنَّ الاحتلال والانتحال الألسني مسألة معقَّدة في المهجر والبلاد المحتلَّة، فاللغات الأجنبية منفِّرة للأطفال من التعليم قبل إتقانها، أمَّا بعد إتقانهم لها فالمصيبة الأعظم أنها تغدو كارثةً على اللغة الأم، وقد تمسخ الهويةَ الوطنية وتضرُّ بالبرمجة اللغوية الأُمّ عند التفكير ومعالجة العلوم ودراستها وتدريسها، وأشدُّ وأنكى ما تُرَى هذه المعضلة التعليمية في مدنٍ تشهد مسخًا قوميًّا وحروبًا عرقيَّة، نعم إن من سنن الله في الكون الإحياء والإماتة والبعث والتدافع والسببية والصيرورة، وهي سنن تكاد تكون ضربة لازب لكل أفراد الوجود والألسنُ أحدُها، وتلبس تلك السنن غالبا لباس الأسباب على يد البشر، لكن أنْ تُقَمَّص بها على أيديهم بالسطو والإرهاب كما يجري في مدارس شمال شرق سورية فتلك مسألة لا تأتي في سياق سنن التغيير بل هي احتلال مستهجن مستقذَر.

لقد اندثر من الأقوام ما لا يحصى وإن قُلْت ومن اللغات نحو ذلك فلعلك تصيب، وتغيرت وتطورت أنماط الحياة منذ بدء الخلق وكذا ألسنتهم، ولهذا كله عوامل لا تنكر، وجلّها يعود إلى السنن المذكورة، وهذا يبرهن أن على أهل كل لسان أن يحفظوا لسانهم أن يحور أو يغور أو يبيد، وللمحافظة عوامل مردها إلى تلك السنن أيضًا؛ والعقل يحار في معضلة الهيمنة - العولمة - اللغوية: أتراها تؤول إلى سنة التدافع أم الإماتة؟ ولعل لمفتاح حلّ هذه الأحجية وفكِّ رموزها أسنانًا، أكبرُها دقةً تشخيص الواقعة ليكون العلاج أكثر ملاءمة ومطابقة، وعمدتها سبر عوامل انقطاع الألسن أو إعجامها، ونقدِّم لذلك بمقدِّمة ربما تنير هذا الجانب المظلم:

يوم حطَّ المحتل الأجنبي عصا الترحال وُلِد المنتحِل العربي، لم يَدْعُ الأولُ الثانيَ لاستبدال اللسان الأعجمي بالعربي، لكنه استدعاه بل استعداهُ؛ وَضَعَه بين يدَي ثقافة غازيةٍ وعلومٍ باهرة، فاقتنع الثاني أن لا وعاء لهذه الثقافة والعلوم ولا طريقَ لتعلُّمِها وتعليمِها إلا العجمة، وبينما كان يرى الثقافةَ والعلومَ العربية قد اصفرَّت فغدت حطاما بل حصيدًا كأن لم تَغْنَ بالأمس، حكم على وعائها _لسانِها_ بمثل ذلك أيضًا، فلم يعد يرى فيه لغة علم ولا تعليم؛ والمحتل والمنتحل شريكان في هذا العدوان (كل الدلائل تثبت أن الفرنسية حققت في مرحلة استقلال المغرب من الانتشار والتوسع ما لم تكن تحلم بتحقيقه في مرحلة الاحتلال... وبعد الغزو العسكري هناك أسلحة جديدة ستدخل الحلبة وتقود المعركة، وهي اللغة والفكر الفرنسي) كما ذَكَر في "مَغْرب الغد" الضابطُ الفرنسي بول مارتي.

وعلى يد المحتل والمنتحل ولد الانحلال من رحم هذا الغزو الفكري واللساني، ومعنى الانحلال اللغوي: التفكّك والانتقال من المؤتلف إلى المختلف، ومن الصحيح إلى الفاسد، فاضمحلت لغة العلوم والتعليم والإعلام وانحلت، وتآكلت الهوية في بلاد المغرب مثلا والخليج على دربِهِ، ذلك أنّ حروبَ اللغة حروبٌ على الوطن والشعب وعلى الماضي والحاضر والمستقبل، أي على الهوية بمعناها الشامل للخصائص الثقافية والحضارية والعرقية والجغرافية والتاريخية والدينية، فاللغة ليست لسانًا فحسب بل هي هويّة ثقافيّة ووسيلة التّعليم الأمِّ ووعاء الفكر ومستودع التّراث والخصوصيّات.

وتضاعفت مشكلة الهجين اللغوي باغتراب العرب ولجوئهم اليوم وبوفادة الأعاجم إلى الخليج أمس، فهؤلاء العرب وإن عرفوا لغتهم واستقام لسانهم؛ رطن فكرهم واعوجّ لأنَّ لغة التَّعليم أجنبية، فتراه يفكر بها ويترجم ما يفكر به إلى لغته الأم، وقد يفر من أمّه إلى تلك إذا ما أقفر حضنها فلم يجد في معجمه ذلك المصطلحَ أو المعنى الأجنبي القائم في ذهنه.

وفي مزاحمة الأعاجم وثقافتهم ولغاتهم الأوردية والإنجليزية والفارسية للعربية تهديدٌ بِهَتْك النسيج المجتمعي والثقافي، وهذا فيه ما فيه من زعزعة الأمن والسلم الأهلي والعدوان على العقل العربي ولغته التي كانت بالأمس لغة العلوم والتعليم العالَميَّة؛ وخير من وفى البحث حَقَّه الأستاذ محمود شاكر في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، يقول سارتون: (كانت اللغة العربية من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كائن إذا أراد أن يلمَّ بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية)( ). وأبلغ من ذلك قول العلامة بريفلوت عن روجر بيكون أشهرِ عُمَداءِ نهضةِ الغربِ: (لم يكن بِيْكُون إلا رسولًا من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يملّ قط من التصريح بأن اللغة العربية وعلوم العرب هما الطريق الوحيد لمعرفة الحق)( ).

وما عليك لحلِّ لغز روجر بيكون وزمرتِه والنهضةِ الغربيةِ سوى التحليلِ والتدبُّر والتأمُّل في حالنا اليوم وحالهم يومئذٍ وأنت تقلِّبُ وجوه المعاني عند قراءتك بشغفٍ وعمقٍ لكتابِ (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، وليكن على ذُكْرٍ منك أنَّ طريقةَ نهضتهم بدأت بترجمة علومِنا وبحثِها ودراستها على مدى عقودٍ لقد اكتسب العلم الغربيُّ مادةً أدَّت إلى إثرائه بدرجة لا نظير لها بفضل الترجمات العربية عن الإغريق، وكذلك بفضل الإنتاج العلميّ المستقل للمسلمين( ) وإنَّ انتعاشَ العلم في العالم الغربي سببُه الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللّاتينية لغة التعليم الدولية آنذاك( )، وهي هي الطريقة ذاتها التي قامت بها نهضة المسلمين الأوائل يوم أن ترجموا علوم الآخَرِين وعلَّموها للأجيال فبحثها كل جيل وفق معطيات عصره وبذلوا المهج في تطويرها؛ فالحضارات تتلاقح وليس صحيحًا أنها تتصارع أو تتناطح، ولا أدلَّ على ذلك من صنيع العلامة الموسوعي الفيزيائي الفلكي الفيلسوف الكندي أبي يوسف يعقوب بن إسحاق صاحب المأمون، لقد قرأ العلوم المترجمة عن اليونانيّة والفارسيّة والهنديّة والسّريانيّة، وأتقن اليونانيّة والسّريانيّة، وترجمَ هو وفريقُهُ البحثيُّ منها جمًّا غفيرًا حتى صارت مكتبته تضاهي أعظمَ مكتبةٍ يومئذ (مكتبةِ بيت الحكمة) البغدادية، وصارت مكتبته مركزًا بحثيًّا وجامعةً تراثيَّة( ).

هذه هي الظواهر السبع الأكثر وضوحًا في حدود الدراسة، ولكلٍّ منها تفسيراتها وأسبابها وحلول مقترحة تساعد على تجاوز عقباتها، وإنَّه ليجدر بمراكز البحوث المعنيَّة بالثورات والحريّة والكرامة أنْ تولِي هذه الظواهر قدْرًا من العناية البحثية يلائم أثر كلٍّ منها في التعليم.

خاتمة البحث ونتائجه وتوصياته

هذا وما كان لثوّارِنا الجامعيين بل ما ينبغي لهم أن تخمد جذوة نشاطهم وهدير أصواتهم، أو أن يرفع بعضهم عقيرتَه بفوات الأوان والْعَجْزِ عن تقديم برامج لتعليم الجيل المغدور؛ فيَهِنَ ويوهِنَ عزيمته وعزم الآخرين، فليكن التعليمُ والتربيةُ والتَجَنُّسُ بجنسيَّات أخرى من أجل الاشتراك والاختراق للمؤسسات والمحافل المحلِّية والدولِّية خطَّتَنَا البديلة لهزيمةِ الاستبدادِ وإدانةِ أنصاره الدَّوْليين وإدراجِهم في سجلات التاريخ السوداء، ولنُصرةِ شعوب أخرى تتوق للحرية في قابل الأيام، ولتعليم الأمم المسحوقة ألفَ باء الحرية والوسائلَ العلمية السلمية للانعتاق من الاستبداد، ولتعريفهم أبجديَّاتِ العبوديَّة لربِّ الملوك والمماليك وأنَّها لا تكون لأحدٍ سواه.

ويَا لَهُ من تشريف! وما أجلَّه من تكليف! أن يقتضي منك إيمانك بالحرية والانعتاق من العبودية لغير الله: أنك كلما فرغتَ من برنامجِك اليوميِّ تهبُّ فتنصَب لتعليم الجيل المغدور وَفْقَ خطَّةٍ منظَّمة، وتنتصب بكل إباء لبناء مستقبلٍ تحكمه مبادئ حكيمة للنهوض والعطاء.

ولك أن تستهدي بمنارات وقيم سامقة في سبيل نهضة أمتنا، ولنقبس من جذوة منشورات الدكتور عبد الكريم بكار على صفحته قبسًا لعلَّ فيه إلى هذا السبيل هدًى:

_ حين يشعر إنسان بأنه حر يكون قد حقَّق نصف وجوده، ويحقق النصف الثاني حين يُنجز ما يجب عليه إنجازه، ومعظم الإنجازات الكبرى مدينة لأمرين مهمين: الاهتمام والتنظيم، فالاهتمام يحملنا على اتخاذ موقف، والتنظيم يرفع درجة الكفاءة في توظيف الموارد المتاحة، ولا يعبر عن نوعية شخصيتك ولا يوضح مقدار عظمتك شيء كاهتماماتك وأولوياتك، فالعديد من الأشخاص يملكون كل مقومات العظمة لكنهم لم يصبحوا عظماء لأن اهتماماتهم تافهة، وفي هذا خسارة كبيرة لهم ولنا.

_ الشعوب المتعلمة تسهل قيادتها ويصعب سوقها، والشعوب الجاهلة يسهل سوقها وتصعب قيادتها؛ فالعلم يؤسس للتفاهم.

_الوقت يضيع سدى إذا لم نضغط عليه بآمال مستقبلية، فالطبيعة تكره الفراغ، وإذا لم يمتلئ القلب بالأفكار العظيمة امتلأ بالهموم والتطلعات الصغيرة، وإذا لم يمتلئ العقل بالأفكار النيرة عششت فيه الأوهام، ولذلك فإنه لا خيار أمامنا سوى سلوك طريق النبلاء والنابهين.

وأهمُّ نتائج البحث:

1 _ مركزيَّةُ العلم والتعليم في التغيير والبناء.

2 _ ترشيدُ الوعي المجتمعي بالفرق بين دولتين: دولةٍ مرغوب فيها وأخرى مرغوب عنها، والكشفُ عن جوهر هذا الفرق في ضوء المدى الحقيقي له من خلال هذه الثلاثيةِ: أ_ عنايةِ الأمة بالعلم والتعليم، ب _ وتأسيسِ نهضتها عليه ج _ وسخائِها في الإنفاق على طلابه ومؤسساته.

3 _ حصر العوامل المكتسبة والقهرية المؤثرة في مشكلات التعليم بين عهدين.

4 _ اقتراح بدائل متاحة لحالات كانت أو افترضت عقباتٍ في طريق التعليم في هذه الحِقبة.

وفي لُجَّة أفكار هذا البحث وقضاياه المكثَّفة الجديرة بدراسات وأبحاثٍ معمَّقة يتسلل شعاع الأمل المعقود على هذا الجيل ليعود فَيَبْنِيَ من جديد جيل الغد المنشود، وما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الولود إلى إبداعِ المدنية من جديد؟ إنَّ فترات الازدهار والانحدار مرَّت على جميع الأمم كما يرى رِيْنان( )، وهذا ليس بمستغرَب من أبناءِ أمَّةٍ قيل عن أسلافها: (كل مستشفى وكل مركز علمي في أيّامنا هذه إنما هو في حقيقة الأمر نُصُبٌ تذكاري للعبقرية العربية)( ).

الحلقة الثانية هنا 

المصدر: مجلة مقاربات ، العدد الثاني 

المجلس الإسلامي السوري 

---------------

(1) أحمد علي الملا: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، دار الفكر ط2، 1401 هـ/1981، ص110، 111، نقلا عن سارتون: المدخل إلى تاريخ العلوم.

(2) أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، دار الأنصار، 1409ه، 4/710.

(3) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، 184 نقلا عن بلسنر: العلوم الطبيعية والطب، دراسة منشورة بكتاب تراث الإسلام، إشراف شاخت و بوزوروث، ص79،81.

(4) راغب السرجاني: العلم وبناء الأمم، مرجع سابق، ص184 نقلا عن يبدي تومبسون Yhompsonj/j/w/The Medioval Lirary N.Y Hafner publishing company 1976 p236

(5) رحاب العكاوي: الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية، دار الفكر العربي، 2000، ص16.

(6) أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، مرجع سابق، 8/173.

(7) زيغريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، دار الآفاق الجديدة، ط3، بيروت، 1985م، ص354.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين