هل الشرعيون من أسباب انتشار ظاهرة الإلحاد والردة في الأمة ؟ (11)

حوار مع عدد من الشرعيين (11)

كتب أحد الأساتذة الشرعيين وهو الدكتور محمد أبو زيد هذه الكلمة :

قال مُحدِّثي: هناك ظاهرة ردة وإلحاد في الدول الإسلامية.

قلت له: نحن الشرعيون سببها الرئيس، لو كنا قدوة وتخلّقنا كما أمرنا الله، وبلّغنا الدِّين بثقافة هذا الزمان بعد أن ندرك واقع الناس وظرف الأمة.. لما حصل ما حصل.

وقد نشرنا في الحلقات السابقة عددا من التعقيبات والمناقشات، ووصلنا هذا التعقيب الواسع المفصل من الأخ الكريم الدكتور محمد عوام ، فنفرده بالنشر.

الشرعيون والمتشرعون، والسلفيون والمتمسلفون أو السلف والتلف، علماء القرآن وعلماء السلطان، وغيرها من الأسماء التي تحتاج إلى بيان وتوضيح. وقد يأتي شيء من ذلك في درج الكلام عن هذا الموضوع.

في نظري هذا السؤال يحتاج إلى تفكيك وتحليل وتركيب، كما يحتاج إلى دراسة تاريخية استقرائية، حتى نستطيع من خلالها تبيان حقيقة الدعوى، وهذا يحتاج غير يسير من الوقت للبحث في صدق الدعوى أو أنها مجرد كذب وافتراء، يراد منها خلخلة عقول الشباب وتنفيرهم من الدين.

ومهما يكن من أمر فأنا أريد بتوفيق الله تعالى أن أجيب عن السؤال المثبت آنفا بما يلي:

أولا: الشريعة كلها رحمة: أحكامها وشرائعها وأخلاقها ومعاملاتها، ومبادئها، فكل شيء فيها مبتدؤه الرحمة، ومنتهاه الرحمة، وهنا نستحضر تلك الكلمات الناصعات الواضحات التي قالها ابن القيم رحمه الله في حق الشريعة، قال: "مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل..." إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج2، ص3.

وقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة جمعاء، حتى للحيوانات، وهذا القصد باديا للعيان لمن اطلع على سيرته صلى الله عليه، وخبر سنته، فصدق فيه قوله عز وجل مبيِّنا هذا المقصد من إرساله:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [ الأنبياء: 107] وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما انا رحمة مسداة". فشريعته كلها منبع الرحمة وقصدها الرحمة.

فإذا تشرَّب الدعاة والعلماء والمفكرون هذا المقصد، وعملوا به وفعّلوه في سلوكهم ومجتمعهم، فلا جرم لن يكونوا بإذن الله من المتسبِّبين في الإلحاد.

ثانيا: لا إكراه في الدين: هذا مبدأ ينبغي أن يكون واضحًا لا غبار عليه، الدين مسألة قناعة قلبية ووجدانية، لا ينبني على الإكراه، ولا يمكن أن يسير في المجتمع فيفتح القلوب والعقول بالإكراه وإعمال السيف، ومحاكم تفتيش العقائد. قال سبحانه وتعالى: { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[ البقرة: 256]، فهذه الآية من الكليَّات الكبرى لا يدخلها نسخ، ولا يجري عليها تخصيص عند المحققين من العلماء وهم الجمهور. لكن قد يفتح القلوب والعقول بالحوار الهادئ، والحجة البينة، والجدال بالتي هي أحسن دون عصبية.

وعكس هذا قد ينفر الناس من مناصرة الدين، أو يفضي ببعض الشباب إلى الإلحاد عن جهل منهم، من هنا أقول: إنَّ الدين الإسلامي ليس في حاجة إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكره الناس على الصلاة وإغلاق دكاكينهم ومتاجرهم، وتفرض على المارة أن يدخلوا المسجد رغما عنهم، فهذا السلوك نعم قد يؤدي ببعض الشباب إلى الإلحاد.

وهنا أسوق واقعة حدثت لأحد الإخوة الأعزاء وهو رجل علم وثقافة، كان مقيما بالكويت مدة، فقرر مع أسرته القيام بعمرة، فأثناء رجوعه من العمرة وكان بإحدى المدن السعودية وقف ليشتري بعض حاجاته، فأذّن المؤذن للصلاة، فوقف عليه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يرغمونه على دخول المسجد، فوضح لهم بأنه مسافر وقد جمع الصلاة، لكن مع ذلك لم يستمع إليه أحد منهم، وبالغوا في إرغامه وتهديده. فهل هذا سلوك إسلامي حضاري إنساني أخلاقي، نعم مثل هذا قد يؤدي بالشباب إلى الإلحاد. فما بالك ببعض الفتاوى المنحطة البعيدة عن روح التحضر وروح الإسلام، مثل منع المرأة من قيادة السيارة، وهي فيما مضى كانت تسوس الفرس وتقود الجمل، فما الفرق بينها وبين أخيها الرجل، وأين الصعوبة هل في سياقة كائن حي كالفرس والجمل والحمار أم قطعة من حديد؟

إننا أمام أزمة حقيقية، أزمة معرفية عميقة الجذور، تسبَّب فيها بعض العلماء الدراويش لا علم لهم بالواقع، ولا يعرفونه البتة، تحوطهم حاشيتهم وكتبهم، وهم في سبات عميق. والله المستعان.

لكن المجتمع المسلم كله مطالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر}، والمقصود بالمنكر هو ما تنكره الأمة ووردت بشأنه نصوص قطعية، أما الأمور الخلافية التي تتنازعها الأدلة، وتختلف فيها أنظار العلماء، فهذه لا تدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالغناء والموسيقى وغيرها من القضايا. 

ثالثا: علماء السلطان وعلماء القرآن: من تأمل القرآن الكريم، وتدبر آياته حق التدبر خرج بهذه النتيجة، أن العلماء ينقسمون إلى قسمين كبيرين: علماء القرآن، وعلماء السلطان. 

فعلماء القرآن هم العلماء الربانيون الذين يسعون إلى إصلاح المجتمع، ونشر الفضيلة فيه، وحثه على الخير، ولا يخافون في الله لومة لائم.

وهذا الصنف حينما يمد جسوره إلى الشباب خاصة، متعرفًا على أحوالهم، وما يختلج في صدورهم، ويدور بخلدهم، فتزداد بينهم العلاقة متانة وقوة، فقطعا لن يتسرَّب الإلحاد إليهم، وكلما علقت بنفوسهم شبهة إلا ووجدت أسنّة العلماء قامعة لها بالحجج النيرات، والبراهين الواضحات.

وعلماء السلطان شرٌّ مكانا وأضل سبيلا، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويأكلون بدينهم دنياهم، ويتمعشون بالدين بيعا وشراء، فهؤلاء شوكة في حلق الأمة، يفسدون ولا يصلحون، شأنهم في ذلك شأن رهبان وأحبار بني إسرائيل والنصارى، يتلون الكتاب ولا يعملون به { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }[ البقرة: 44]

فهؤلاء يعطون صورة سيئة عن الإسلام، بالأمس يفتون بحرمة سياقة المرأة للسيارة واليوم يحلونها، واليوم الفن مباح عندهم، وبالأمس حرام، دون تمييز، ما هذا التلاعب، فهؤلاء يتسبَّبون فعلا في الردة ونشر الإلحاد، وفعلا هذا ما وقع. ثم إن السلطة السياسية المستبدة تسعى دائما، عبر التاريخ، أن تجد لها مقرَّبين من العلماء، يباركون أعمالها، ويدافعون عن أباطيلها، مثل ما كان لفرعون من السَّدَنة والسَّحَرة يستغلهم ويوظفهم في استعباد الناس وتضليلهم. فكيف يثق الشباب في أمثال هؤلاء، وهم المسيطرون على الإعلام ومباركة ذوي السلطان.

فانظروا إلى ذلك الشقي –وهو معروف- الذي يفتي بقتل الأبرياء المتظاهرين سلميا، ويؤيد ويناصر الطواغيت على حساب حقوق الأمة، من أجل منصب زائل، ومال متروك، فهؤلاء وأمثالهم فعلا قد يتسبَّبون في نشر الإلحاد والردة، لأن الشباب لا يطيق أن يرى مثل هؤلاء يتكلمون باسم الإسلام وهو منهم براء.

والحمد لله أن أمثال هؤلاء لا قيمة لهم في المجتمعات الإسلامية، لأن أهل الحق، علماء القرآن لهم بالمرصاد فيكشفون زيفه كشفا، ويفضحونهم فضحا، وهذا هو المطلوب، حتى يطمئن الشباب بأن هناك فئة من العلماء البررة، لا ينساقون للطواغيت، ولا يركنون إليهم.

رابعا: صناعة الإرهاب: لا يخفى أن الإسلام ينمو بقوة في جوِّ الحرية، وقد يتراجع رصيده الدعوي في جو القمع والإرهاب الدولي والتسلط الاستبدادي. لذلك وجدنا في السنوات الأخيرة تنمو ظاهرة الإرهاب بسرعة، وتصنع على أعين الاستخبارات العالمية والمحلية، وهذا ما يصرح به بعض الساسة، ويدركه أي مسلم بحسه ويقظته، وخير دليل، هو وجود (داعش) وأمثالها من المتخصِّصين في تدمير وقتل وتشريد بلاد المسلمين، على أعين من يزعمون أنهم يحاربونها، فهذا النموذج المصنوع والمصدَّر لزلزلة الاستقرار في الدول العربية، وتصدير عبره صورة مشوهة للشعوب الغربية عن الإسلام. كل ذلك يحصل حينما أحس ساسة الغرب والصهيونية العالمية، بقوة المد الإسلامي في أوروبا وغيرها، حتى بدؤوا يتحدثون عن أوروبا الإسلامية، وخطر المد الإسلامي على أوروبا.

فلم يتوانوا عن صناعة الإرهاب ومسخ صورة الإسلام العظيمة، وطبعا صورة داعش وأمثالها قد تدفع بجماعة من الشباب إلى النفور من دينه، في ظل التعتيم الإعلامي للفكرة الإسلامية الأصيلة، وفي ظل محاربة المد الإسلامي المعتدل.

والمشكل الأكبر حين يتصدى دعاة الفتنة مشهد الفتوى، فيلوون أعناق النصوص، ويخرجونها عن مقاصدها وملابساتها. 

المهم عندي أن صناعة الإرهاب المباركة بفتاوى تضليلية قد تزيد الوضع حدَّة، فيفقد الشباب ثقته في الدين، لأن الشباب ليست لدى معظمهم القدرة على معرفة الدين معرفة جيدة مبنية على قواعد وأصول ومقاصد.

وهنا ينبغي أن يأتي دور العلماء في التصدِّي للأفكار الضالة والغلو والتشدد. فالأمة لم تقع فيما وقعت فيه، ولم تحل بها النكبات إلا حين استفرد أهل السلطان بالحكم عن علماء القرآن.

وختاما أرى أنني لم أستوف هذا السؤال حقه، ولم أكمل جميع حيثياته، ولكن أقول: إن الشرعيين الحقيقيين لم يكونوا ولن يكونوا سببًا في إلحاد الشباب أو ردته أو تطرفه، وذلك لما يملكون من أدوات علمية شرعية ومعرفية تمكنهم من نشر دينهم باعتدال ووسطية، وتفاهم مع الشباب.

وتظهر هذه جلية واضحة لاشية فيها، أن معظم قادة التطرف لم يتخرجوا من الدراسات الإسلامية ولا كليات الشريعة، لا من القرويين، ولا الزيتونة، ولا الأزهر، ولا غيرها، بل تخرجوا من كلية الهندسة والطب وغيرها، وهذا ما يؤكده التقرير الأمريكي نفسه. وقد سافر السفير الأمريكي إلى العلامة مصطفى بنحمزة بمدينة وجدة ليسأله عن سبب التطرف، فردَّ عليه قائلا: اسأل من أغلق القرويين وابن يوسف والزيتونة وغيرها، فهؤلاء هم الذين تسببوا في التطرف والإلحاد. واليوم كما كان بالأمس يصدر الإرهاب والإلحاد والزندقة إلى العالم الإسلامي، وتتلقى بعض الجمعيات العميلة أموالا باهظة، باسم الدعم الثقافي والاجتماعي. {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.

والله المستعان.

الحلقة العاشرة هنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين