هل الشرعيون من أسباب انتشار ظاهرة الإلحاد والردة في الأمة ؟(3)

حوار مع عدد من الشرعيين(3).

كتب أحد الأساتذة الشرعيين هذه الكلمة :

قال مُحدِّثي: هناك ظاهرة ردة وإلحاد في الدول الإسلامية.

قلت له: نحن الشرعيين سببها الرئيس، لو كنا قدوة وتخلّقنا كما أمرنا الله، وبلّغنا الدِّين بثقافة هذا الزمان بعد أن ندرك واقع الناس وظرف الأمة.. لما حصل ما حصل.

وقد نشرنا في الحلقة الأولى والثانية بعض التعقيبات، ونتابع نشر تتمة التعقيبات:

كتب لي أحد أبنائي الفضلاء من طلبة العلم الشيخ أحمد المكي جوابا مفصلا أكتفي به في هذه الحلقة من الحوارات: 

لو كان الشرعيون - كظاهرة- سبباً للردة والإلحاد لانقرض الإيمان أو كاد، ولكن للمعصية ومخالفة الشرع شؤم قد يتعدى صاحبه إلى غيره، وهي من أهل العلم والدين أقبح وأشأم وأخطر، وعلاج النفس لا يكون إلا بإقامة العدل عليها بلا محاباة ولا ظلم، ولم يكن الظلم والبغي -ولا يكون- نافعاً ولا حسن العاقبة في معاملة النفس - شخصاً أو جماعة-، وتسبب الإنسان في أن يخطئ غيره باختياره من غير إكراه لا يبرِّئ المخطئ المختار غير المكرَه، بل هذه حجَّة الجبان أو المحابي له، والتسبُّب في خطأ المخطئ إنما يكون مذموماً إذا وقع بعلم واختيار من فاعله، وأما ما يقع بسبب خطأ الاجتهاد من متأهِّل أو عارض بشري حتمي فالله أرحم وأعدل من أن يحمِّل عبده وزراً هو فيه معذور في شرعه، ولئن كان المجاهد غير معصوم فإنه إن أخطأ بسهو أو تأويل يعذر به غير مأثوم، فخطؤه أثناء الجهاد منه ما هو فيه معذور غير مأزور، وإن صدر عن اجتهاد معتبر منه فهو على ذلك مأجور، وما كان فيه من خطأ هو فيه موزور فعلى مراتب فيها الصغير وفيها الكبير، أما التولي يوم الزحف أمام عدو الله ورسوله ودينه لا تحيزاً إلى فئة من المؤمنين يعضدهم ويعتضد بهم في جهادهم فهو من الكبائر، بل من أكبرها وموبقاتها.

ومقاومة الشر والكفر والإلحاد والفجور وظاهر الإثم وباطنه وكبيرِهِ وصغيرِه كله من الجهاد في سبيل الله الذي لا يستهان بخطر التولي عنه ولا سيما عند حمْي الوطيس والتحام الصفوف كما هو الحال الآن في كل ميدان، وقد قطع نبينا صلى الله عليه وسلم طمعنا من أن نحصي الموافقة والطاعة حتى لا نخالف ونعصي حتى في مقام الأمر بالاستقامة، فقال: "استقيموا ولن تحصوا" وقد جعل غايتها في حقنا: التسديد والمقاربة لها، ورتب على ذلك البشارة، وأمره صلى الله عليه وسلم بالتسديد والمقاربة ممَّا تواتر عنه.

فمن انتظر من الناس خاصة أو عامة متدينين وعلماء أو غيرهم شيئاً فوق التسديد والمقاربة فقد انتظر محالاً في الواقع غير مطلوب في الشرع، وكما يجب إنصاف الناس ولو كانوا كفاراً أو ملحدين فلا نحملهم أوزار غيرهم، فكذلك أهل العلم والدين بشر مثلهم لا يجوز أن يظلموا ويُحمَّلوا أوزار غيرهم، وكما تطلب محاسبتهم على أخطائهم كسائر الناس فكذلك يجب إنصافهم كسائر الناس، إن لم نأخذ بالأمر بإقالة ذوي الهيئات عثراتهم ما داموا ذوي هيئات معتبرة شرعة كما هي معتبرة في سائر الأعراف الإنسانية المعتدلة؛ لأن تسويتهم بمن ليس مثلهم حيف، وذووا الهيئات حقاً يفعل فيهم الحياء وصيانة أنفسهم ومرواءتهم من التأنيب ومحاسبة الذات ما لا تفعله أشدُّ أنواع العقوبات الخارجية، فهم خصماء أنفسهم، ومثل هذه الإقالة لعثراتهم بعد أن تتَّضِح له توقظ فيهم جذوة ذلك الحياء الممض المداوي لأسباب العثار، فكانت هذه الإقالة من صميم علاجهم، ومن الرفق الذي ما نُزع من شيءٍ إلا شانه، فإنهم لو عومُلوا بضدِّ ما يليق بحالهم ربما أيقظ فيهم بعض رعونات البشريَّة الكامنة فيهم المطمورة في أطواء محاسنهم، فنكون بإيقاظها عوناً للشيطان وجنوده من الثقلين عليهم، ويزداد المحذور الذي لأجله استسغنا فعلنا هذا معهم فنكون قد أخطأنا وتناقضنا وظلمناهم وظلمنا أنفسنا، وظلمنا غيرهم وغيرنا إن تطور شرُّ ذلك فيهم حتى تعدَّى إلى غيرهم، ونكون قد وقعنا في عين ما أخذناه عليهم وعاقبناهم بسببه، فإن كان بعض تصرفات طوائف من أهل العلم والدين سبباً في نقص الإيمان أو عدمه بالإلحاد، فالتسبُّب في وقوع ذلك التسبُّب منهم أو الإصرار عليه، أو زيادته لا يقلُّ شراً ولا قبحاً عنه إن لم يزد عليه.

التسبُّب في وقوع ذلك التسبُّب = هذا التسبُّب يقع من طرف ثالث يحتسب أو يعترض على أهل العلم والدين فيما يراه تسبباً منهم في الإلحاد ونحوه (وقد لا يكون هذا التسبب واقعاً فعلاً) لكنه يحتسب أو يعترض عليهم بطريقة قد تتسبُّب في استخراج تسبُّب حقيقي منهم في الإلحاد باستثارتهم أو إشعارهم أن هناك من يدافع عن الملحدين من بني جلدتنا ونحو ذلك فيخرج بعض أهل العلم والدين لأجل ذلك عن طورهم لغلبة الغيرة والحمية مثلاً فيقع منهم تسبب فعلي في التنفير من الدين جزئياً أو كلياً بالإلحاد.

وقد يكون المعترض على أهل العلم والدين سبباً - بسوء أسلوب اعتراضه أو سوء قصده - في إصرارهم على التصرفات المسبِّبة للإلحاد أو المغذية له وربما دافعاً لمزيد من الغلو .. فيكون هذا الاعتراض غير الحكيم وقوداً لغلوهم الذي يزيد الإلحاد وبهذا ينضم المعترض إلى منظومة دعم الإلحاد من حيث أراد، أو توهم، أو أوهم غيره أنه يريد مقاومته أو تصحيح مقاومته.

والخلاصة: كل الناس دعاة ومدعوون في نفس الوقت، ولا بد أن يراعى فيهم من حيث هم مدعويين ما يراعى في مقام الدعوة من الرفق والتسكين وعدم التنفير وإن كان هؤلاء المدعويين (دعاة) أو شيوخاً أو علماء أو مجاهدين أو متدينين بأيِّ وصف عرفوا .. فالطبيعة البشرية لا تقبل الدعوة إلا وهي دعوة حقاً، أما الأمر والنهي فإنما تنصاع فيه لذي سلطان ويد قاهرة، ولذا كان الأمر والنهي لذي السلطة أو من كان منها ومن أهلها بسبيل، والأمر والنهي بدون ذلك إما عبث وإما مهيج عكسي واستعداء من فاعله على نفسه يثير به المأمور المنهي .. طبعاً هذا حال الأمر والنهي بالكلام قولاً أو كتابة أما التغيير باليد وما فوقه فيحتاج إلى شروط أخرى؛ لئلا يكون هذا التغيير مهيجاً عكسياً يؤدي إلى استئصال شأفة الدين وأهله ولو في نطاق معين كما هو متكرر ومشاهد مع بالغ الأسف.

فنسأل الله كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشيتك في الغيب والشهادة.

الحلقة الثانية هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين