مؤسسات الجهاد والدعوة في الدولة الإسلامية (2)

ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن العدوان الممنوع والذي يبرر الدفاع عن النفس الفردي والدفاع عن الغير وهو ما يسمى بـ (الدفاع الجماعي). واسمحوا لي أن أعرض أولاً لموقف القانون الدولي في هذا الموضوع ثم أعقب بعد ذلك ببيان وجوه التقارب بين هذا الموقف وما نفهمه من المنظور الإسلامي في هذا الموضوع:

[العدوان الذي يبرِّر الدفاع]

أولاً: العدوان الذي يبرر الدفاع أمر طال بحثه، ولم يصلوا بعد إلى تعريف محدد له، والسبب في ذلك هو رفض الدول الكبرى لمفهوم العدوان كما تحدده اللجان الفنية، لأنها تجد أن تلك التعريفات تنطبق على كثير من تصرفاتها، وقد تكرَّر ذلك أكثر من مرة وفي كل مرة كانت الدول الكبرى تنسحب من الالتزام بالتعريف الذي تصل إليه اللجان الفنية. ومن خلال المحاولات المختلفة التي بذلت في تعريف العدوان وتعريف بعض الجرائم الدولية يمكن أن نصنف بعض حالات العدوان المتفق على تعريف محدد لها:

[بعض حالات العدوان المتفق على تعريفها]

أ – حالة العدوان المباشر: وهذه تشمل العدوان المسلح على أراضي الدولة نفسها، وهذه هي الحالة التقليدية حيث يكون الجهاد في الإسلام فرض عين. ثم يدخل ضمن هذه الحالة: الاعتداء على رعايا الدولة في دولة أخرى. ثم يأتي التهديد بالعدوان دون وقوع العدوان بالفعل، وكذلك تدبير العدوان والإعداد له ولو سراً، فهذه الحالات الأربع تقع ضمن مفهوم العدوان المباشر.

ب – حالة العدوان غير المباشر: ويشمل مباشرة أو تشجيع نشاط إرهابي داخل دولة أخرى موجه إلى الدولة التي نتحدث عنها، وكذلك تشجيع وإيواء ومعاونة ثوار دولة أخرى.

جـ - العدوان الاقتصادي: وهذه صورة جديدة تشمل ما يسمى بتهديد كيان الدولة الاقتصادي من مقاطعة وحصار بحري وغير ذلك.

د – تهديد المصالح الحيوية.

هـ - وأخيراً هناك مفهومان حديثان هما العدوان الفكري باستخدام وسائل الإعلام المختلفة ضد الدولة.

و – انتهاك حقوق الإنسان وهذه الحالة الأخيرة تبلورت بعد صدور الإعلان العالمين لحقوق الإنسان.

[صور استخدام القوة حسب ميثاق الأمم المتحدة]

إذا جئنا إلى ميثاق الأمم المتحدة نجد أن هناك صوراً محددة لاستخدام القوة. وأول هذه الصور هي إجراءات المنظمة الدولية وفقاً للباب السابع من الميثاق، وهذه الصورة لم يتم تطبيقها حتى الآن، لأنها تتطلب استخدام قوات للأمم المتحدة تشرف عليها هيئة أركان حرب مكونة من رؤساء أركان حرب الدول الخمس الكبرى، وفي فترة الحرب الباردة الماضية لم يكن ممكناً إنشاء هذه الهيئة.

[عن المادة 51 من الميثاق]

ثم تأتي المادة 51 من الميثاق التي تتكلم عن الدفاع الشرعي الفردي والجماعي والتي تنص على أنه في حالة غياب هذه الإجراءات التي تقوم بها المنظمة الدولية لا يوجد ما يمنع الدول من أن تقوم بالدفاع الفردي والجماعي.

وامتناع المنظمة الدولية عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لصد العدوان قد يكون سببه تعطل في آلية جهاز الأمم المتحدة نفسه، كأن يعجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار بسبب استعمال حق الفيتو أو غير ذلك من الأسباب.

وأحد إشكالات هذه المادة أنها تشترط حدوث عدوان مسلح، أي الحالة الأولى فقط من الحالات التي ذكرتها، بمعنى أنه إذا لم يقع عدوان مسلح فإن نطاق تطبيق الدفاع الشرعي والجماعي لا يكون متاحاً. 

[شرط اللزوم والتناسب!]

أما إذا كان هذا النطاق متاحاً فهناك شرط اللزوم وقاعدة التناسب: شرط اللزوم بمعنى أن يكون اللجوء للدفاع الشرعي لازماً لدفع الاعتداء... وقاعدة التناسب يقصد بها أن تكون الإجراءات التي تتخذها الدولة التي تدافع عن نفسها متناسبة مع العدوان الذي وقع عليها، وهذا أشبه ما يكون بالتناسب الذي يشترط في حالة الدفاع الشرعي في قانون العقوبات.

[منفذ آخر في المادة!]

المادة 51 تفتح منفذاً آخر وهو إذا تعطل جهاز الأمم المتحدة عن القيام بواجبه – كما حصل في البوسنة والهرسك – فإن المسألة تعود برمتها إلى وضع القانون الدولي العام كما كان قبل الميثاق، والوضع هنا يسمى بـ (حماية الذات) وليس بالدفاع الشرعي كمصطلح تحددت شروطه في ميثاق الأمم المتحدة.

وإذا عدنا إلى حماية الذات فتدخل إذاً كافَّة الصور التي سنأتي إلى بيانها، كما ستدخل كافَّة الظروف أو صور العدوان التي تحدثنا عنها منذ قليل.

هناك مفهوم معيَّن قال به فقهاء القانون الدولي واعتمدت عليه بعض الدول الكبرى في التدخل وهو ما يسمى بـ (التدخل لصالح الإنسانية) أو لاعتبارات إنسانية، وهذا بطبيعة الحال مختلف فيه، لأن الأخذ به يؤدي إلى إحداث فوضى دولية حيث تستطيع كل دولة أن تبرر تدخلها بأنه تم لاعتبارات إنسانية.

[المقارنة بين هذا الميثاق وصور الدفاع الإسلامي]

إذا رجعنا في ضوء هذه البيانات إلى صور الدفاع بالمفهوم الإسلامي، وبمفهوم الدفاع الواسع كما قال صاحب الظلال رحمه الله تعالى الذي يقع على الأمة الإسلامية – بصرف النظر عن تعدد الدول الإسلامية – يكون فرض عين، ويشمل ذلك 

أولاً: الدفاع عن الدولة الإسلامية بالنسبة للشخص الموجه إليه التكليف ويكون موجوداً داخل الدولة المعتدى عليها – وهذا يعتبر من باب الدفاع الشرعي الفردي – ثم الدفاع عن الدول الإسلامية الأخرى، وهذا يدخل ضمن المفهوم نفسه، ويمكن أن تغطيه. 

ثانياً - قاعدة الدفاع الشرعي الجماعي. 

ثالثاً – حروب التحرير: تحرير الشعوب الإسلامية استناداً إلى حق تقرير المصير وإلى قرارات الأمم المتحدة الكثيرة المتعلقة بتصفية الاستعمار. 

ورابعاً – حماية الأقليات الإسلامية في الدول غير الإسلامية... كل هذا يدخل ضمن مفهوم الدفاع عن النفس.

ثم نأتي إلى مفهوم الدفاع عن الغير، وهذا يشمل: 

خامساً – نصرة المستضعفين من غير المسلمين. 

وسادساً – الحماية الدولية لحقوق الإنسان بالمفهوم الدولي الجديد، ويشمل ذلك بطبيعة الحال تأمين وحماية الدعوة الإسلامية.

وهذان العنصران – نصرة المستضعفين من غير المسلمين والحماية الدولية لحقوق الإنسان – يكون فيهما الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى البقية المئونة.

[بين القانون الدولي والمفاهيم الإسلامية]

هذه الحالات للتقريب بين مفاهيم القانون الدولي والمفاهيم الإسلامية ينتج عنها – بطبيعة الحال – إشكاليات: كأن يحدث تعارض في بعض الحالات بين المفهومين، فقد يكون الأمر مطلباً من وجهة النظر الإسلامية، ولا يتفق مع ما يسمح به القانون الدولي، فهنا نجد أنفسنا أمام بعض التفاصيل الفنية التي لا مجال للدخول فيها الآن.

التنظيم المؤسسي لمفهوم الجهاد هو (الجيش) وأن تكون للمسلمين وحدات في منظمات أو أحلاف عسكرية، سواء كانت إسلامية أو دولية لنصرة القضايا التي يوافق عليها المنظور الإسلامي... هذه المشاركة من قوات إسلامية في أحلاف دولية غير إسلامية تثير بعض الإشكاليات من ناحية مدى الالتزام ومن ناحية القيادة التي تقود الوحدات الإسلامية.

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: (مجلة المسلم المعاصر)، شوال – ذو القعدة – ذو الحجة 1423 - العدد 107

تتمة الندوة في الحلقة القادمة، والتي سيكون الحديث فيها عن مؤسسات الدعوة في الدولة الإسلامية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين