صور من الحياة في العصر النبوي (3)

 

ذكرت في حلقتين ماضيتين: أن حياة المجتمع الإسلامي وأسواقه، كانت في صدر الإسلام حافلة بالحرف والمهن والصناعات التي تعجُّ بالنشاطات المعيشية، والاقتصادية، المتنوعة، وأوردت بعض الحرف والمهن ذات الطابع الحضاري كما يطلق عليها اليوم، وأتابع الآن بذكر حِرَف ومِهَن أخرى، ومن ذلك ما يلي:

6ـ صناعة الأسلحة:

انتشرت في صدر الإسلام بعض الصناعات الحربية، كصنع السيوف، والرماح، والنبال، والخناجر، والقِسِيِّ، والدروع، والمنجنيقات الخفيفة، والدبابات الجِلْدية ونحوها، وكان لهذه الصنعة أماكن مستقلة خاصة بها، يمارسها الحدادون من ذوي الكفاءات العالية والمهارات المتميزة، وكان الواحد منهم يسمى: صانعاً، وقيْناً.

ومن أشهر هؤلاء الصُّنَّاع: أبو سيف الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم فصادفه ينفخ في كيره وقد امتلأ المكان دخاناً، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أمسك عن النفخ في الكير؛ تقديراً وإكراماً له.

ومن أشهر صنَّاع الأسلحة الخفيفة أيضاً: خَبَّابُ بن الأرتِّ أحد السابقين إلى الإسلام والمعذبين في سبيل الله.

ومنهم سعد بن أبي وقاص، وكان يجيد بري النبال وإعدادها للحرب، ومنهم الأزرق بن عقبة الثقفي، الذي أسلم أثناء حصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف ورمي حصونها بالمنجنيق.

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تنشيط الصناعات الحربية والارتقاء بمستواها الفني والمهني، حتى يتقوى بها المسلمون على قتال عدوهم والدفاع عن حقوقهم وأوطانهم، وقد روي أنه لما فتح خيبر أسر ثلاثين قيْنا ـ حدادا من صانعي السلاح ـ فقال لأصحابه: اتركوهم بين المسلمين ينتفعون بصناعتهم ويتقَوَّوْن بها على جهاد عدوكم.

وقد ازدهرت صناعة الأسلحة، وزاد اهتمام الناس بها والمتاجرة فيها، وبيعها للمجاهدين الذين كانوا يمولون أنفسهم، ويشترون أدوات الجهاد وعتاده بأموالهم الخاصة، بسبب محدودية موارد الدولة الإسلامية التي كانت في طور نشأتها الأولى وقتذاك.

روى ابن سعد في الطبقات: أن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب كان يتاجر في الرماح، فلما أسره المسلمون في معركة بدر فدى نفسه بألف رمح، ثم أسلم بعدئذ وحسن إسلامه وتبرع للمسلمين في يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى رماحك يا أبا الحارث تقصف أصلاب المشركين.

7ـ النشاطات الزراعية والفلاحية:

أقبل المسلمون على زراعة الأراضي وغرسها؛ لسد احتياجات المجتمع وتحقيق الاكتفاء الذاتي في الأمن الغذائي، ولئلا يكونوا تحت رحمة غيرهم من المجتمعات الأخرى، وقد شجَّعهم على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة ، إلا كان له به صدقة ". رواه مسلم.

وقد عمل كثير من الصحابة في الزراعة والغراسة واستصلاح الأراضي، واشتهرت عاصمة الدولة: المدينة المنورة وما حولها بمزارعها وبساتينها ومحاصيلها وثمارها، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بمنح العديد من الأراضي لأصحابه من ذوي الحاجة؛ ليعمروها ويزرعوها ويستثمروا خيراتها وينشطوا الحركة الزراعية، ومن هؤلاء الزبير بين العوام، وربيعة الأسلمي...

ومنح أبو بكر رضي الله عنه في خلافته بعض الأراضي لعدد من المسلمين ليقوموا على استصلاحها وزراعتها واستثمار خيراتها، ومن هؤلاء: طلحة بن عبيد الله، وعيينة بن حصن.

وتوسع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته في توزيع الأراضي بقصد تنشيط الزراعة وتوفير الغذاء للإعداد المتزايدة من المسلمين، وكان يقول للناس في أسواقهم وأماكن تجمعاتهم: أين المستطيعون؟ أين الراغبون في استصلاح الأراضي؟

وتوالى الخلفاء والحكام المسلمون على هذا النهج، في توزيع الأراضي على الراغبين في استصلاحها، وزرعها، وغرسها، واستثمارها، والاستفادة من محاصيلها، أكلاً، أو متاجرة، أو مبادلة مع الآخرين...

وكانت بعض المزارع والحقول والبساتين تحمل مرتين في السنة، وكان يزرع فيها أنواع الحبوب، وأصناف الخضروات، والفواكه، والثمار المعروفة وقتئذ، وتُحمَل تلك المحاصيل والثمار إلى أسواق المدن القريبة وتجمعات الناس المجاورة...

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين