الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر (2)

 

حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم:

إنَّ حاجتنا إلى الاجتهاد اليوم أكبر بكثير من حاجتنا إليه بالأمس فهناك كثير من القضايا والمشاكل التي تتجدد كل يوم، وكل شمس تطلع على الأمة المسلمة تأتى بمجموعة جديدة من القضايا والمسائل التي تتطلب الحل في ضوء الشريعة الإسلامية، ونذكر على سبيل المثال بعض المشاكل المعاصرة التي تدعو إلى ممارسة الاجتهاد لإيجاد حلول إسلامية لها:

1 ـ دور الإسلام والمسلمين في البيئات التي يشكل فيها المسلمون أقلية، وخاصة في البلاد الديموقراطية العلمانية التي لا تعترف بوجود أي دين على نطاق رسمي، فيواجه المسلمون فيها عددا من القضايا التي تنتج من هذا الوضع الذي لم يعالجه فقهاؤنا الكبار، وذلك لأن المسلمين في عصور أجلاء الفقهاء لم يواجهوا هذا الوضع.

2 ـ علاقاتهم مع غير المسلمين في دول علمانية (هل نعتبرها دار الحرب أو نعتبرها دار العهد، أو نضع قسما خاصا في ضوء أوضاعنا الحالية؟).

3 ـ دورهم في دول ملحدة ولا دينية، لا تسمح بوجود أي نشاط ديني بين المواطنين.

4ـ هل يكون دورهم في بلاد غير مسلمة دورا سلبيا انفعاليا أو دورا إيجابيا فعالا؟!

5 - كيف تنظم العلاقات الإيجابية البناءة بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين النظم الحديثة، فالانتخابات والتصويت، والمجالس النيابية وكيفية تنظيم الشورى وما إليها من النظم الحديثة تحتاج إلى استقرار الرأي الإسلامي المجمع عليه.

6 ـ ميكانيكية لبناء هيكل اقتصادي حديث مستمد من أحكام الشريعة ومستهدف لتحقيق مقاصدها. 

ولكن قبل أن نتكلم عن دور الاجتهاد في حل هذه القضايا يجدر بنا أن نقول: إن الاجتهاد نوعان عند من يقول بإمكان تجزؤ الاجتهاد:

1ـ اجتهاد مطلق في جميع الأحكام الشرعية من أولها إلى آخرها.

2ـ واجتهاد مقيد، وهو اجتهاد في حكم دون حكم، وهو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام والمسائل التي تتجدد من حين لآخر، وهى ما سماه الفقهاء الأحناف بالنوازل، وذلك لأن كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي هو محل الاجتهاد فلا يجوز الاجتهاد فيما ثبت بدليل قطعي كوجوب الصلوات الخمس والزكوات وباقي أركان الإسلام، ولا شك أن الحوادث والقضايا التي تتولد من 

التصرفات الإنسانية لا يمكن تحديدها، ومن المعلوم أننا لا نجد في الشريعة حكما صريحا لكل قضية جديدة، ولا يمكن أن يكون ذلك، فإذا كانت الحوادث والقضايا غير متناهية وأحكام الكتاب والسنة الصريحة متناهية محدودة، والمحدود لا يسع اللامحدود، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس شئ له قيمته في كل زمان ما دامت الحوادث متجددة، والأحوال متغيرة والقضايا مستحدثة لأن كل حادث يدعو إلى الاجتهاد" (1).

قضية تجزؤ الاجتهاد:

وهنا تأتى قضية تجزؤ الاجتهاد التي كانت موضع خلاف بين فقهاء الإسلام ولكن الذي ذهب إليه المحققون هو أن الاجتهاد ليس منصبا لا يتجزأ، بل يجوز أن يقال للعالم: إنه حائز على منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يجتهد ويفتى في مسألة قياسية، وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث.

فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها. فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا. 

ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فلا يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله تعالى: "وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين". وقس عليه ما في معناه.

وليس من شروط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل الإمام مالك - رحمه الله - عن أربعين مسألة، فقال في ستة وثلاثين منها: لا أدري، وكم توقف الشافعي - رحمه الله - بل الصحابة في المسائل (2). 

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين