الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر (1)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، فإنني أشكر الجزائر الشقيقة شعباً وحكومة على إقامة هذا الملتقى للفكر الإسلامي وجمع العلماء والمفكرين من البلاد والأقطار وإتاحة الفرصة للتعلمين والمتعطشين من أمثالي أن يردوا هذا المنهل ليرووا ظمأهم العلمي وعطشهم الفكري بالاستفادة من أعلام العلماء وأقطاب المفكرين الذين أتوا من كل فجّ عميق، واجتمعوا في بلاد البطولات والجهاد ليدرسوا قضية الاجتهاد والجهاد الفكري.

وقد تعدَّى هذا الملتقى مفهومه العادي وأصبح والحمد لله يمثل حركة عالمية لنهضة الأمة فكرياً وعقلياً، وسوف تكون نقطة انطلاقها إن شاء الله هي الجزائر، كما كانت الجزائر هي الرائدة، وأيامها شاهدة على ذلك، في تحطيم نير الاستعمار السياسي والاستعباد العسكري في عصرنا هذا، وندعو الله تعالى أن يأخذ بأيدي جميع الإخوة القائمين بهذه الخدمة الجليلة، وأن يكلل جهودهم بالنجاح.

إن الكلام عن الاجتهاد في الدين أصبح الشغل الشاغل عند كثير من الناس: علمائهم ومثقفيهم وغيرهم في القرن العشرين، وأخذ كل واحد منهم يبدى رأيه فيه، ويفسر الفكرة من وجهة نظره الخاصة، وبقدر ما ازداد الخوض في الحديث عنه تعقد الأمر وبعد عن التجلي والوضوح، فقد اشترى بعضهم لهو الحديث؛ ليضل عن سبيل الله بغير علم، واعتبر الاجتهاد رخصة مفتوحة للناس ليتقولوا في دين الله الأقاويل ، ويتخذوا من الآراء في أمور الشريعة حسبما اشتهت نفوسهم، ويدخلوا في الدين ما ليس منه، ويخرجوا منه ما جاء به الشارع وتعاملت عليه الأمة، وكل ذلك باسم الاجتهاد والتجدد والتمشي مع متطلبات الزمن، أو حجة عيشنا في القرن العشرين ظانين أن الإنسان لم يعد إنسانا في هذا القرن، وصار مخلوقا غير الذي كان، ولذلك أصبح في غنى عن الهداية السماوية بعد تطويره العلوم التجريبية، وبعد حيازته على القنابل المدمرة والصواريخ المهلكة ووسائل المواصلات السريعة، وأمثال هؤلاء كثيرون في جميع البلاد الإسلامية، وكأنهم اتخذوا الغرب إلها لهم إما شعوريا أم غير شعوري، ثم عكفوا على ترميم بنيان الإسلام وتصميم مبناه على طراز الفكر الغربي .. ويمثل هذا الاتجاه سيد أحمد خان، وطه حسين، وعلى عبد الرازق، وتأثر بهم أناس كثيرون.

ولا أنكر أن هؤلاء وصلوا إلى نتائجهم بإخلاص نياتهم للإسلام والمسلمين. ولكن لا شك أن إخلاصهم لا يمنحهم أي شهادة بكونهم على حق في آرائهم التي أثرت تأثيرا عميقا في أذهان طائفة من الناس.. وقد ساعدت الظروف الاستعمارية السياسية والفكرية والاقتصادية، على تعميق هذا التأثير، وتكونت لديهم عقلية منهزمة مستعبدة طغت عن رب موسى وهارون وآمنت برب ماركس وقارون، ألا وهو المادة التي هي أكبر صنم صنعته البشرية واتخذته إلها.

ونرى على جانب آخر طائفة أخرى اتخذت موقفا في النهاية الأخرى لا تفهم الشريعة إلا في لغة القرن العاشر، وتقدم صورة جامدة وراكدة للشريعة لا مجال فيها للاجتهاد والتفتح البتة، ولا يتجاوز فهمهم ودرايتهم بعض كتب الفتاوى والنصوص الفقهية.. فصار معنى التفقه عندهم فقه الفقه ومعرفة آراء المتأخرين وليس فقه الشريعة من مصادرها، وكل من الاتجاهين نتيجة لرد فعل أحدهما على الآخر، وربما كان ظهور الاتجاه التحرري السابق سببا في توطد هذا الموقف وتصلب أصحابه على آرائهم الجامدة.

وقد استمر هذا البعد في زاويتي نظر هاتين الطائفتين المتطرفتين منذ وقت طويل، ولا زال قائما بينهما، وأصبح العلماء فيها طرائق قددا.

فمن قائل يقول: إن باب الاجتهاد مغلق لا يدخله أحد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يدخله أحد بعد القرن الرابع الهجري..

وهناك من يقول: إن باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه ويرحب بكل من هب ودب ويدعوه أن يدخل فيه ويشوش الأذهان ويحدث بلبلة في الأفكار.

وهناك من يتقول أقاويل لا فائدة بذكرها هنا، فإن ذلك يطول به الكلام. 

وإذا رأينا إلى هذه البلبلة الفكرية والفوضى العلمية لا ندرى أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا.

كلمة عن الاجتهاد وأنواعه:

اتفق العلماء على تعريف معنى الاجتهاد، بيد أن عباراتهم في وضع تعريف هذا الاصطلاح تختلف من فقيه إلى فقيه. ولكننا ننقل هنا عبارة الإمام الغزالي. فالاجتهاد عنده عبارة عن: بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد ... (وفى عرف الفقه): بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة .

والاجتهاد له عدة أنواع فله نوعان من حيث المجتهد فيه:

الأول: هو الاجتهاد في دائرة النص، وهو يتضمن الاجتهاد في معرفة القواعد الكلية التي هي الدليل الإجمالي كاجتهاد الحنفية في دلالة العام والمطلق أنها قطعية في مدلولها فلا يخصصها ولا يقيدها خبر الآحاد إلا إذا صارت ظنية بالتخصيص والتقييد، أو كاجتهاد الشافعية في أن دلالة العام والمطلق ظنية فتخصص بخبر الواحد.

الثاني: الاجتهاد بطريق النظر، يتضمن قياس المجتهد في أمر لا نص فيه ولا إجماع على ما ورد فيه نص أو حكم مجمع عليه، كما يتضمن استنباط الحكم من قواعد الشريعة الإسلامية العامة مما أطلق عليه بعض الفقهاء اصطلاح الاجتهاد بالرأي.

الحواشي:

(1) - الملتقى السابع عشر للفكر الإسلامي - قسنطينة – الجزائر – 8- 15 شوال 1403 الموافق 19- 26 يوليو 1983

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين