هل الشرعيون من أسباب انتشار ظاهرة الإلحاد والردة ؟ (8)

حوار مع عدد من الشرعيين

كتب أحد الأساتذة الشرعيين وهو الدكتور محمد أبو زيد هذه الكلمة :

قال مُحدِّثي: هناك ظاهرة ردة وإلحاد في الدول الإسلامية.

قلت له: نحن الشرعيون سببها الرئيس، لو كنا قدوة وتخلّقنا كما أمرنا الله، وبلّغنا الدِّين بثقافة هذا الزمان بعد أن ندرك واقع الناس وظرف الأمة.. لما حصل ما حصل.

وقد نشرنا في الحلقات السبع السابقة عددا من التعقيبات والمناقشات، ووصلنا هذا التعقيب الواسع المفصل من فضيلة الشيخ محمد رجب حميدو، فنفرده بالنشر.

ونختم به هذا الحوار.

1 - حين يجهل العلماءُ تعاليم دينهم، يكون خطرُهم على الدين أشدَّ من خطر الذين يعادون تعاليمه .. فجهلُ رجال الكنيسة في القرون الوسطى بعلوم عصرهم ؛ جعلهم يخطئون في تفسيرات تتعلق بمظاهر الكون والحياة ، كذبهم فيها علمُ الفلك والفيزياء والرياضيات .. مما وضع الغربَ المسيحيَّ آنذاك على مفترق خطير، فإما الإيمان بالدين الذي لا يلبي تطلعات العلماء في المعرفة ويفرض عليهم جهلا بقوانين الوجود؛ وإما الإيمان بالعلم الذي يتسق مع حركة الكون والحياة، ويكشف لهم كل يوم عن فتح جديد، فما كان من الغرب المسيحي إلا أن اختار العلم على الدين، وبدأت موجة الإلحاد تتنامى في صفوف المثقفين هناك، إلى أن أصبح ثلث سكان العالم اليوم من الملحدين، الذين آثروا العلم على الدين .

2 – وما حدَثَ لأتباع المسيحية في الغرب والشرق ؛ يمكنُ أن يحدث مثلُه لأتباع أيِّ دين آخر ، فالبشريةُ في الأصل أسرةٌ واحدةٌ، أبواها آدمُ وحواءُ، والبشرُ متشابهون في تبني الهداية أو الضلال على مدار التاريخ. فما كان سبباً لضلال مَنْ سَلَفَ من البشر قد يكونُ سبباً لضلالِ مَنْ خَلَف .. فالسننُ الكونيةُ رتَّبَتِ المسبَّباتِ على الأسباب، فإذا وُجِدَ السببُ وقع المسبَّبُ عنه غالبا ، إلا أن يحدثَ خارق للعادة يمنع من وقوعه .. 

3 – وحين يشاهدُ شبابنا العالم مِنْ حولهم، وقد أولى البحثَ العلميَّ جُلَّ اهتمامه ، واكتشف كثيرا من أسرار الكون والحياة ، حتى غرز راياتِهِ فوق سطح القمر منذ أكثر من نصف قرن مضى ، وأرسل مركباتِهِ إلى كوكب الزهرة والمريخ منذ سنين .. ونحن ما زلنا بين مُكذّبٍ بما وصل إليه غيرُنا مِنْ سَبْقٍ علميٍّ أو مُشكِّكٍ لا يُريد أن يُصدّق ..

وحين يرى شبابنا أن غير المسلمين هم الذين يستأثرون بصناعةِ الطائرةِ والصاروخِ والقنابلِ الذّريّة والهيدروجينية والبيولوجية ، والنابالم والمنثار والقنابل الارتجاجية والفراغية .. وهم وحدهم الذين يقومون ببناء السُّفنَ الفضائية ، والأقمارَ الصناعية التي تقوم بتصوير الأرض على مدار الساعة ، حتى أصبح كلُّ شيء في الأرض تحت سمعهم وبصرهم ، وفي نطاق سيطرتهم.. يرى شبابنا هذا فتبهرهم القوة ، ويعجبهم السبق، وقد يدفعهم ذلك إلى الإعجاب بالغرب الملحد ، والسير وراءه على نفس الطريق ..

4 – إنَّ المسلمين الأوائل قاموا بما يجب القيام به في عصرهم ، ففتحوا الفتوحات ، وأطاحوا بأكبر إمبراطوريتين فارس والروم، وأصبحوا في مأمن من أي خطر خارجي، ثم التفتوا إلى إجراءات عملية لحفظ كتاب الله وسنة رسول الله ،فجمعوا القرآن في صحف، ثم نسخوه في مصاحف وزعوها على الأمصار .. وقاموا بتدوين السنة النبوية، فحفظوا بذلك ثوابت الدين . ثم التفتوا للاستفادة مما عند الأمم، فعمدوا إلى تدوين الدواوين، وتأصيل الأحكام السلطانية، والَّفُوا كتبا في نظام المال في الإسلام، ككتاب الخراج لأبي يوسف (182ه)، وكتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (224ه)، كما قاموا بتشكيل الجيوش التي ترابط لحماية الثغور، واستوزروا وزراءَ من الفُرس وآخرين من الترك، واستعملوا كتبة من الروم، فأفادوا مما لدى غيرهم من خبرات في تثبيت دعائم الدولة وإدارة الحكم فيها. 

وفي زمن المأمون نشطت الترجمة (سنة 218ه)، وأنشئت لها المراكز المتخصصة ، فنقل المسلمون كثيرا من فلسفة اليونان. حتى برعوا في الطب والفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك والجغرافيا والكيمياء والفيزياء وسائر العلوم الكونية .. ولمعت بعد ذلك أسماء كبرى من علماء المسلمين كابن سينا والفارابي والكندي والخوارزمي والحسن بن الهيثم وغيرهم .. ممن تتلمذ أبناء الفرنجة على أيديهم، ثم عادوا إلى أوطانهم في أوربا، فبنوا هذه الحضارة التي كانوا فيها عالة علينا، " فشمس العرب والمسلمين هي التي سطعت على الغرب، ووضعت في أيدي الغربيين كل مقاليد القوة، وأدخلتهم إلى رياض العلم والمعرفة من أوسع الأبواب .. 

يقرأ شبابنا هذا عن الماضي المشرق فيعجبهم، وينظرون إلى الحاضر الكئيب فيؤلمهم، فمنذ قرون وقرون، ونحن مشغولون بحفظ المتون، ومطالعة الشروح والحواشي والتعليقات.. واكتفينا باجترار التراث من العلوم الإنسانية كالفقه واللغة والتاريخ وما إليها .. ولم نضف إلى هذه العلوم أي جديد، مع الانصراف التام عن العلوم الكونية الضرورية لإعمار الأرض ، التي استعمرنا الله فيها .. 

إن شبابنا حين يرون ذلك؛ سيدركون الخلل الكبير، والحيدة الواسعة، عن ميادين السبق العلمي .. بل سوف يصبحون على قناعة تامة بأن المسلمين اليوم ؛ باتوا يعيشون على هامش الحياة، وأن الدفة الآن في أيدي أقوام، أغلبهم ملاحدة لا يؤمنون بدين، وقد باتوا يوجهون مسيرة الحياة، ويقودون البشرية التي تعيش على هذه الأرض ..

وهنا يثور السؤال الأهم : أين العزة التي وُعد بها المؤمنون .؟ وأين علماؤنا من العلوم التي مكنت لغيرنا في الأرض .؟

إن أسلافنا قد خدموا العلوم القرآنية والحديثية والفقهية وعلوم البلاغة والنحو والمعاجم العربية وغيرها من العلوم الإسلامية حتى بلغت مخطوطاتها ومطبوعاتها مئات الألوف ، ولم تعد الأمة بحاجة منها إلى مزيد .. وأن الأمة صارت اليوم بأمسِّ الحاجة إلى العلوم الكونية ، التي تركناها لمن يصنع الصاروخ الذي يدمر بيوتنا فوق رؤوسنا ، والطائرة الحربية التي تدمر في ساعة واحدة ؛ ما لا يمكن إعادة بنائه في عشرات السنين ... فأين نحن من قوله تعالى :"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ".؟ 

وحين يرى أبناؤنا ما آل إليه أمر المسلمين، من ضعف وتخلف وقهر واستبداد وجوع ومرض وخوف في شتى بقاع الأرض.. ثم يقرؤون لمستشرق حاقد يعزو هذا كله إلى تَـمَسُّكِ المسلمين بدين مضى على ظهوره 1442 عاما ، ولم يعد – بزعمه - صالحا لأبناء القرن الحادي والعشرين .. إنه حين يقال مثل هذا الكلام، ويصغي إليه أبناؤنا عبر القنوات الفضائية صباح مساء، فلا عجب إن فُتِنُوا جراء ذلك؛ ببهرج الحضارة الغربية، ومالوا إلى الإلحاد بعد الإيمان .. 

5 – ولو أن الأمة بقيت عاكفة على تراثها القديم، دون إضافة أي جديد إذنْ لهان الخطبُ، ولكنْ تَـحَوَّلَ حالنا إلى الأسوأ، فلا نحن تعلمنا العلوم الكونية لنشارك بها في بناء الحضارة المعاصرة، ولا نحن حافظنا على الموروث من علوم الشريعة وهو كنز ثمين ... وإنما صارت الأمة من شرعييها ودعاتها بين قصاص وحكواتي .. وكل منهما يأتيك بالأعاجيب .. أو بين منفر ومكفر، هذا يحملك على كراهية الإسلام، وذاك لا تقرُّ له عينٌ حتى يُدخل كل أهل الأرض في النار، ويغلق عليهم أبوابها السبعة ..وينام بعدها خالي البال .!!!

ولا أتَّهمُ بهذا وذاك كلَّ الشرعيين .. معاذ الله .. فالتعميمُ جهالة لا ينبغي ركوبُها، وإنما سأذكر لكم نماذج من هؤلاء، وأَدَعُ الحكم لكم فيهم ، إن كان من الممكن أن يكون هؤلاء سبباً قويّاً في دفع الناس إلى الضلال والإلحاد ، أم إلى الهداية والإيمان ..؟؟

( أ ) - لقد رأينا من هؤلاء الشرعيين في عصرنا الحالي أشخاصاً ؛ ليس لديهم من العلم شَروَى نقير، وقد شَغَلُوا الناسَ بالحكايات المخترعة عن كرامات الأولياء، أو بالأحاديث الموضوعة التي تصرف المسلم عن دينه الحق، وتُـمنّيه بثوابٍ ينتظرُه في حجم الجبال – زعموا – أن ذلك لا يُكلّفُه سوى كلمات يسيرة تُقال .. يَصرفون بذلك وجوه الناس عن التفكير الجاد بما تَنْهَضُ به الأمةُ ، ويَصلُح به حالها.

(ب) - وهنالك نفرٌ آخر من القصَّاصين، يتلاعبون بعقول الناس بما يخترعون من قصصٍ مخالفة للسنن الكونية، كحديثهم عن مَيْتٍ؛ كلما حفروا له قبرا؛ وجدوا فيه ثعبانا ضخماً يسبقه إليه، أو حديثهم عن امرأة ما إن وضعوها في لحدها حتى اشتعل القبر عليها نارا لأنها كانت تؤخر الصلاة، أو يَحكُون لنا عن مَيْتٍ آخر أبتِ الأرضُ أن يُدفن فيها، فكلما أهالوا عليه التراب ارتفع جسده فوق التراب الـمُهَال، وعاد جسدُه للظهور من جديد، مما أجبر الحفَّارين على أن يُغطُّوه بقَشٍّ ويتركوه مُلقىً في العراء .!! ولستُ أدري متى كان هذا ؟ ولا أين وقع .؟ ولا نعلم أن أحدا شهد ذلك بعينيه قط ؟ ولست أدري لماذا لا تحدثُ هذه الخوارق إلا مع موتى المسلمين خاصة .؟ 

( ج ) - ولو أَجَلْنا الطرفَ قليلا بين المنسوبين إلى العلم الشرعي لرأينا فريقا منهم مختلفا عمن ذكرناهم آنفا، فهذا الصنف يحلو له أن يختصرُ الإسلام في قضايا شكلية من الكماليات أو التحسينيات، كإعفاء اللحية وتقصير الثوب، فيجعلها مناطا للحكم بالكفر والإيمان. فما زاد من الثوب عن الكعبين فصاحبه في النار. وحليقُ اللحية مرتكب لصغيرة، يُحوّلُها التكرارُ إلى إصرار، ثم إلى كبيرة، قد تلقي بصاحبها في النار وبئس القرار .. وربما تجد من هؤلاء مَنْ تَعَجَّلَ فأغلق بابَ التوبة على العباد قبل أن تطلع الشمس من مغربها، ولم يبق في نظره على وجه الأرض مسلمٌ إلا بعدد من كانوا في سفينة نوح عليه السلام يوم أغرق الله كفار الأرض جميعا .. ولهذا تجد كلمةَ التجريم على طرف لسان أحدهم، فهو يُكفّرُ ويُضللُ ويُفسّقُ ويُزندق مَنْ عَرَفَ ومَنْ لم يَعرِفْ، يُضلّلُ الأشعريَّ ، والماتُريديَّ، ويفسق المعتزلي، والجهميَّ، ويزندقُ القدريَّ، والجبريَّ، ويُكفّرُ الرأسماليّ والشيوعيّ والليبراليّ والديمقراطيّ والعلمانيّ والوطنيَّ والقوميَّ والعُنصريَّ، ولا يأتيك ببديل يرضيك، ولا يسمح لك بأيِّ نقاش .. فالنقاش جدل ، وقد نُهينا عن الجدل .. 

والسؤالُ هنا: ألا يمكنُ أن يكون هؤلاء الشرعيون سبباً قوياً للإلحاد عند شريحة كبيرة من شبابنا في العصر الحاضر .. فتجتالهم جراء ذلك الشياطين ، ويكون موقفهم من الإسلام على غرار موقف المثقفين الغربيين من رجال الدين المسيحي، حتى انتشر الإلحاد بسبب ذلك، وصار يتبناه اليوم أكثر من 80% من سكان أوربا والأمريكيتين .؟؟ 

وسواء اعترفنا بوجود ظاهرة الإلحاد أم أنكرناها؛ فإن الإلحاد بدأ ينتشر بين المسلمين؛ على مستوى الأفراد والجماعات؛ انتشار النار في الهشيم، فهنالك إحصائيات تقول : إنه في كل يوم يتنصَّر من الجالية الجزائرية في أوربا 50 شابا وفتاة .. 

وهنالك أخبار تقول: إنه بعد تهجير السوريين إلى أوربا كثر التنصير في صفوفهم، وأن بعض السوريات المسلمات المحجبات؛ قد سفرن ونزعن غطاء الرأس والجلباب، بل هنالك من يقول: إن بعض المسلمات قد تزوجن من جورجس ويوحنا وجوزيف .. خصوصا وأن فكرة " وحدة الأديان " التي يتبناها اليوم علماءُ دين، يحملون شهادة الدكتوراه في الشريعة، ويُلَوّحُون بمشروعية هذا الزواج .. ويباركونه .. 

فلماذا الاستغراب من انتشار ظاهرة الإلحاد بين المسلمين .؟؟ 

فالمشكلةُ لا تحل بإدارة الظهر إليها، ولا بإنكار وجودها، وإنما بالتصدي لها، والعمل على إغلاق الثغرات في وجهها؛ بتبني برامج دعوية واجتماعية وتكافلية؛ تُجنّبُ أبناءنا من التردي في أحضان الكفر والإلحاد .. 

وأوجَبُ الواجبات أنْ نعمل على تكوين مرجعية دينية تتولى شؤون الأمة، وتردم الهوة بين الحاكمين والمحكومين، وتحول دون تلميع القصاصين والحكواتية، وتجري مراجعات للخطاب الديني الحق، مستنيرة في ذلك كله؛ بهدي الكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم:" تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ، كتاب الله وسنتي".

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين