نقد المعايير المغلوطة ( 4 -4)

سادسا: قال الدكتور الكبيسي: (وعَوْدٌ على معيار الحكم الوراثي الذي جعلوه أسًّا للانحراف والدليل القاطع عليه لنسأل: هبْ أن معاوية قد اخترع هذا الشكل اختراعا).

والجواب: أنه لم يخترعه بل أعاده بعد أن كان الإسلام قد نقل الناس عنه إلى ما هو الأصلح، وخالف بذلك سنَّة الخلفاء والنصوص العامة، ولهذا أنكره عليه الصحابة والسلف والأئمة وجعلوه من أخطائه السياسية، وقد مر لنا الاعتذار عن فعل معاوية هذا بما ذكره العلامة ابن عاشور.

قال الدكتور: (فلماذا أصرَّت الأمة عليه - يعني على فعل معاوية بالتوريث- في عصورها المختلفة؟ هل كل هؤلاء منحرفون وإذا كان الإسلام بزعمكم لم يستطع يقنع أتباعه على مر القرون بقيمه ومبادئه فبم نبشر العالم) وهذا منه حفظه الله عود للمثالية التي تقدم له إنكارها على مخالفي الحكم الوراثي، ومع هذا يقال له: إن تتايع الدول على نظام التوريث ليس إصراراً منهم عليه لكونه الأنفع والأصلح، فإن كونه كذلك أمر نسبي كما مر، يحكمه الواقع الذي يقرره العقلاء، فإن تقرر لهم أن التوريث هو الأصلح لأن متوارثيه قد انتزعوه بالقوة، ولأن في مدافعتهم مفاسد لا يقرها الشرع والعقل، ولأن مقصود الإمامة متحقق بـهم، فعندئذ يقروه ولا بد ولا مفر لهم منه.

لكن هذا لا يقال فيه إنه إصرار ولا يستدعي أن التوريث أصلح في نظام الحكم مطلقا من نظام الشورى الذي هو الأصل في الشرع والأصلح في العقل والواقع، بل هذا وقع من هذه الدول لأن هذه البطن أو النسل هم من وثب على الخلافة واستلبها من عامة الأمة

والعجب من تناقض الدكتور أيده الله فإنه قد تقدَّم له إنكار أن يكون أهل الأمصار قد بايعوا لقناعتهم بمن يبايعونه وبنظام الشورى، وإنما تسامعوا بالخبر فتابعوا المخبر، ثم هو هنا يسأل: هل العباسيون والأمويون والعثمانيون منحرفون؟ مع أنه يعلم أنـهم إنما انتزعوا الحكم بالغلبة والشوكة دون رأي العامة وأهل الحل والعقد، حتى إنـهم قاتلوا عليه إخوانـهم من المسلمين وسفكوا الدماء والحُرُم، فهل تراهم بعد كل هذا لا يعضون عليه ولا يصرون على الحكم به.؟!

ومن هنا أسماه الشارع (ملك عضوض) شبه شدة تمسكهم به بمن يعض على شيء، وقد تقدم أن العلماء والناس كانوا ينكرون ذلك ويبغضونه ولا يرضونه ولكنـهم مكرهون عليه، حتى ذكر الأصمعي أن أبا جعفر المنصور لقي أعرابيًّا بالشام، فقال: احمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت، فقال له: إن الله لا يجمع علينا حشفًا وسوء كيلة، ولايتكم والطاعون.؟

ولهذا وجد في ولاتـهم من حاول تغيير هذا الحكم لكنه قتل كما تقدم في عمر والمهتدي بالله، ولما أيقن المأمون بذلك بايع لأبي الحسن الرضا عليه السلام ثم إنه نكث وغلبت عليه العصبية العباسية، ومن هنا كان قول ابن خلدون: إن الملك يحكمه العصبية والشوكة صحيحا من حيث كونه واقعا لعامة الدول سواء في الإسلام أو غيره، لكن كونه واقعا غير كونه خلاف الأولى والأصلح للحكم والسياسة.

ألا ترى أن هذه الدول الأسرية السلالية قد اضطهدت العلماء وأكرهتهم على البيعة والرضا بـهم مع أنـهم لا يعدمون ممن ينتحل العلم ويتزيا بزيه من يناصرهم ويظاهرهم على ملكهم العضوض، كما ضرب العباسيون مالكا لأنه أفتى بأن يمين المكره لا يقع لأن أكثر أيمان البيعة للولاة الوراثيين إنما تقع عن كره لا عن قناعة ورضا، ولما اجتمع أبو حنيفة بأبي جعفر المنصور، أراد الربيع أن يوقع به فقال للمنصور: يا أمير المؤمنين إن أبا حنيفة يخالف جدك ابن عباس في الاستثناء في اليمين، قال ابن عباس: يجوز إلى سنة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز فيه التراخي، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إن الربيع يقول: لا بيعة للرعية لكم في أعناقهم، فغضب وقال: لم؟ قال: لأنه يقلد ابن عباس في جواز الاستثناء في اليمن، فيجوّز لمن بايعكم إذا رجع إلى داره أن يقول: إن شاء الله، فلا تنعقد بيعته، فبهت الربيع، وضحك المنصور وقال له: إياك أن تتعرض لأبي حنيفة بعد اليوم.

ومن العلماء من خرج على الأمويين مع ابن الأشعث وكانوا خيار التابعين، ومنهم من خرج مع النفس الزكية على العباسيين وأفتى أبو حنيفة ومالك بالخروج عليهم معه.

وكان ممن خرج من الفقهاء والعلماء على العباسيين: هشيم بن بشير الواسطي، وعباد بن العوام، ويزيد بن هارون، وخرج مع زيد بن علي طوائف من الأئمة، وخرج مع ابن الأشعث على الحجَّاج كبار العلماء من التابعين، مثل سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومسلم بن يسار، والشعبي، وكان يقول يستنهض الناس للقتال: (قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة). 

ومنهم: أبو الجوزاء الربعي، وعبد الله بن شداد، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ومالك بن دينار، وعطاء بن السائب وغيرهم.

ومن السلف من ترك الصلاة خلفهم لأنـهم ولاة جور كبعض العترة وهو قول الحسن بن صالح بن حي، ومن السلف من كان لا يسقي فرسه من بئر احتفره بنو مروان ورعا كطاووس وغيره، ومنهم من امتنع عن جوائزهم وأعطياتـهم.

وأما قوله: (وإذا كان الإسلام بزعمكم لم يستطع أن يقنع أتباعه على مر القرون بقيمه ومبادئه فبم نبشر العالم)؟

فيقال: البشرى حاصلة بزمان الخلفاء الراشدين وحكمهم الذي لم تعهد الإنسانية نظيره إلا في الأنبياء قبلهم، وتحصل البشرى بمن نحا نحوهم في الحكم الشوري الاستخلافي القائم على العدل، كولاية عمر بن عبد العزيز ومن سار بسيرتـهم في العدل من ملوك الأسر المتوارثة للحكم كالرشيد والمهتدي، وأما ولاة الجور فالإسلام ينتفي عنهم أصلا ولا يبشر بـهم أو يفخر، سواء كانوا نتاج حكم شوري أو سلالي توارثي.والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وأصحابه

انظر الحلقة الثالثة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين