نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع (3)

4 - منهج البحث في علم الاجتماع:

إنَّ منهج علم الاجتماع في بحث الظاهرات الاجتماعيَّة نفسها معرض إلى الكثير من الأخطاء في النتائج. ويمكننا أن نستعرض المواطن التي يتسرب منها الخطأ.

(أ) الهدف والغاية: لابدَّ لكلِّ بحث اجتماعي من هدف قصد إليه الباحث في نفسه أو وُجَّه إليه من جهة من الجهات التي لها رغبة في تحقيق هذا الهدف. إذ تعمد بعض الحكومات إلى التقليل من عدد السكان تخفيفاً من أعبائها فتوجه الباحثين الاجتماعيين أو تصطنع عدداً منهم ليزينوا فكرة تحديد النسل بطريقة يعطونها الصفة العلميَّة.

ويريد بعض الباحثين أن يُقنعوا الناس بالحرية الجنسية فيجندوا أنفسهم وتلاميذهم لبحوث يريدون أن يصلوا منها إلى أن الارتباط بالزواج أمر أخذ بالتطور نحو الزوال، وأنه من صفات أطوار معيَّنة تمر بها البشرية وهكذا يُزيِّنون الإباحية باعتبارها مرحلة المستقبل وأن حتميَّة التطور تؤدي إليها.

وهذه الأغراض الخبيثة تَخفى على أكثر الناس من خلال البحوث ويحسِّنون الظن بهؤلاء الباحثين، بسبب انتسابهم للعلم ودوائره، مع أنهم من أنواع المجرمين المستترين المستأجرين لمثل هذه الأغراض.

وكثيراً ما استأجرت حكومات الاستعمار علماء من بلادها لأغراض استعمارية كإثبات أن البحر الأبيض بحيرة أوربية وأنَّ أفريقيا امتداد أوربا، وأنهما قارة واحدة في الأصل سموها Europrique وأنَّ سكان الجزائر من العرق الأبيض الأوربي.

(ب) شخصية الباحث: من الصعب جداً في البحوث الاجتماعيَّة أن يتجرد الباحث من أفكاره وعواطفه وأهوائه الشخصيَّة ومن تأثير بيئته حتى لو كان في نفسه مستقيماً أميناً خلافاً للعلوم الطبيعيَّة وذلك لصلة موضوعات بحثه بأمور هي بالنسبة إليه موضوع حب أو كره، أو نفع أو ضرر، أو موافقة أو مخالفة. ولكل باحث أفكاره وعواطفه وعصبياته وأهواؤه.

إنَّ من الصعب جداً أن يتجرد أوربي يدين بالكاثوليكية ويتعصب لها، ولا سيما في زمن كان شعبه يستعمر شعباً آخر، يختلف عنه قومية ودينا ًوثقافة، في بحث موضوعه يمس هذه العصبيات.

أضف إلى هذا أن الباحثين لا يتمتعون جميعهم بالاستقامة والأمانة التي يستوجبها البحث العلمي وقد تحدث عن مثل هذه النماذج السيئة كلها «ستانيسلاس أنديرسكي Stanislas Anderski» في كتابه Social Sciences assocery وهو مترجم إلى الفرنسية ومنشور.

(ج) وفي مراحل جمع الظواهر الاجتماعيَّة واختيارها وعزلها عن غيرها وتصنيفها، ثم في ربطها بعضها ببعض لتعليلها وتفسيرها مجالات كثيرة للوقوع في الخطأ المقصود وغير المقصود.

وإذا كان البحث في شعب بعيد في حضارته عن شعب الباحث فكثيراً ما يقع في سوء فهم في تفسير الظواهر لجهله بهذا الشعب.

ويتعرض الباحث عامة للخطأ بسبب تعقد الحوادث الاجتماعيَّة وتشابك العوامل والظروف وتعدد الاحتمالات في تفسيرها؛ ولذلك كان من الخطورة بمكان أن تلقن نتائج بحوث علماء الاجتماع الغربيين للطلاب المسلمين مع ما قد يكون فيها من أخطاء وانحرافات أو تشويهات على أنها حقائق علميَّة أو نظريات مسلَّمة مقبولة وقد نقابلها بحقائق الإسلام الثابتة وأحكامه الصحيحة فتوقعهم في الشك في الحقائق الثابتة ليحل محلها أباطيل وأخطاء وتشويهات.

ويتبين مما تقدم أن علم الاجتماع ميدانه الخاص الذي لا ينبغي أن يتجاوزه؛ هو الواقع في المجتمعات البشرية في حدود كونها عالماً مشهوداً يمكن ملاحظته واستخراج خصائصه وقوانين حركته وتبدله كما يدرس الطبيعة علماؤها المتخصصون.

ولا شك في فائدة هذا العلم وبحوثه ما دام في حدوده المحددة له، وقد اشتغل به العلماء المسلمون سابقاً بل جاءوا فيه بما لم يسبقوا إليه. نذكر منهم البيروني والمسعودي وابن خلدون الذي بلغ فيه قمة من القمم في تاريخ هذا العلم.

ولكن علم الاجتماع على ما هو عليه حالياً في جامعات الغرب في أوربا وأمريكا لدى الديمقراطيين والاشتراكيين أصبح مزيجاً من مباحث علميَّة مفيدة ومناهج للبحث والتحقيق، مضاف إليها نظريات متفاوتة في قيمها، يتخلل ذلك كله عقائد باطلة ومفاهيم منحرفة وقيم زائفة تخالف كل المخالفة حقائق نؤمن بها وقيم نعتقد أنها صالحة للتمسك بها يجمعها الإسلام.

لذلك كان لابدَّ للاستفادة مما في علم الاجتماع من جوانب مفيدة نافعة؛ من إعادة بنائه بناء صحيحاً على أساس سليم ليوضع في مكانه حينئذ في إطار النظام الإسلامي للتعليم أي من منطلق التصور الإسلامي للوجود والطبيعة والإنسان والمجتمع الإنساني.

ونعتقد أنَّه إذا تم بناء علم الاجتماع على هذه الأسس آتى نتائج هامة ومفيدة للإنسانية بوجه عام، لصحة المنطلقات والأسس وسلامة الأهداف ووجود الضوابط الأخلاقية المرتبطة بقيم سامية، وهي مفيدة ومنتجة بالنسبة للشعوب الإسلامية كلها لانسجامها مع شخصيتها وتجاوبها معها، وموحدة لهذه الشعوب لوحدة الأسس التربويَّة والثقافية والقيم الأخلاقية، وممهدة للشعوب الأخرى، ومن جملتها الشعوب الغربية للون جديد في البحوث الاجتماعيَّة بجميع فروعها.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين