نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع (2)

قبل البحث في عرض فكرة صيغة إسلامية لعلم الاجتماع: نرى أن نقدم عرضاً تحليلياً نقدياً لعلم الاجتماع الغربي في وضعه الحالي، ولا سيما في الجوانب ذات العلاقة بموضوع بحثنا.

1 - يلاحظ الدارس لعلم الاجتماع - في عصرنا هذا - أن لمؤلفيه والباحثين فيه اتجاهات مذهبية مختلفة، وأنَّ لكل من هذه الاتجاهات المذهبية أثراً واضحاً في صياغة علم الاجتماع واتجاه النظريات ووضع الافتراضات والتعليلات.

وهذه المذهبية التي نعنيها ليست منبثقة عن علم الاجتماع نفسه، بل هي خارجة عنه وقد لا تظهر للباحث مباشرة لأول نظرة؛ لأنها قد تختفي وراء البحث. وإنما نعني بها المنطلقات العقائدية التي انطلق منها أصحابها مزودين، بل مدفوعين بها قبل الشروع ببحثهم في علم الاجتماع.

وأبرز هذه الاتجاهات المذهبية:

الاتجاه العقلاني retionaliste والاتجاه الماركسي، والاتجاه المسيحي، وخاصَّة الكاثوليكي. وبعض أصحاب هذه الاتجاهات يخفون مذهبهم واتجاههم كأصحاب الاتجاه المسيحي، وهم -وإن كانوا معروفين لدى الباحثين ولهم مؤلفات ومعاهد وجامعات ودور نشر خاصَّة بهم في كثير من البلدان ولكنهم يوصفون عادة في بحوثهم الاجتماعيَّة بأصحاب الاتجاه الفكري أو المثالي idealiste، أما الماركسيون فهم مجاهرون بوصف بحوثهم وعلومهم ومنها علم الاجتماع بالماركسية.

وإليكم نماذج من أقوالهم مأخوذة من كتاب (علم الاجتماع الماركسي) للمؤلفين: كونستانتينوف وكیل، قال المؤلفان:

«أن العلم الاجتماعي الذي يلتزم التزاماً صارماً بموقف المادية التاريخية، هو وحده القادر على ممارسة وظيفته الجوهرية الاجتماعيَّة الخلاقة». (ص 5) ويقولان أيضا:

«ومن ثم نجد إلى جانب الارتباط العضوي العميق بين علم الاجتماعي الماركسي والنظريَّة الاشتراكية العلميَّة فروقاً نوعيةً». (ص 18).

وهما يقومان أيضاً بالجمع العجيب بين الموضوعية والالتزام المذهبي في علم الاجتماع والإخلاص للمبدأ.

«ويتطلب كل ذلك من علماء الاجتماع إحساساً عميقاً بالمسئولية والأمانة العملية والإخلاص للمبدأ والنزاهة والموضوعية والالتزام الاشتراكي» (ص 52).

ويتجاوز المؤلفان حدَّ الالتزام إلى المقاتلة فيقولان: «ينبغي على المرء في دراسته لأثر القانون أن يكون قادراً بدرجة ملائمة على تقدير الإمكانات المتاحة، وعلى أن يقاتل من أجل تحقيق تلك التي تتوافق مع احتياجات التطور الاجتماعي التقدمي ومصالح الجماهير والطبقات الثورية التي تجسد هذه المصالح» (ص 16).

فلماذا يجوز للماركسيين أن يصبغوا جميع العلوم - وليس علم الاجتماع فحسب - بصبغتهم المذهبية ويتوقف بعض المثقفين عندنا ومنهم بعض أساتذة علم الاجتماع عن صبغ العلوم بالصبغة الإسلامية، ومنها علم الاجتماع. وليس المنطلق المذهبي الماركسي أكثر قابلية للدفاع عنه بالحجج العقليَّة والموضوعيَّة من المنطلق الإسلامي، بل العكس هو الصحيح لدى الباحث المتعمق الواعي.

إن السبب في اعتقادي هو انغماسهم في التقليد والتبعية وعدم قدرتهم عن التحرر منها ومن الوقوع تحت تأثير الدراسات الغربية والخروج منها إلى الذاتيَّة والشخصيَّة المستقلة.

القضية واضحة وبسيطة: ذلك أنَّ لكل مذهب من المذاهب التي ذكرناها فلسفة للوجود، أي نظرة (أو تصور) عامة للوجود خاصّة به يدافع عنها، أو ليس للإسلام نظرة عامة للوجود عبَّر عنها القرآن الكريم بوضوح وهي نظرة متميِّزة دقيقة أشمل وأكثر استيعاباً من جميع النظرات الأخرى، ولها من سلطان الحجَّة في الدفاع عنها ما يجعلها متفوقة على جميع النظرات الأخرى.

فلماذا تنطلق المذاهب الأخرى - التي ينتمي إليها الباحثون في علم الاجتماع جميعاً ۔ من منطلقاتها المذهبية (فلسفتها الوجودية - أونتولوجي) ولا ينطلق الباحثون المسلمون من منطلق الإسلام في نظرته الدقيقة الصحيحة.

2- إنَّ في علم الاجتماع الحديث مذاهب اجتماعيَّة مختلفة لكل منها نظرته إلى الحوادث الاجتماعيَّة ومنهجه وتفسيره لها. واختلاف هذه المذاهب ناشئ عن اعتقاد كل منها بتفسير خاص للحوادث الاجتماعيَّة بترجيح أحد العوامل المؤثرة فيها.

فهناك المذهب والتفسير البيولوجي (العضوي) والمذهب النفسي والمذهب السكاني (الديمجرافي) والاقتصادي والفكري والاعتقادي وغيرها.

إنَّ الحوادث الاجتماعيَّة معقدة التركيب متعددة الجوانب والعوامل المؤثرة وعلماء الاجتماع مختلفون، ولا يزالون مختلفين في الاعتقاد بترجيح أثر أحد العوامل على غيره.

فالمجال إذن فسيح لتعدد النظرات والمذاهب في حدود البحث العلمي.

3 - في علم الاجتماع نوعان من الموضوعات والحقائق والنظريات يوضعان في جرن واحد أمام الباحث العادي وهما جد مختلفين في نظر المدققين من علماء الاجتماع أنفسهم ومن المهم جداً التفريق بينهما:

الأول منهما: الحوادث الاجتماعيَّة التي هي تحت سمعنا وبصرنا ما يمكن مشاهدته ودراسته ووصفه وتصنيفه واستخراج سننه المطردة.

إنَّ هذا القسم من علم الاجتماع هو الذي يمكن أن يكون علمياً إلى حد كبير، وإن كانت درجة هذه العلميَّة لا تبلغ ما تبلغه البحوث في الحوادث الطبيعيَّة لتعقّد الحوادث الاجتماعيَّة واستحالة إخضاعها لما تخضع له في الحوادث الطبيعيَّة من طرائق ومناهج وتجارب؛ ولذلك كان من الصعب الوصول إلى قوانين ثابتة يقينية وإلى تنبؤات علميَّة لا تتخلف.

وعلى كل حال فإن الموقف الإسلامي من هذا القسم كما نبين هو الإسهام في هذه الأبحاث والاستفادة من أبحاث غيرنا مع التَّنَبُّه للأغراض والأغلاط وأخطاء المنهج وما ينشأ عنها أحيانا من نتائج خاطئة.

النوع الثاني: من مباحث علم الاجتماع ما يتناول البحث فيه أمورا لا يمكن إخضاعها لطرائق البحث العلمي الدقيق ولا لمراقبة النتائج وذلك كالبحث في أصل اللغات ونشأة الأديان وما إلى ذلك.

إنَّ البحث في تطور اللغات وسنن تطور أصواتها ومعاني مفرداتها وتراكيب جُمَلها بعد ظهور هذه اللغات؛ هو من النَّوع الأول، الذي يمكن بحثه والوصول فيه إلى نتائج صحيحة أو قريبة من الصحة، وكذلك البحث في الظواهر الدينية بالنسبة لكل دين عند المؤمنين به هو من الأمور المشاهدة التي يمكن جمعها والنظر فيها ومقارنة بعضها ببعض وهو كذلك من النوع الأول.

أما البحث في أصل نشأة الدين فلا سبيل للوصول إليه -وكذلك أصول اللغات۔ لبعده عن حيِّز المشاهدة وتنائيه في الزمن واستحالة إخضاعه للتجربة والموازين العلميَّة. ولابدَّ هنا من استعمال التأمل والتفكر المجرد. فإذا انطلق الملحد ليبحث في أصل الدين فلا يمكنه أن يتحرر من فكرته عن الدين.

وفي القسم الثاني من المباحث الاجتماعيَّة كثرت النظريات وتعدَّدت واختلفت، ولا سبيل بإلزامنا بإحدى هذه النظريات. فليست هي من الحقائق العلميَّة التي لا يختلف فيها. بل إنَّ مثل هذه البحوث يمكن اعتبارها من قبيل ميتافيزيك علم الاجتماع، أي: من قبيل القسم الغيبي الذي يكون اقتحامه عن طريق العقل وحده منفرداً دون الاستعانة بمنهج خاص ضرباً من الحدس والتخمين والظن. وهو يقابل مثيله في علم الطبيعة حينما يسأل الكيميائي والفيزيائي نفسه عن أصل المادة ونشوئها وخلقها، وكيف خُلقت، ومن وضع لها القوانين التي تجري بموجبها.

إنَّ هذا البحث خارج عن دائرة اختصاصه وليس لبحثه فيها قيمة علميَّة كبحثه في تركيب المادة وقوانينها وتفاعلها. بل إنَّ البحث في هذه الأصول الاجتماعيَّة النظريَّة أصعب وأكثر تعقيداً.

وهذه البحوث في العلوم الطبيعيَّة تدخل فيما يسمى (فلسفة العلوم) لا في العلوم نفسها من حيث الاختصاص. ومثيلاتها في علم الاجتماع أحرى أن تُسمى بفلسفة الاجتماع، فلا تكون لها القيمة العلميَّة التي تدَّعى له.

وعلماء الاجتماع اليوم ينفرون من النسبة ونسبة علمهم إلى الفلسفة، وهم يرون أنَّه استقل عنها والتحق بالعلوم في منهجه وموضوعه ويعرِّفونه بأنه العلم الوضعي للظواهر الاجتماعيَّة ويميِّزون بينه وبين الفلسفة الاجتماعيَّة وفلسفة التاريخ.

ومع ذلك فإن الماركسيين لا يزالون يُلحقون علم الاجتماع بالفلسفة ويدرِّسونه في كلية الفلسفة في جامعة موسكو. وإذا كان الأمر كذلك فلكلٍّ فلسفته ولا نلزم بفلسفة غيرنا. وليس ثمة حتى الآن فلسفة مشتركة، كما أن هناك كيمياء وفيزياء وعلوم طبيعيَّة مشتركة في نتائجها وحقائقها.

في مثل هذه البحوث تندس العناصر الشخصيَّة غير العلميَّة سواء كان الباعث عليها فكرة سابقة يعتقد بها صاحب النظريَّة، ثم يحاول أن يلبسها حلة علميَّة ظاهرة بتطبيقها على بضع الحوادث من غير استقراء أم كانت غرضاً يقصد إليه صاحبه أو تدفعه إليه حكومة ذات سياسة خاصَّة وتحدد له النتيجة التي ينبغي أن يصل إليها بحثه «العلمي» أم كانت أيضاً نتيجة لتفكير خاطئ كعدم التمييز بين السحر والدين أو عدم التمييز بين وجود الله تعالى في ذاته وفكرة الإنسان عن الله سبحانه وعقيدته به.

فالماركسيون مثلاً ينطلقون رأساً من إنكار حقيقة وجود الله سبحانه، ثم يأخذون في بحث كيف نشأت - في زعمهم- فكرة الإله لدى البشر وكيف تطورت والأمران مختلفان جداً. وهذا يشبه ترك البحث في ماهية الهواء وتركيبه، ثم البحث عن رأي الناس في الهواء كيف نشأ وكيف تطور. ورحم الله أسلافنا حين كانوا يفرِّقون بين الحقيقة الخارجيَّة والحقيقة الذهنيَّة والحقيقة اللفظيِّة.

من هذا الباب نظريَّة «أوكست كونت» المعروفة بنظريَّة الأحوال الثلاث؛ إذ يزعم أن المرحلة الأولى التي مر بها الإنسان هي المرحلة الدينيَّة ثم المرحلة الميتافيزيكية (الغيبية) ثم العلميَّة، فيجعل الدين سلفاً للعلم إذ كان يحل المشكلات ويفسر الحوادث ثم حلَّ العلم محله وحلَّ التفسير العلمي محل التفسير الديني مع أنَّ لكل منهما موضوعاً ومجالاً للاختصاص. فالعلم يبحث في تركيب المادة مثلاً وقانون سقوط الأجسام أو في درجة كثافة الأجسام، وهذه أمور لا يبحثها الدين، فالعلم يبحث كيف تجري حوادث الطبيعة، ووفقاً لأي قانون ولكنه لا يبحث في الأولى ويتركها لعقول البشر ولكنَّه يبحث في الثانية. وهذا على الأقل موقف الإسلام في هذا الموضوع.

قد تكون نظريَّة «أوكست كونت August Conte» منطبقة على الدين المسيحي كما وصل إلى أوربا، ولكن جهله بالإسلام جعله يعمم هذا التعميم. ونظريَّة «كونت» هذه المغلوطة أحدثت آثاراً سيئة جداً في عقيدة كثير من أبناء المسلمين.

ومن هذا النوع من المباحث الاجتماعيَّة: البحث عن الدين وأصله. ينطلق الباحثون الغربيون من مسلَّمات عندهم هي نَبتُ بيئتهم ونتيجة رد فعل المسيحيَّة الغربيَّة التي هي مزيج عجيب من الوثنية الرومانية والفلسفة اليونانية والمسيحية أو النصرانية الأصلية التي جاء بها عيسى، وانتهى الأمر بها إلى تناقضات ومصادمات للعقل، فاصطدمت بالفكر الفلسفي النقدي والفكر العلمي Scientific Scientifique اللَّذين وفدا من الثقافة الإسلامية في الأندلس وصقلية.

أن النصرانية المبدلة المغيرة والفكر العلمي الإسلامي المصدر اصطدما فكان العلم الفكر والنقدي مصادِمَين للدين في نظر الغربيين. وقد انتهى بهم ذلك إلى نظريات وآراء في الدين غير صحيحة إذا عُممت ولا تنطبق على الإسلام.

فالدين في نظرهم ذو منشأ بشري وهو ظاهرة ومؤسسة institution بشرية وهو مرحلة سبقت العلم كنظريَّة لتفسير حوادث الكون كما سبق التشريع الديني التشريع الوضعي الذي هو نهاية التطور.

هذه الأفكار هي مسلَّمات عند الغربيِّين وليست كذلك عندنا، ولا عند أي منصف يعرف الإسلام معرفة عميقة صحيحة.

والدليل على أن آراء علماء الاجتماع في هذا الموضوع ليست حقائق علميَّة أنهم مختلفون جداً في تعليل الدين وعقيدة الإله، ويكفي أن نُعدد عناوين هذه النظريات التفسيرية أو إبرازها:

النظريَّة التي تُرجع الأمر إلى عبادة الأرواح أولاً Animsime والنظريَّة التي تعتبر عبادة الطبيعة هي البداية والنظريَّة التي تنطلق من عبادة الحيوان إلى أنَّه جد الجماعة التي تعبده على زعمهم وهذه النظريَّة الطوطمية ونظريَّة تجسد الضغط الاجتماعي في عقيدة الإله وهي نظريَّة دركایم.

ولو كان الأمر يدور حول حقيقة علميَّة لما اختلفوا هذا الاختلاف الكبير وأسفّوا أحياناً في التعليل إسفافاً عجيباً. وأكثر هذه النظريات نتيجة بحوث ناقصة في الأقوام الابتدائية في أفريقيا وأمريكا في القرنين الأخيرين، وهي في هذا المجال مشوبة بكثير من الجهل في فهم الأقوام، والنقص في الاستقراء.

ومن هذه النظريات التي لا تقوم على أسس علميَّة الادعاء بعدم وجود فضائل ومُثل عليا أخلاقية ذاتيَّة والقول بنسبية الأخلاق وهي نظريَّة أحد زملاء دركايم وهو «ليفي برول» - وهما يهوديان- الذي يقول في كتابه «الأخلاق وعلم العادات» أنَّه ينفي وجود ما يسمى بالأخلاق أو علم الأخلاق (La Moral)، وهو يُعتبر من أكبر الاختصاصيين في الأقوام الابتدائية وله في ذلك كتب مشهورة ثم أعقبه «البير بایت Bayet» في كتابه «علم الظواهر الأخلاقية».

ومن هذا الباب أيضاً نظريَّة كارل ماركس (1883 - 1818) في تفسير التاريخ بوساطة الصراع الطَّبقي والعامل الاقتصادي، وبوجه خاص علاقات الإنتاج، ونظريته في المراحل المتتابعة من القبلية الشيوعية الابتدائية إلى الرق إلى الإقطاعية فالرأسمالية فالاشتراكيَّة، فإنها مجرد افتراضات لم يقم عليها دليل. بل إن بعض البلدان الأوربية كالسويد لم تمر في المرحلة الاقطاعيّة وروسيا التي حصلت فيها الثورة الشيوعية هي أقل تصنيعاً بدرجة كبيرة من إنجلترا وألمانيا وفرنسا التي لم يحصل فيها ما تنبأ به.

وإنَّ كثيراً من الماركسيين ثاروا على نظريات ماركس وانتقدوها انتقادات أضعفت كثيرا من شأنها ومنهم Henrie de Man في عدد من كتبه وكارودي Garouei وغيرهما.

إن نظریات ماركس إذا دُرِست باعتبارها ظاهرة اجتماعيَّة في عصر معيَّن؛ يتبيَّن أنها ردة فعل لما في عصره وبيئته من ظلم الرأسماليين ونقمة الفقراء في مجتمع تعاظمت فيه قيمة المال والحياة المادية حتى أصبحت في قمة القيم، فيتبين أنها نتيجة لتلك البيئة والعوامل أكثر من أن تكون تعبيرا عن الحقيقة.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين