نبي الرحمة (14)

المؤمنون من غير أهل مكة:

وكما عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل. منهم:

١-سويد بن صامت: كان شاعرًا لبيبًا، من سكان يثرب، يسميه قومه-الكامل- لجلده وشعره وشرفه ونسبه، جاء مكة حاجاً أو معتمراً، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، فقال: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وما الذي معك؟) قال: حكمة لقمان. قال: (اعرضها عليَّ). فعرضها، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا لكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليّ،هو هدى ونور)، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن. فلما قدم المدينة لم يلبث أن قتل في وقعة بين الأوس والخزرج قبل يوم بعاث. وقد أسلم في السنة الحادية عشرة من النبوة.

٢- إياس بن معاذ: كان غلاماً حدثاً من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حرب بعاث في أوائل سنة ١١ من النبوة، إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين ـ وكان الأوس أقل عدداً من الخزرج ـ فلما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقدمهم جاءهم، فجلس إليهم، وقال لهم:(هل لكم في خير مما جئتم له؟) فقالوا: وما ذاك؟ قال:(أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل عليّ الكتاب)، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع ـ رجل من الوفد ـ حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال: دعنا عنك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش. بعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته، فلا يشك أنه مات مسلماً.

٣-أبو ذر الغفاري: كان من سكان نواحي يثرب، عن ابن عباس قال: قال أبو ذر: كنت رجلًاً من غفار، فبَلَغَنا أن رجلًاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وائتني بخبره، فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله، لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جراباً وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد.قال: فمر بي عليّ. فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. فقال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أسأله ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء. قال: فمر بي عليّ فقال: أما زال للرجل يعرف منزله بعد؟ -أي: أمَا آنَ للرَّجل يعرِفُ منزلَه بعدُ- قال: قلت: لا. قال: فانطلق معي، قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له: أما إنك قد رشدت. هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت إلى الحائط كإني أصلح نعلي، وامض أنت. فمضى، ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقلت له: اعرض عليّ الإسلام. فعرضه، فأسلمت مكاني، فقال لي:(يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل). فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد، وقريش فيه، فقلت: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا، فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكب عليّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلاً من غفار؟ ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عني. فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالأمس.

٤-طفيل بن عمرو الدوسي: كان رجلاً شريفاً، شاعراً لبيباً، رئيس قبيلة دوس، قدم مكة في عام ١١ من النبوة واستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئًا. يقول طفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً، فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسى: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر، ما يخفي عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمي، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له: اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن. فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له: إني مطاع في قومي، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، فدعا.

وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل الله نوراً في وجهه مثل المصباح، فقال: اللهم في غير وجهي،أخشى أن يقولوا: هذه مثلة، فتحول النور إلى سوطه، فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه في الإسلام، وهاجر بعد الخندق، ومعه سبعون بيتًا من قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسناً، وقتل شهيداً يوم اليمامة.

5-ضِمَاد الأزدى: كان من أزْدِ شَنُوءَة من اليمن، وكان يرقي من هذا الريح -الجنون-، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد). فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه.

ست نسمات طيبة من أهل يثرب:

في موسم الحج سنة ١١ من النبوة وجدت الدعوة الإسلامية بذوراً صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالها لفحات الظلم حتى تغير مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ.

فقد كان من حكمته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل, وخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلي، فمر بمنازل ذهل وشيبان بن ثعلبة وكلمهم في الإسلام، ثم مر بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمون, وكانوا ستة نفر من يثرب كلهم من الخزرج، وهم:

١-أسعد بن زُرَارة -من بني النجار-. ٢- عوف بن الحارث بن رفاعة بن عَفْراء -من بني النجار-. ٣- رافع بن مالك بن العَجْلان -من بني زُرَيْق-. ٤-قُطْبَة بن عامر بن حديدة -من بني سلمة-. ٥ ـ عُقْبَة بن عامر بن نابي -من بني حَرَام بن كعب-. ٦ ـ جابر بن عبد الله بن رِئاب -من بني عبيد بن غَنْم-.

ومن سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم يهود المدينة، أن نبياً يبعث في هذا الزمان سيخرج، فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما لحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم:(من أنتم) قالوا: نفر من الخزرج، قال:(من موالي اليهود) أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال:(أفلا تجلسون أكلمكم) قالوا: بلى، فجلسوا معه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنّكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته، وأسلموا. وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت، ولا يزال لهيبها مستعراً، فأمّلوا أن تكون دعوته سبباً لوضع الحرب، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ولما رجعوا المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

استطراد ـ زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعائشة: وفي شوال من هذه السنة ـ سنة ١١ من النبوة ـ تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبنى بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين

الإسراء والمعراج:

قال ابن القيم: أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البُرَاق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً. وربط البراق بحلقة باب المسجد.

ثم عُرج به من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته. وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره. ثم عُرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرّا بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عُرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم عُرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، ثم رُفع له البيت المعمور. ثم عُرج به إلى الجبّار جل جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى فقال له: بم أمرك ربك؟ قال: (بخمسين صلاة). قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه فوضع عنه عشراً، ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: (قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم)، فلما بعد نادى مناد: (قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي).

رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج أمورًا عديدة: عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.

ورأى أربعة أنهار في الجنة: نهران ظاهران هما: النيل والفرات، ونهران باطنان. ورأى مالكاً خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلماً لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعاً من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم.

ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين.

ورأى النساء اللاتي يُدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عيراً من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير نَدَّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء.

قال ابن القيم: فلما أصبح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً، وأبى الظالمون إلا كفوراً.

يقال: سُمي أبو بكر رضي الله عنه صديقاً لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين