من ذكريات ضابط في القفقاز

تأليف: فيودر تورناو

ترجمة: عمر شابسيغ

قراءة: محمود نور الدين شعبان

قراءة ذكريات السياسيين والعسكريين في الحقب التاريخية المختلفة توضح آلية حركة التاريخ ودوافع الأحداث التي حصلت في عصر ما، وهذا بالنسبة للأشخاص المشهورين والمعروفين وأما ذكريات المغمورين فهي تبين كثير من نقاط الغموض التي حصلت في زمان ومكان معين، وإذا وصلنا بها ما نعرفه من مذكرات وأحداث تاريخية بارزة اكتملت الصورة التاريخية واتضحت خفايا مستورة في ثناياها.

والمكان الذي نتحدث عنه هو القفقاز بين سواحل البحر الأسود وبحر قزوين، والزمان هو الثلث الأول من القرن التاسع عشر، هذه المنطقة الجبلية الوعرة كثيفة الغابات خفية التضاريس عاش فيها أقوام وشعوب شتى، هم بقايا لشعوب هجَّرتها الحروب وسنن التدافع، في كل قرية من قراها تكاد ترى لغة مختلفة وقومية أخرى، دخلت شعوب القفقاز الإسلام في القرون الأولى عندما وصلت فتوحات الصحابة رضي الله عنهم إلى مدينة دربند)1) "باب الأبواب"، ففتحوا باب الجبال ولكنهم فتحوا قلوب أهل البلاد للإسلام وصار أغلبهم مسلمون وانتقلوا من وثنية إلى نور التوحيد.

وكانت الأقوام تلك تجمعها العصبية القبلية الشديدة فانتقل جزء من العصبية إلى العصبية الإسلامية واجتمعوا على عقيدة الإسلام مع بقاء جزء من العداوات القديمة بينهم، إلا أن الرابط الذي وحدهم هو عقيدة الجهاد للكفار الروس والقزاق وأمثالهم من مسيحيي ووثني المنطقة، وفي عصر الدولة العثمانية دخلت المنطقة تحت حمايتها اسميًا وأقام الأتراك فيها بعض الحصون العسكرية لإثبات التبعية، وكانت شعوب القفقاز سد حماية للدولة العثمانية والعالم العربي ضد نزوات القيصرية الروسية الفتية.

ولكن الحدث التاريخي الذي غيَّر هذه المعادلة عندما خسرت الدولة العثمانية الحرب أمام روسيا سنة 1829 وتنازلت بموجبها عن حمايتها للقفقاز وسواحل البحر الأسود، ومع أن الخضوع كان اسمياً إلا أنه كان رادعاً للدولة القيصرية الروسية عن غزو بلادهم واحتلالها. وبعد سقوط هذه الحماية الاسمية تجرأ الروس على احتلال هذه البلاد وكان الدافع لهم جانبين: الجانب العقدي والديني حيث صرح الروس في أغلب كتبهم التاريخية أنهم يقاتلون أعداء المسيح المسلمين.

والجانب الثاني: التوسع للحصول على الثروات المختلفة التي امتلأت بها بلاد القفقاز وصولاً إلى البحر الأسود وقزوين، وكانت دعواهم في ذلك هي دعوى كل محتل غاصب وهي تمدين تلك البلاد ونقلهم إلى الحضارة.

وبين أيدينا كتاب مذكرات لضابط روسي عمل جاسوساً في المنطقة من عام 1830 وتنقل في المنطقة وتعرف على أهلها، وكان غرضه جمع المعلومات عن تضاريسها وعادات الناس ليساعد قومه في احتلالها، وقد أسر سنتين ولكنه استطاع أن يهرب بخيانات من بعض ضعاف النفوس، ونقل تلك المعلومات إلى الروس، وتمكن الروس من استعمارها بعد قتال طال لمئة سنة ذهب ضحيته مئات الألوف من الشهداء وملايين المشردين في الأرض، بالإضافة إلى مئات الألوف من الجنود الروس والقزاق المتحالفين معهم.

والضابط هو البارون فيودر تورناو، نبيل من طبقة النبلاء الروس، ولد في روسيا البيضاء سنة 1810 ومات سنة 1890، وهو ضابط وسياسي وأديب، له عدة كتب تتحدث عن ذكرياته وتجاربه العسكرية والسياسية، ومن أهمها كتاب "ذكريات ضابط في القفقاز" التي تحدث فيه عن رحلاته الطويلة ما بين نهر كوبان ولابا وسواحل البحر الأسود في مناطق الشركس والقبرطاي والأبزاخ والأديغة.

وطبعاً لم يكن الضابط فيودر حياديًا في كتابته، فهو يميل إلى دينه النصراني وعرقه الروسي ودولته القيصرية، وهذه طبيعة عمله ولكن لا يمكن أن ننكر صدقه في وصف المنطقة، وإنصافه في وصف أهلها وإعجابه بأخلاقهم وطبائعهم، كما لا يمكن أن ننكر أخلاق الفرسان التي تمتع بها في محاولاته للوفاء بالوعود التي ضربها لأمراء تلك المناطق، ومع كل ذلك تبقى نظرته علوية ومحاولاته لتبرير غزو الروس ضعيفة كمحاولة أي مغتصب آخر.

يبدأ ذكرياته بهذه الحكاية المهمة في معانيها والتي تعرفنا على أحد أسباب انطلاق الحملات الروسية في ذلك الوقت بكل شراسة على منطقة القفقاز، وهي أنه بعد معاهدة أدرنة 1829 وخسارة الدولة العثمانية وغض طرفها عن احتلال الروس للقفقاز فوجئ أهل القفقاز بهجوم الروس الشرس على بلادهم، واجتمع الجنرال الروسي رايفسكي مع أمراء الشركس ليحاول توضيح حق روسيا في المنطقة، بحسب تعبيره الباهت، وقال لهم بالحرف: السلطان العثماني قدَّمكم هدية للقيصر. فأجابه أحد الأمراء: آه، فهمت الآن. وأشار إلى طائر على غصن شجرة وقال: أيها الجنرال إنني أهديك ذلك الطائر فخذه. وانتهى اللقاء.

فيحاول الكاتب أن يبرر سبب الهجوم الروسي من بداية الكتاب ولكن حجته باهتة، وجواب الأمير الشركسي كان خير جواب لذلك التبرير، ولكننا نفهم الحدث التاريخي في خسارة الدولة العثمانية للحرب والآثار المدمرة لتلك التفاهمات الدولية التي تستثني الشعوب.

ثم انطلق الكاتب يتحدث عن ترتيب عمله وسريته، وكيف اعتزل الناس فترة من الزمن لكي لا يُعرف، ولن ألخص الكتاب فالمتعة في قراءة تفاصيله ولكن سأذكر بعض النقاط التي أراها مهمة.

فالاحتلال الروسي حاول استمالة السكان وإخضاعهم بكل الطرق، فمنها القوة والقتل والتدمير بالإضافة إلى التشريد وإسكان القزاق مكان السكان الأصليين أصحاب الأرض وبلغتنا اليوم التغيير الديموغرافي، وكذلك ببث الفرقة بين القبائل العائلات وإيواء المجرمين منهم والخونة وإطلاق يدهم، ثم بمحاولة التقرب إلى الناس ببعض الميزات وهذه الأخيرة ذكرها الكاتب في معرض حديثه عن أحد الجنرالات الروس الذي أقام منشرة آلية وصار ينشر الخشب للسكان الذين لم يكونوا يقتربون من الروس ولكن مع مر الأيام أصبحوا يزورونهم من أجل تلك المنشرة فقال الكاتب:

"وهكذا نرى كيف كان من السهل التقارب مع عدو جاهل وذلك بوسائط سهلة إذا كانت هذه الوسائل تؤمن للعدو منافع مادية وتدفعه لأن ينسى ولو مؤقتًا الظلم الذي يقع على الشعب الذي احتلت أراضيه"

فيعترف الضابط بالظلم الروسي والاحتلال الغاصب وتظهر الحقيقة واضحة هنا ولا يخفى ما حاول اخفاءه في كل صفحات الكتاب، وأظهر الوجه القبيح للاستعمار واستغلال حاجات الناس، ولكنه مع ذلك أقرَّ بأن النسيان مؤقت ولن يدوم كما ذكر.

وكذلك نرى إعجاب الكاتب ببعض صفات القفقازيين، وصبرهم العجيب في القتال والحرب للروس رغم فقدهم أراضيهم وأهلهم، وبالرغم من التفوق الروسي الكبير من ناحية العدد والعدة، فإنهم كانوا يقاتلون دون كلل ولا ملل، وكأن القتال والجهاد للروس قدر مكتوب عليهم، وكانت ثقافة الموت شهيداً منتشرة عندهم لا يخافون منها. فكان الشركسي يقاتل حتى آخر رجل، فإذا حوصروا قتلوا خيولهم وتحصنوا خلف جثثها وأطلقوا النار على عدوهم، حتى إذا انتهى رصاصهم كسروا بنادقهم ومسدساتهم وسيوفهم، واستلّوا خناجرهم الحادة القصيرة التي يقاتلون فيها بمهارة حتى أنك لا تستطيع أسر شركسي يمسك خنجرًا، بحسب تعبيره.

وذكر كثيراً عن جمالهم وجمال لباسهم وأكثر ما تعجب من خيلهم وتدريبها ومهارتها في الحركة في الجبال، وتكلم عن استخدامهم السلاح بمهارة عالية، وتحدث عن أدبهم وتعاملهم الراقي مع عدوهم مع أنه كان يناقض كلامه في اعتبارهم متخلفين بدائيين أحياناً، ولم يعز علو هذه الأخلاق إلى الإسلام بل نسبها إلى العادات والتقاليد والتي هي من الإسلام أغلبها، فمن هذا الرقي الأخلاقي أنه عندما كان في الأسر أجاعه الأمير تامبيوقه آسره ليكتب رسالة إلى الدولة الروسية للحصول على فدية لاطلاق سراحه، فغضب منه أهل القرية وشيوخها، وقالوا: لا يجوز معاملة الأسير بهذه الطريقة. فاضطر الأمير أن يقدم له الطعام والشراب، وكانت نساء القرية تصنع طعامًا خصيصًا له.

وكل من التقاه في الأسر كان يعامله كضيف نزل عندهم لا أسيرًا حتى أن آسره الأمير تامبيوقه كان فقيرًا بسبب احتلال الروس لأراضيه، ولكنه كان يطعم الأسير ولا يطعم أولاده وخدمه الذين يجلسون بعيدًا ينظرون إليه جائعين. فكيف يعتبر أن هؤلاء الناس متخلفين وهو المتحضر؟

ومن الأمور التي استغلها الروس في اغتصابهم تلك المنطقة هي معرفة الروس لطبيعة الخلافات القومية فاستغلوها أبشع استغلال وكانوا يدعمون أميراً على حساب آخر ثم يخونون من دعموا وينقلون تأييدهم لغيره حتى تستمر النزاعات بينهم.

وكان للخلاف والنزاع بين القبائل القفقازية أكبر الأثر في سقوط القفقاز تحت الاحتلال الروسي الماكر، وقد قالها بصراحة الحاج "جان سيد" للضابط الروسي: "لو كان الشراكسة أكثر حكمة ولم يتنازعوا فيما بينهم ولم يحاربوا بعضهم بعضاً لكانت ستمر قرون قبل أن يتحقق ما يريده الروس، هذا إذا تحقق أبدا، أنا لا أزمع الخضوع للروس أبداً ولا أستطيع أن أخضع لإرادة غريبة وأتبع قوانين ومفاهيم غريبة عني، سأموت كما ولدت".

طبعا بغض النظر عن النقل إذا كان صحيحاً أو لا، لأنني لا أبرئ الكاتب من الكذب، فأنا أفهم من كلام الحاج جان سيد أنه لا يقبل الخضوع لغير إرادة الله وأنه يريد الموت شهيداً، وقد تحقق ما أراد بعد أكثر من 6 سنوات من لقاء الكاتب عندما استشهد في قتال الروس مع أنه تجاوز السبعين من عمره.

لن أستمر في سرد الأحداث فالكتاب يستحق القراءة لكل مهتم بمنطقة القفقاز، ولكل مسلم يريد معرفة تاريخ أمته، ولكن أريد أن أنبه إلى أن قراءة المذكرات هذه تكشف نفسية المحتل الروسي وأساليبه التي لم تتغير، بل تطورت مكراً وخداعًا وجرى تطبيقها بعد أكثر من 150 سنة في الشيشان وفي سوريا اليوم، وليست أحداث المصالحات في درعا ببعيدة عنا.

أكرر أن قراءة المذكرات تجعلنا أكثر وعيًا وفهمًا لما يحدث حولنا من مكر دولي متنوع، ويزيدنا صبرًا في جهادنا المتنوع في هذا العالم السريع التقلب.

(1)تقع حاليا ضمن جمهورية داغستان التابعة لجمعوريات الاتحاد الروسي.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين