منهجُ صناعةِ القدوةِ الحسنةِ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ (2 - 5)

المنهج الربَّاني في تهيئة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام

أولا: المنهج الربَّاني في تهيئة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام

لا شكَّ أنَّ مقام النبوة والرسالة هو مقام اصطفاء واجتباء من الله تعالى، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، ولكن بعد الاصطفاء كان هناك الإعداد والتهيئة للقيام بأعباء الرسالة، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لأنبيائه كل الوسائل المادية والأسباب الدنيوية التي تؤهلهم ليكونوا قدوة حسنة للناس من بيئة وعائلة وظروف اجتماعية وصفات خلقية وخُلقية، فلم يولد نبي من سفاح ولا من نسب سيئ، وما من نبي إلا ورعى الغنم ليتعلم من صنعته بها رعاية البشر، وقد تعرضوا في حياتهم لكثير من المواقف التي تمتحن نفس الإنسان وتعلمه الصبر والحلم والحكمة أخلاقًا متممة لما فطروا عليه من الخير والبركة، وبعد كمالهم البشري أوحى الله إليهم بالنبوات، ولم تكن المعجزات وخوارق العادات إلا تتميمًا للعناية الربانية الممتدة لسنوات من حياتهم قبل تلقي الوحي، فلم يكن الأنبياء طفرة في كون الله يصلح أحدهم للنبوة وحمل أعبائها في يوم وليلة، إذ ليس لذلك وجود في قوانين الله في كونه - وإن كان قادرا على ذلك - فقد جرت عادة الله في خلقه إذا اصطفى عبدًا أن يهيئ له أسباب تكوينه الحسية والمعنوية كاملة، ثم يمنَّ عليه بعدها بالنبوة، فيتعرض قبل النبوة لأنواع شتى من الاختبارات والمصاعب التي تصقل النفوس وتهيئها لقيادة البشر إلى طريق الحق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: (أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، ولقد نوّه البيان الإلهي بهذا الإعداد للأنبياء في آيات كثيرة، واسمع ما قاله الله تعالى في تهيئة موسى عليه السلام وإعداده للقيام بمهمته في الدعوة والتبليغ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي* إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي* اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي* اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 38- إلى-44]. ولنا مع هذه الآيات الكريمة وقفتان:

الوقفة الأولى: مع قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39].

يُقَال: صَنَع فلَان جَارِيَته إِذا ربَّاها، وَفُلَان صَنِيع فلَان إِذا ربَّاه وأدَّبه وخرَّجه (1).

قال الطاهر بن عاشور: (وَالصُّنْعُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّرْبِيَةِ وَالتَّنْمِيَةِ، تَشْبِيهًا لِذَلِكَ بِصُنْعِ شَيْءٍ مَصْنُوعٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ نِعْمَةً عَظِيمَةً: هُوَ صَنِيعَةُ فُلَانٍ) (2).

قال صاحب الظلال في بيان مناسبة هذه الآية: (إنَّ موسى عليه السلام ذاهبٌ لمواجهة أقوى مَلِكٍ في الأرض وأطغَى جبَّار، إنَّه ذاهبٌ لخوض معركة الإيمان مع الطغيان، إنه ذاهبٌ إلى خِضمٍّ من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر، ثم مع قومه بني إسرائيل، وقد أذلَّهُم الاستعباد الطويل وأفسدَ فطرتهم وأضعفَ استعدادهم للمهمَّة التي هم منتدبون إليها بعد الخلاص، فربُّهُ يُطْلِعُهُ على أنَّه لن يذهب غَفْلًا من التهيؤ والاستعداد، وأنَّه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد) (3).

الوقفة الثانية: مع قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41].

(يُقَالُ: اصْطَنَعَ فُلَانٌ فُلَانًا اتَّخَذَهُ صَنِيعَةً، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الصُّنْعِ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الشَّخْصِ حَتَّى يُضَافَ إِلَيْهِ، فَيُقَالَ هَذَا صَنِيعُ فُلَانٍ) (4)، وَالْمَعْنَى: (اصْطَنَعْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي لِتَتَصَرَّفَ عَلَى إِرَادَتِي) (5)، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (هَذَا تَمْثِيلٌ لِمَا خَوَّلَهُ مِنْ مَنْزِلَةِ التَّقْرِيبِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّكْلِيمِ، مَثَّلَ حَالَهُ بِحَالِ مَنْ يَرَاهُ الْمُلُوكُ بِجَمِيعِ خِصَالٍ فِيهِ وَخَصَائِصَ؛ أَهْلًا لِأَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ مَنْزِلَةً إِلَيْهِ وَأَلْطَفَ مَحَلًّا فَيَصْطَنِعُهُ بِالْكَرَامَةِ وَالْأَثَرَةِ وَيَسْتَخْلِصُهُ لِنَفْسِهِ) (6)، وقال الراغب الأصفهاني: (الاصْطِنَاعُ: المبالغةُ في إصلاح الشيء) (7).

وكذلك الحال في قصة داود: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [سورة البقيرة: آية 251] وسليمان {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [سورة الأنبياء: 79] وعيسى {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [سورة آل عمران: آية 46] وكذلك حال يوسف وإسماعيل وصالح عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء، فقد تربوا تربية خاصة.

وهكذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه بقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [سورة الضحى: آية 6-8]. 

عندما يفهم الإنسان المسلم المنهج الرباني في ظهور الرسل والأنبياء والمخلصين يعلم أنه من العبث بمكان أن تنتظر أمة ضائعة قادة مخلصين يظهرون كطفرة في التاريخ ليغيروا أقدارها، يقول ربنا سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: آية11] وهذا هو الحق، فنحن نؤمن بأن نخبة القدوة الصالحة والقيادة السوية لها أكبر الأثر في خلاص الأمم الضائعة ونهضتها - فقد أثبتت ذلك التجربة - ولكن ما يجب أن نؤمن به أيضًا أن الأمة بجمعها، وبكل المصلحين فيها مكلفة بالإعداد لظهور النخبة وتهيئة البيئة الحاضنة لهم، والجيل الذي يحمل القابلية للسير من خلفهم ليتغير قدرهم، وهذا معنى قول ربنا: {إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: آية11].

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الأولى هنا

(1) الأزهري، محمد بن أحمد الهروي، "تهذيب اللغة"، تحقيق: محمد عوض مرعب، (ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 2001م)، 2: 24

(2) ابن عاشور، "التحرير والتنوير"، 16: 218

(3) سيد قطب، "في ظلال القرآن"، 4: 2334

(4) أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف بن علي، تحقيق: صدقي محمد جميل (بيروت: دار الفكر، 1420هـ) 7: 334

(5) الشوكاني، "فتح القدير"، 3: 432

(6) الزمخشري، "الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل"، 3: 65

(7) الراغب الأصفهاني، "المفردات في غريب القرآن"، ص: 493 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين