منهجُ صناعةِ القدوةِ الحسنةِ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ (1 - 5)

قال بعض الحكماء: (إذا أردتَ أن تحصد بعد شهور، فازرع قمحًا، وإذا أردت أن تحصد بعد سنوات فازرع شجرًا، وإذا أردت أن تحصد بعد جيل فازرع رجالًا).

منذ مطلع الرسالة المحمدية نجد النبي صلى الله عليه وسلم يوزع وقته في خدمة الدين، ما بين الدعوة إليه والعناية بأتباعه لتنشئتهم قادةً وقدوات للمسلمين الجدد، كثيرون أولئك الدعاة والقادة الذين يحرصون على الكم على حساب الكيفية في كل زمان وفي كل ميدان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قمة التوازن بين الكم والكيف، فتراه يعتني بكل فرد من أصحابه عناية خاصة ويوجهه إلى الميدان الذي يتلاءم مع تكوينه النفسي والشخصي، حيث وجه بعضهم ليكونوا قدوة في التجارة، وبعضهم قدوة في الحرب، وآخرين قدوة في السياسة أو العمل الاستخباراتي أو حتى العمل الإنساني أو الاجتماعي والأخلاقي.

إن هذه التربية الخاصة والعناية الخاصة التي تلقاها كبار الصحابة رضوان الله عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ هي السر الحقيقي في قوة الإسلام وسرعة انتشاره، فلم تمر إلا سنون قليلة حتى تحول الأعراب إلى قادة، ورعاة الغنم والإبل من أبناء القبائل البعيدة عن الحضارة والمدنية إلى معلمين وحكماء ينشرون الحضارة والعلم والمدنية والأخلاق الفاضلة بين أبناء الأمم الأخرى.

إن الأزمات التي تعانيها أمتنا اليوم كثيرة وكبيرة، ولعلنا نستطيع اختصارها بكلمة "الضياع"، نعم إننا نعاني من الضياع في كل ميادين الحياة النظرية أو العملية الدينية أو الدنيوية منها، والسبب في ذلك غياب الدليل الصادق والقدوة الحسنة والقائد المخلص والخبير، ولعل صناعة القيادة والقدوة الحسنة في كل ميادين الحياة سيكون الطريق الذي يأخذ بيد الأمة إلى الرشاد والصحوة المنتظرة.

مفهوم صناعة القدوة اليوم:

إن مفهوم الصناعة اليوم لم يعد قاصرًا على الصناعات الخفيفة ولا حتى الثقيلة، سواء المعدنية منها أو غيرها، وإنما تعدَّى الأمر إلى صناعة السينما، وصناعة الخبر، وأخيرًا وليس آخرًا صناعة الرمز أو النجم، وليس المقصود بصناعة النجوم أو الرموز أو القدوة الحسنة هنا، الصناعة المادية المحسوسة، أي أن يكون هناك مصانع تقدِّم للمجتمع قوالب بشرية جاهزة ومسيّرة في اتجاه وطريق معين، بل المقصود إيجاد البيئة السليمة النظيفة لاحتواء هؤلاء الأشخاص، الذين تميّزوا ببعض الخصائص والصفات الحسنة، وتوجيههم التوجيه الصحيح، والتدرج معهم في مراقي الكمال والاستقامة، وإزالة العقبات والعوائق التي تعترض طريقهم، ورعايتهم ماديًّا ومعنويًّا وإعلاميًّا، فصناعة القدوة الحسنة عملية متكاملة تتضافر في سبيلها جهود بشرية عديدة، ليكون بعد ذلك قدوة حسنةً للآخرين، وشخصيّةً قويَّةً مؤثِّرةً في سلوك الناس وتوجهاتهم.

حرص الشريعة الإسلامية على تربية القدوة الحسنة:

كما اهتمَّت الشريعة الإسلامية برعاية جميع المجتمعات الإنسانية عموما؛ فقد أولت عناية فائقة للمواهب التي يتمتع بها بعض الأفراد خصوصًا، وعملَتْ على تنميتها وتقويتها، ليكون هؤلاء الأفراد النابغون قدوةً للناس في فعل الخير والدلالة عليه، ورموزًا في الاستقامة والصلاح والعطاء، وأداةً فاعلةً ومؤثِّرَةً في إصلاح المجتمع وتقويم سلوكه وتصويب قيمه وأفكاره.

وإن للإسلام في ميدان صناعة القدوة الحسنة منهجًا متكاملًا تتضافر فيه الأوامر الربانية مع التوجيهات النبوية، تضاف إلى ذلك تجربة إسلامية عريقة تمتد من زمن السلف الصالح إلى عصور النهضة الإسلامية الممتدة لأكثر من ألف سنة من عمر هذه الأمة، وسأعرض لها هنا بما يجلي جوانبها.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

(1) فتحي، د محمد، "فنّ صناعة الرموز خطوة بخطوة"، (ط1، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 1429ه، 2008م)، ص: 4

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين