مفاهيم ينبغي أن نتفق عليها قبل أي نقاش (٢)

٢-(السنّة) وهي من أكثر المصطلحات التي يقع فيها الإشكال بين غير المختصين وذلك بسبب تعدد معانيها الشرعية، وهنا أرى من واجبي تبيان هذه المعاني، وهي باختصار؛

 

أولًا: السنّة الإلهية، وهي هنا مصطلح قرآني ومعناه؛ الناموس الإلهي القدري الذي يحكم الكون ويجري على الخلق بقدرته وحكمته سبحانه (ولن تجد لسنة الله تبديلا)، ويدخل في هذا المعنى السنن الكونية التي ينبغي احترامها، فالله تعالى هو الذي جعل الماء يروي من العطش وجعل النار تحرق وجعل الزواج سببا للذرية..الخ ولذلك قالوا؛ من سأل الله الولد دون زواج فقد أساء الأدب مع الله. وإذا حصلت معجزة كنجاة سيدنا إبراهيم من النار وخلق سيدنا عيسى من غير زواج، فهذه اسمها خوارق، والخوارق نؤمن بها ولا نقيس عليها، بل القياس على سنّة الله التي هي الأصل، فمن زعم أنه يقتدي بسيدنا إبراهيم فعرّض نفسه للإلقاء في النار مات عاصيا والعياذ بالله.

 

ثانيا: السنّة التي أمرنا النبيّ عليه الصلاة والسلام بالتمسك بها (عليكم بسنّتي) وهي هنا بمعنى الهدي النبوي الشامل أي الإسلام كله (عقيدة وشريعة وعبادة وأخلاقًا) ويدخل في هذا المعنى القرآن نفسه، لأنه أصل الرسالة المحمدية، وما بعده تابع له. ولا شك أن من هديه عليه الصلاة والسلام التمسك بالقرآن الكريم وتقديمه على غيره.

 

وحينما يوصينا عليه الصلاة والسلام بسنّة الخلفاء الراشدين فالمقصود بها طريقتهم في العمل بالكتاب والسنة وليس أنهم يستقلون بسنة أو تشريع خاص بهم، بل هم متّبعون لهديه وسنّته عليه الصلاة والسلام.

 

ثالثا: السنّة النبوية المبيّنة للقرآن الكريم (لتبيّن للناس ما نزّل إليهم) وهي مجموع أقواله وأفعاله وتقريراته عليه الصلاة والسلام، والتي هي المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن الكريم، وفيها ما في الإسلام من عقيدة وأحكام وأخلاق، وفيها بيان الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والمباحات، ومثاله؛ تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال وإباحتهما للنساء.

 

رابعا: السنّة المندوبة (المستحبة) وهي حكم فقهي خاص يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه كصلاة الضحى وصيام النافلة وصدقة التطوع والبدء بالسلام.

 

إن كل واحد من هذه المعاني يتطلب منهجا علميا دقيقا، والخوض فيه بلا علم مدعاة للزلل والظلم والجدل الفارغ، ومن المؤسف أن أرى بعض الشباب يلوكون هذه المصطلحات دون وعي ويبنون عليها أحكاما ومواقف ما أنزل الله بها من سلطان، وعلى سبيل المثال:

 

أنهم يأتون إلى هذا المعنى الرابع فيركّبون عليه المعنى الثاني فيقولون مثلا عن نافلة من النوافل: هذه سنة النبي عليه الصلاة والسلام و (من رغب عن سنّتي فليس منّي) لتكون النتيجة وعيدا شديدا على ترك نافلة مع أنها باتفاق العلماء يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فلا أدري كيف لا يعاقب وقد حكمتم عليه بهذه العقوبة المغلظة؟

 

وقد رأيت أيضًا من يجعل السنة بمعناها الرابع أو الثالث في مقابلة السنّة بمعناها الأوّل على سبيل المعارضة، فيقول أنا آخذ بالسنة في (الطب النبوي) ولا آخذ بعلم الطب، مع أن ما يكتشفه الأطباء من أسرار الجسم إنما هو اكتشاف لسنّة الله تعالى في خلق هذا الإنسان، فالله تعالى هو الخالق وليس الأطباء، وقل مثل ذلك في الكشوفات العلمية الأخرى في عالم الفلك والأحياء والكيميا والفيزيا ..الخ فهذه عندهم علوم دنيوية لا تصلح للنظر ولو أمام رواية آحادية واحدة!

ووالله ما كنت أظن أنهم قد وصلوا إلى هذا المستوى من الارتباك والانغلاق لولا  أن أحد الإخوة الأطباء أسمعني تسجيلا لأحد المشايخ (المعروفين) يقول فيه ؛ إن المسلم لو أعرض عن الطب (الدنيوي) بكل أنواعه توكلا على الله تعالى لكان ذلك حسنا!

وما حصل أيام محنة كورونا من لغط وتخبّط غني عن التذكير.

 

إن أخطر ما تواجهه السنّة النبوية هي هذه الفهوم القاصرة حتى أصبحت السنّة كأنها في الكفّة المقابلة للعلم والطب والمصالح البشرية الملموسة.

لقد حدثتكم سابقا عن (شيخ) يتحدّى جلساءه في أنه قادر على أن يشفي فاقدي البصر اعتمادا على حديث (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) فانظروا كيف تعامل هذا المسكين مع الحديث بمعزل عن (سنة الله الكونية) وعن سنته عليه الصلاة والسلام وهديه في التعامل مع هذه الحالات حيث كان هناك من الصحابة من يعانون من فقد البصر فلم يجمعهم رسول الله عنده ليعالجهم بماء الكمأ، فكيف فهم هذا الشيخ من سنة رسول الله ما لم يفهمه رسول الله نفسه ولا أصحابه الكرام؟

والحمد لله أن هذا الشيخ كان يتحدى المسلمين في دعواه هذه، ولو أنه تحدّى غير المسلمين لأوقع نفسه وأوقعنا في حرج شديد.

 

الموضوع أيها الإخوة أيها الأخوات طويل ويحتاج إلى شرح أطول، وحسبي أن أنبّه الشباب المسلم الحريص على الإسلام والسنّة أن يتورّع في إصدار الأحكام والاستنتاجات قبل أن يتسلح بالعلم.

 

والله يهدينا جميعا للتمسك بدينه وبسنّة نبيه عليه الصلاة والسلام بلا إفراط ولا تفريط.

 

يتبع الجزء الثالث

رابط الجزء الأول

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين