ألاحظ
في كل مسألة خلافية تكرار استعمال بعض المصطلحات دون الاتفاق على معانيها مما يجعل
الحوار عقيما ومملا، ومن ذلك:
١-(البدعة)
حيث يستعملها بعض الإخوة في كل أمر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصحبه رضي الله عنهم (لو كان خيرا لسبقونا إليه)، وهذا المعنى ليس دقيقا، وقد جر
هذا إلى حالة من الجمود حتى على مستوى التعبير عن المشاعر وطريقة التعامل مع
المناسبات التاريخية والاجتماعية وحتى في باب الأدعية والأذكار المطلقة مثل (جمعة
مباركة) حيث هناك من ينكرها، وقد رأيت بعض الشباب في بغداد يتحرج حتى من تهاني
العيد المتداولة (أيامكم سعيدة) (عيدكم مبارك)، لأنها لم ترد عن السلف! ويكتفي
بقوله (تقبل الله منا ومنك).
وهذا
ورع أو تشدد في غير محله، ولم يكن هذا منهج الصحابة رضي الله عنهم، فهذا صحابي أحب
(قل هو الله أحد) فأخذ يقرأها في كل صلاة دون ورود نص بذلك، فلما علم به الرسول
صلى الله عليه وسلم قال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ قال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب
أن أقرأها.
لاحظوا
هنا جواب الصحابي، فقال رسول الله : أخبروه أن الله تبارك وتعالى يحبه. فهذا إقرار
لتخصيصه من غير نص سابق.
وهذا
سيدنا عثمان يفكر في تنبيه الناس على صلاة الجمعة فابتكر أن يؤذن أذانا آخر قبل
الأذان المعهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فأقره الصحابة، فأصبح للجمعة
أذانان وإلى اليوم.
ومن
غريب ما قرأته في تفسير ذلك؛ أن هذا من (سنّة الخلفاء الراشدين) كأن الخليفة
الراشد له الحق أن يشرع في دين الله، وهذا من أبطل البطلان، فإن الوحي قد انقطع
بانقضاء أجله عليه الصلاة والسلام، والله تعالى يقول: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من
الدين ما لم يأذن به الله)
والصحيح
أن الصحابة إنما فهموا أن غاية الأذان الإعلام، وقد استعمله النبيّ في التنبيه على
قرب طلوع الفجر في رمضان، فكان للفجر أذانان، فقاس الصحابة هذه الحاجة على تلك،
ولم يجدوا حرجا من ابتكار شيء لم يكن على عهده عليه الصلاة والسلام إذا كان منسجما
مع غايات الإسلام ومبادئه العامة.
وقد
رأيت مفارقة عجيبة فهذا ابن تيمية يرد على من انتقد دعاء الإمام أحمد بن حنبل
رحمهما الله (اللهم يا دليل الحائرين..) دون أن يأتي بأي نص من كتاب أو سنة أو قول
لصحابي أو تابعي، انظر الصورة من مجموع الفتاوى.
ولو
أردت أن أحصي من المسائل الفقهية والأدعية والأذكار مما لم يرد به نص ولا عمل من
القرون الثلاثة لطال بي المقام.
والخلاصة
أن البدعة المنكرة إنما هي تلك التي نبّه إليها القرآن الكريم (أم لهم شركاء شرعوا
لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وذلك مثل اختراع شعائر جديدة وطقوس ما أنزل الله
بها من سلطان كما يفعل الباطنيون بما لا يخفى على عاقل.
أما
ما جاء ضمن قيم الشرع ومبادئه وأدلته الإجمالية أو التفصيلية، وما كان في أبواب
العبادات المطلقة كالدعوة إلى الله والعمل على جمع كلمة المسلمين وإظهار قوتهم
وشوكتهم، فلا شك أن هذا من أفضل القربات حتى لو كانت الصيغة أو الوسيلة لم تكن على
عهد السلف رضي الله عنهم. لأن هذا لا يعد تشريعا جديدا بل هو ضمن الاجتهاد المستند
إلى الأدلة المعتبرة بشكل أو بآخر.
إن
الأحاديث المغلظة في التشديد على أهل البدع والوعيد الشديد لهم واضح أنها تتحدّث
عن أمر جلل يهدد الإسلام ووجوده، كما نرى بالفعل من الفرق الباطنية التي صنعت
لنفسها شعائر بديلة عن شعائر الإسلام، أما أن يفهم أن هذا الوعيد يقصد به من اتفق
مع إخوانه على جلسة ذكر وصلاة على النبي أو إحياء مناسبة تاريخية لتذكير الناس
بأهميتها أو عبارة (جمعة مباركة) فهذا من غريب المقال ومن شأنه أن يطعن بجمهور
الأمة وعلمائها سلفا وخلفا، وفيه خدمة لا تخفى للمشاريع الباطنية الهدامة.
وإني
هنا أؤكد أن عدم الفعل لا يساوي النهي عن الفعل، إلا إذا كان في العبادات الخاصة
كتعمد زيادة ركعة خامسة على صلاة الظهر مثلا، أو اختراع عيد ثالث غير الفطر
والأضحى، فهذا الترك بمستوى النهي، أما ما كان من العبادات المطلقة والعادات
والمشاعر القلبية والمصالح العامة والوسائل والخطط وإدارة المجتمع والدعوة
والتربية والتعليم والسياسة والاقتصاد ونحو ذلك، فالترك ليس دليلا على التحريم بحد
ذاته. وقد تلتبس بعض المسائل فينبغي التريث بالنسبة لمن التبست عليه فلا يتعصب ولا
يتحزب ولا يتعجل في الحكم بلا علم.
وللحديث
بقية والله يهدينا صراطه المستقيم ويجنبنا سبل أصحاب الجحيم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول