مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (3)

5) العلاقات السياسية:

ههنا يكمن أنجع علاج في نظرنا لآلام الإنسانية الحاضرة، فليس الشأن في أن نقلل من مقادير عتادنا الحربي، أو نغير من طبيعته، وإنما الأمر في أن نعدل أسلوبنا الفكري من أساسه.. علينا أن ننظر إلى الحياة نظرة جديدة تخضع فيها المادة للروح، وتسمو فيها المعنويات على الجثمانيات، وكل حل ينقصه هذا العنصر، إنما هو حل سطحي واه لا بقاء له.

رأينا في الأسطر القليلة السابقة كيف نظم الإسلام حالة الحرب. فلننظر الآن كيف نظم علائق السلم:

وأول ما يعنينا من ذلك طريقة معاملته لمبعوثي أعدائه، وحاملي رسائلهم، وممثليهم السياسيين، وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها إنها سديدة مستقيمة. فالإسلام فوق ما يكفله لهم من صيانة وأمن على الأرواح يمنحهم نوعًا من الحصانة الاجتماعية التي تخولهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا، ولا يدع سبيلًا إلى حجزهم في بلادنا بحجة أنهم قوم، عدو لنا.

هذا هو أحد الأدلة الساطعة على أن هدف الحرب الإسلامية ليس هو محو الديانات الأخرى، فها نحن أولاء نراه على العكس من ذلك يحرص على تحصين أبناء تلك الديانات وحماية رؤسائها -الذين هم أبرز من يمثلها- من كل عدوان ما داموا بعيدين عن إشعال نار الحروب.

يلي ذلك طريقته في الاستماع لهؤلاء المفاوضين وحسن استعداده للتفاهم والتعاقد معهم. فالقرآن يحض الرسول على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلًا إليه {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61].

أما شرائط الصلح وطرائقه، فقد رأينا بصدد هدنة الحديبية، كيف أن روح المسالمة التي تعمر قلب رسول الإسلام، قد جعلته يضحي بكثير من التفاصيل المتعلقة بألقابه الأدبية، وبالسمعة الحربية لجيشه، وببعض الحقوق الفردية لأتباعه، على أنه ليس معنى ذلك أنه يوجب قبول كل اقتراح من جانب الأعداء، مهما كان شاذًا، أو ضارًا بحقوق الأمة والأجيال المقبلة، فقد رأينا هذا الرسول الرحيم نفسه حين عرض عليه مسيلمة الكذاب تقسيم الأرض بينه وبينه يرفض {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128].

فإذا نحن درسنا الوثائق التي تركتها لنا السير عن العلاقات السياسية النبوية استطعنا أن نتبين فيها أنواعًا مختلفة من المواثيق!

أإعلان الأمن والحماية:

لعل أبسط العقود السياسية هو التصريح الذي يصدر من جانب واحد، ولا يلزم إلا الطرف الذي أصدره، كإعلان دولة ما: أنها تلتزم الأمن والحماية لدولة أخرى.. وأننا لنجد من هذا النوع مثالًا واضحًا في ذلك العهد الذي أعطاه النبي لأهل سوريا ومن معهم في أثناء غزوة تبوك، وضمن لهم فيه حرية انتقالهم، وأمن قوافلهم البرية والبحرية، وحرية استعمالهم للطرق ومجاري المياه على شريطة واحدة، وهي ألا يثيروا على المسلمين شغبًا.

بميثاق عدم الاعتداء من الجانبين:

لكن المعاهدة بالمعنى الصحيح تتطلب اتفاقًا وتبادلًا للمنافع يقبله طرفا العقد جميعًا، وأن أقل ما يتحقق فيه هذا النوع من العهود، هو التعاقد الذي لا يتضمن إلا التزامات سلبية تنحصر في امتناع كلا الطرفين عن كل فعل ضار بالآخر. وقد نقل لنا المؤرخون أمثلة لمواثيق من هذا النوع عقدها النبي والتزم فيها الطرفان -إما المدة غير محصورة، وإما إلى أجل معلوم- ألا يهاجم أحدهما الآخر، ولا يحالف عدوًا له، ولا يساعد معتديًا عليه. فمن هذا القبيل ميثاقه إلى أجل غير مسمى مع بني ضمرة في السنة الثانية من الهجرة، ومنه أيضًا ميثاق الهدنة التي عقدها مع قريش في السنة السادسة من الهجرة لمدة عشرة أعوام.

ج.      المحالفة:

على أن الحقوق والواجبات المتبادلة إنما تبرز في أكمل مظاهرها في عهود الحلف، ومن أمثلة هذه العهود في حياة الرسول: هاتان المحالفتان اللتان مهد لهما صلح الحديبية، حيث خول كلًا من الفريقين أن يختار حليفًا له من بين القبائل العربية، فاختارت خزاعة أن تحالف محمدًا، واختارت بنو بكر أن تحالف قريشًا، ولقد كان من نتائج تطبيق هاتين المحالفتين أن نهض المسلمون في السنة الثامنة لنجدة خزاعة حين نقضت قريش عهدها بإزائها، وينبغي أن يلاحظ أن هذا النقض لم يكن بقتال مباشر موجه علانية لخزاعة، وإنما كان معاونة سرية بالمال والسلاح لبني بكر عليها، ومن هنا تعرف وجهة نظر الإسلام في هذه النقطة القانونية.

د.        الإعارة والتأخير:

وهذا مثال طريف لنوع من المواثيق لا نجده بعد إلا في العصر الحديث: ذلك هو العهد الذي أعطاه النبي لنصارى نجران باليمن، وهو وإن كان عهدًا مليًا أكثر منه عهدًا دوليًا، إلا أن فيه شرطًا يذكرنا بميثاق الإعارة والتأجير الذي عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا لتموين الجيوش الإنجليزية في الحرب العالمية الثانية.

6) الوفاء بالعهود:

فهذا العهد النبوي إذا نظرنا إليه من وجهتيه الاجتماعية والدينية، نراه يلتزم للنجرانيين بحرية عقيدتهم وعبادتهم، وسلامة معابدهم، وعدم المساس بمساكن كهنتهم ما داموا لا يحدثون اضطرابًا، ولكن الناحية الاقتصادية لهذا العهد أكثر طرافة، فإنه ينص على ضرورة تقديم مساعدة مادية معينة منهم للمسلمين في حالة حدوث نزاع بين المسلمين، وبين طرف ثالث في اليمن، ومن بين هذه المساعدات: إعارة جيش المسلمين ثلاثين وحدة من كل صنف من أصناف السلاح، على أن يقوم المسلمون برد هذه الأسلحة إلى حلفائهم النجرانيين بمجرد انتهاء الحرب.

وبعد: فإن من المقرر المعترف به عند الجميع أنه يجب على طرفي العقد -مهما كان نوع المعاهدة التي بينهما- أن يحافظا بدقة وأمانة على تنفيذ كل شروط الميثاق بنصها وروحها.

غير أن هذا الالتزام يأخذ في نصوص القرآن طابعًا خاصًا من التشديد ومن القدسية يجعله فرضًا دينيًا بالمعنى الحقيقي. فالميثاق الذي يعقده المسلم لا يرتبط به أمام الناس فحسب، بل إنه يعقده في الوقت نفسه بينه وبين الله تعالى، إذ يجعل المسلم ربه شهيدًا وكفيلًا على عقوده والتزاماته، ومن هنا يصبح احترام هذه الالتزامات أمرًا متغلغلًا في النفوس، متصلًا أوثق اتصال بعقد الإيمان، بحيث لا يبقى لقوة في الأرض أن تحلله منه، سواء في ذلك دوافع المنفعة أو طلب النفوذ، أو زيادة الرخاء، أو المجال الحيوي، أو التوسع الاقتصادي، أو التوازن السياسي، أو غير ذلك.

وإلى هذا كله يشير القرآن حيث يقول: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ} [النحل: 91، 92].

فإذا نحن رجعنا إلى السنة النبوية وجدناها قد بلغت من الدقة في تطبيقها لهذه التعليمات القرآنية مبلغًا يكفي في وصفه أن نورد بعض الأمثلة منه:

كان أبو جندل من المسلمين المحصورين في مكة، فبينما كانت تكتب شروط صلح الحديبية أقبل يرسف في قيوده ليقيم مع المسلمين، وإذ كانت هذه المعاهدة لم توقع بعد، كان من الممكن ألا يطبق عليه شرط رد اللاجئين، ولكن ممثل قريش عارض في ذلك بحجة أن الاتفاق الشفوي قد تم آنفًا قبل قدوم هذا اللاجئ، فصدقه النبي، صلى الله عليه وسلم، وتركه يأخذ بتلابيب المهاجر ليرده إلى مكة، ولم يكن صياح أبي جندل وشكواه وإعلان خوفه من أن يفتنه المشركون عن دينه إذا رجع إليهم، ولا الألم النفسي الذي أصاب المسلمين بسبب هذا التنازل -لم يكن كل ذلك- ليغير من موقف النبي، وما زاد على أن قال: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، ولكننا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك عهدًا، وإننا لا نغدر بهم -أو-  وأنه لا يصلح في ديننا الغدر، ولقد تكرر مثل هذا الحادث بعد في شأن أسير آخر وهو أبو بصير، وكان الحل هو الحل.

وإليك مثال من نوع آخر كان القادم فيه من المشركين لا من المسلمين، وجاء مبعوثًا لا هاربًا، ذلك هو أبو رافع الذي قدم برسالة من قريش إلى النبي، فما هو إلا أن رأي النبي حتى وقع في قلبه الإسلام وأراد ألا يرجع إلى قومه، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: أنا لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد.

بل هناك ما هو أعظم من ذلك دلالة على قدسية العهود والمواثيق في نظر رسول الإسلام، وأنه لم يكن حرصه على الوفاء بعهوده أشد منه على وفاء أتباعه بعهودهم الشخصية، مهما شقت على ضمير المؤمنين، ومن أطرف الأمثلة في ذلك وأشدها غرابة حادثة حذيفة وأبيه، فقد كانا قطعا على نفسيهما لبعض الأعداء عهدًا -بدون استئذان الرسول- ألا يقاتلاهم، فلما جاء وقت القتال استفتيا في ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما كان جوابه إلا أن قال: انصرفا ففيا لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم.

  • قطع العلائق السياسية:

هناك شرطان فقط لابد منهما في نظر القرآن لإباحة نقض حلف سابق:

1.   هذا النقض لا يصح أن يحدث اعتباطًا وابتكارًا من قبلنا تحت تأثير الأغراض والمنافع، أو بباعث الهوى والعاطفة، بل لابد أن يكون مسبوقًا باستفزاز من قبل الخصم، وبأمارات تدل على أنه ينوي خيانة العهد.

2.   ولا يصح أن يكون قطع العلائق عمليًا فقط، وبدون سابق إنذار، وإلا كان غسلًا للخيانة بالخيانة، بل لابد أن يكون نبذًا للمعاهدة صريحًا واضحًا، وأن يصل إلى علم الخصم في الوقت المناسب ليكون على بينة من نيتنا نحوه حتى نكون وإياه سواء في ذلك، هذا هو صريح نص القرآن {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. 

 

3.   خاتمة:

هكذا نرى أن التشريع الدولي الإسلامي يستوحي في كل خطوة من خطواته روح العدالة والمساواة بين الناس أمام القانون. بل يستمد من ينابيع أشد عمقًا من ذلك كله: يستمد من منابع الإيمان الصحيح، والخلق الكامل. ونستطيع أن نقول -ووثائق التاريخ بين أيدينا-: إن هذا التشريع الدولي العام بمعناه الصحيح لم يكن له وجود قبل الإسلام ولم يصل إليه تشريع آخر بعد الإسلام إلى يومنا هذا.

***

 

* نُشر هذا البحث في مجلة دراسات عربية وإسلامية والتي تصدر عن مركز اللغات الأجنبية والترجمة التخصصية بجامعة القاهرة في العدد رقم (54) سنة 2015.

 

الجزء الأول.. ( انقر هنا )

الجزء الثاني.. ( انقر هنا )

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين