مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (1)

يكاد ينعقد الآن اتفاق المتشرعين من علماء الغرب ومتابعيهم على أن فكرة القانون الدولي العام فكرة حديثة العهد ابتدعتها أوروبا أخيرًا.

هذا الحكم صحيح في الجملة، ويلوح لنا بمنأى عن الجدال ما دمنا نبعد بموضوعه عن محيط التاريخ الإسلامي، فالنظام الدولي لم يكن معروفًا حقيقة في العصر القديم اليوناني والروماني، ولا في العصور الدينية الأولى في اليهودية والمسيحية.

أما العصور الدينية المذكورة فمن الميسور أن نتبين فيها هذا الفراغ، وأن ندرك أسبابه، ذلك أنه حين تأسيس هاتين الديانتين لم يكن أمامهما علاقات دولية تتطلب هذا التشريع، فكان كل نشاطهما مركزًا في بث الدعوة الدينية في نطاق محلى محدود، نعم إن نشر الدعوة الموسوية في بني إسرائيل لم يلبث أن حمل هذا الشعب على الهجرة، وجعله يتصل بأمة مجاورة، غير أن هذه الصلة الوقتية لم تكن إلا صراعًا خاطفًا انتهي إلى استئصال شأفة تلك الأمة وحلوله محلها، ولم يترك لنا التاريخ القواعد التي بني عليها هذا الصراع والتحول.

وأما العصور اليونانية والرومانية القديمة فإن خلوها من هذا التشريع مرده إلى أسباب تختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليست المسألة مسألة انقطاع الصلة بين هاتين الدولتين وبين العالم الخارجي، إذ أن تلك العلاقات الخارجية لم تعوز هاتين الدولتين يومًا ما، ولكن نظرتهما نفسها إلى الحياة لم تكن لتسمح لهما يوضع تشريع كهذا، ذلك أن فكرة القانون الدولي تفترض قبل كل شيء الاعتراف بضرب من المساواة واشتراك المصالح وتبادل الحقوق والواجبات بين مختلف الأمم. وهذا لم يكن ليتفق والنظريات اليونانية والرومانية. فأما قدماء اليونان فإنهم، وإن كانوا يتعاملون فيما بينهم على قدم المساواة أو يكادون -على رغم الصراع الدائم بين مملكتي أسبارطة وأثينا- كانوا ينظرون إلى الشعوب غير اليونانية نظرتهم إلى كائنات جد منحطة، حتى أن أرسطو كان يرى أن البرابرة (ويعنى بهم الأجانب) ما خلقوا إلا ليقرعوا بالعصا، ويسلبوا ويستعبدوا، وكذلك كان الأمر في التشريع الروماني، فإنه لم يكتف بأن وضع نوعين متباينين من القوانين، أحدهما: للمواطنين (القانون المدني) والآخر: لسكان البلاد الممتلكة (قانون الشعوب)، بل إنه لم يكن يعرف في الصلات الخارجية إلا قانون القوة الباطشة، فلم يجعل للأمم الأخرى حقًا في دفاعها عن نفسها، ولا في أمنها ودعتها، وإنما كان دستورها في نظره: العبودية أو الفناء، وإذا كان قد اتفق لروما في بعض الأحيان أن وضعت معاهدات سلمية على وجه دون وجه، فلم يكن ذلك راجعًا إلى أن هناك قانونًا يقضى بهذا الشرط المعين أو ذاك، بل كان مصدره محض التفضل أو السعي وراء الأغراض والمنافع.

ولو أننا بحثنا فكرة القانون الدولي في أوروبا في العصور الحديثة ما وجدنا كبير فرق بينها وبين تلك العصور الأولى، على رغم التقدم الفعلي في تدوين قواعد هذا التشريع العام، ذلك أن فكرة تساوى الناس أمام القانون -تلك الفكرة التي طالما طالبت بها الشعوب وتشدقت بها الحكومات- لم تتخذ بعد في نظر الغربيين صبغة القانون العام الشامل، ألم يقل استيوارت مل باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية؟ أو لم يحدد لوريمير على وجه الأرض مناطق ثلاثًا تخضع كل منها لقانون مختلف؟ فالعالم المتمدين يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسية كاملة، والعالم نصف المتمدين يكفي أن يتمتع بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المتحضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلزامًا قانونيًا.

وجاء ميثاق عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى فأقر هذا التقسيم الثلاثي وأكسبه سلطة القانون، بل لقد فرق في قلب المدنيات الأوربية نفسها بين الحقوق السياسية للدول الكبرى والدول الصغرى، وأيًا كان فإن منظمة السلام هذه لم تحظر غزو منشوريا، ولا فتح بلاد الحبشة. وأخيرًا شكلت جمعية الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فماذا رأينا؟ أليس روح التفريق وعدم المساواة لا يزال مسيطرًا فيها على عقول السادة الذين يتحكمون في مصير الإنسانية؟ أنه لا حاجة بنا إلى محاولة إقامة البرهان على ذلك، فهذه الحوادث التي تجرى تحت سمعنا وبصرنا، وهذه الحلول العرجاء التي تطبق عليها في أحضان هذه الجمعية الحديثة تنطق -بأفصح بيان- بأن الضعفاء والمظلومين الذين كانوا يبنون آمالهم على مثل هذه المؤسسات لم ينلهم حتى الآن إلا حسرات تتلوها حسرات!

* * *

إذا أردنا أن نظفر بتشريع دولي عام يصطبغ بالصبغة العالمية الحقيقية، فعلينا أن نصعد بذاكرتنا إلى عصر رسول الإسلام.

كلنا نعرف أن محمدًا، عليه الصلاة والسلام، لبث في الدعوة زهاء عشر سنين في اتصال دائم بأمم وديانات معادية طورًا ومسالمة طورًا، وطبيعي أن هذه الظروف الخاصة التي جعلت للإسلام سلطانًا زمنيًا وحكمًا عالميًا -إلى جانب كونه عقيدة روحية، ومبدأ أخلاقيًا- كانت تتقاضاه أن يضع تشريعًا لقانون السلم والحرب بين الأمم، فماذا فعل؟ وهل كانت إجابته لهذه الحاجة الملحة شافية لغلة المتشرعين، مرضية للضمائر السليمة لدى الحكماء وذوي الخلق الكريم؟.

لا شك أن دراسة مستوعبة لهذه الناحية من التشريع الإسلامي تتطلب بحثًا عميقًا، لا للعهود والأقضية النبوية وحدها، بل للمعاهدات التي وضعها الخلفاء والملوك الإسلاميون أيضًا في غضون التاريخ، ولكنه ليس من غرضنا في هذا البحث أن نجعل مجال بحثنا بهذه المثابة من السعة والاستقصاء، وكل ما يعنينا الآن هو أن نستخلص ما في القرآن والسنة النبوية من المبادئ الأساسية والخطوط الأساسية الرئيسية في هذا الشأن.

1)      تصحيح خطأ مشهور:

وقبل كل شيء يجب أن نصحح خطأ ذائعًا في الأوساط الأوربية، وهو الزعم بأن الشعوب الإسلامية يباح لها -بل يجب عليها امتثالًا لدستورها الديني- أن تحمل السلاح لإكراه الناس على الإسلام، وسحق الشعوب الأخرى التي لا تعتنق هذا الدين.

لئن كان هذا الرأي حقًا وجب أن تمحى كلمة القانون الدولي من التشريع الإسلامي إذ لا يبقي لها فيه مدلول تشير إليه، ولا يبقي لغير المسلمين أمامه حق يطالبون فيه بحرياتهم ولا بحياتهم.

ولكن الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم يكشف لنا عن الحقيقة التي تخالف هذا الزعم على خط مستقيم، فالقرآن لا يكتفي بأن يحظر -حظرًا أدبيًا- كل محاولة لإكراه الناس على الإيمان [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ] [البقرة: 257]، بل يقرر أنه من المستحيل وقوعيًا أن يسيطر على العالم دين واحد [وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ([هود: 118]، [وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ] [يوسف: 103]. ألا تكون محاولة فرض عقيدة واحدة على الناس -والحالة هذه- ضربًا من التناقض والإحالة الظاهرة؟ إن القرآن لم يفته أن يبرز ما في هذه الغاية الطموحة من غرور خداع، وذلك حيث يقول: [{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].

ومن هنا نرى كتاب الإسلام المطهر يحدد رسالة نبيه بأدق ما يكون من العبارات الحاصرة، مبينًا أن مهمته إنما هي الموعظة والتذكير {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22] بل إن هذه الدعوة السلمية نفسها لم يتركها القرآن حتى رسم حدودها وطريقتها، وأوجب أن تؤدي بأكرم أسلوب، ومن ألطف طريق: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46].

 

ورب قائل يقول لنا: سلمنا أن كل إكراه ديني يجب أن يستبعد من أهداف الإسلام، فما الذي يمنع أن يكون من بين هذه الأهداف فكرة الفتح والتوسع التي يكون المسلمون قد دفعوا إليها بسبب من الأسباب الأخرى كداعية الثروة الاقتصادية أو الاستعلاء السياسي، أو غير ذلك؟ فلندع القرآن يقدم لنا الجواب عن هذا السؤال، وها هو ذا يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

هكذا يقضى القرآن في حزم على تلك الروح الاستعمارية الجبارة، وبوجه عام على تلك النزعة المادية المتطرفة التي انتشرت انتشارًا وبائيًا في عصرنا هذا، والتي هي المنبع الأول لكل ما نشكو منه الآن.

ولكن هل نأخذ من كل ما تقدم أن الحروب ليس لها وجود قانوني في نظر الإسلام؟

هيهات! فها هي ذي نصوص القرآن، لا تجعل الجهاد عملًا فاضلًا فحسب، بل تعده غالبًا من الواجبات الأولية.

فالسؤال الذي يجب وضعه الآن هو هذا: ما الأحوال والشروط التي يبرر بها الإسلام اتخاذ تلك المواقف الحربية، ويجعلها حقًا مشروعًا؟

***

(*) نُشر هذا البحث في مجلة دراسات عربية وإسلامية والتي تصدر عن مركز اللغات الأجنبية والترجمة التخصصية بجامعة القاهرة في العدد رقم (54) سنة 2015.

 

يتبع في الجزء الثاني.. ( انقرهنا )

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين