لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (3)

6) لما كاد بعض الصحابة أن يحصر مفهوم العبادة في الشعائر، ويدع الحياة تمضي دون أن يُصْلح مَسارها، صحَّح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك التوجه، فدلَّ على أن المفهوم الجامع للعبادة هو صحة التزود من الدين لعمارة الدنيا، امتثالاً لقول الله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61]، فكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم " الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبَة من الإيمان " (1)

وجاء ثلاثة إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخْبَروا بها كأنهم تَقالُّوها، فقالوا " وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غفر الله ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر " وقال أحدهم " أما أنا فإني أصلي الليل أبداً "، وقال آخـر " أنا أصوم الدهر، ولا أفطر "، وقال آخر " أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا " فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمَنْ رَغِب عن سنتي، فليس مني " (2)

7) وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمة عند الخَصيصة الأم للإسلام، وهي أن يُعْبَد الله وحده على الوجه الذي شَرَع، فكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم " صَلُّوا كما رأيتموني أصلي " (3)

وكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يرمي الجمرات على راحلته يوم النَّحْر ـ " لِتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " (4)

فأنشأ صلى الله عليه وآله وسلم منظومة المفاهيم في الامتثال والتأسِّي بالقول والعمل، وأبقى الأمة عند حدود التحرِّي والتحلِّي بمهام عصر الوحي؛ باعتباره المثال الكامل لمقتضيات الإسلام لله رب العالمين.

8) بَيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة العلم وأن معنى ذَهابه هو ذَهاب العمل به، فكان مما قال " هذا أوان رفع العلم " (5) فقال لَبيد بن زياد " يا رسول الله يُرفع العلم وقد أُثْبِت ووعته القلوب ؟ " فقال صلى الله عليه وآله وسلم " إنْ كنت لأحْسَبُك أفقه أهل المدينة " (6) ثم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضلالة اليهود والنصارى رغم ما في أيديهم من كتاب الله، قال شداد بن أوْس " أول ما يُرْفَع الخشوع، حتى لا ترى خاشعا " (7)

9) أرْسَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم موازين قوة الأمة في تحذيرٍ بليغ، فقال "يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قَصْعَتها " فقال قائل " ومن قِلَّةٍ نحن يومئذ ؟ " فقال صلى الله عليه وآله وسلم " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غُثاء كغُثاء السيْل، ولَيَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المَهابة منكم، ولَيَقْذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهْن" فقال قائل " وما الوَهْن ؟ " قال صلى الله عليه وآله وسلم " حب الدنيا وكراهية الموت " (8) فدل صلى الله عليه وآله وسلم على أن القوة تكمن في النوع والكيف، لا العدد والكم.

10) في بيان مقاصد الوحي وأثر الزمان والمكان في تحقيق المَناطات ومراعاة المآلات، والجمع بين سد الذرائع وتعظيم المصالح، توقَّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الراجح واختار عليه المرجوح؛ لأن مراعاة المآلات من المقاصد المعتبرة (9) فقال صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة " لولا أن قومك حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهُدِم فأدْخَلْت فيه ما أُخْرِج منه " (10)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم " لولا أن قومك حديثو عهدٍ بشرك لهدمت الكعبة فألْزَقْتُها بالأرض، وجعلت لها بابين، باباً شرقياً وباباً غربياً، وزِدت فيها ستة أذرع من الحِجْر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة " (11) ثم زاد صلى الله عليه وآله وسلم " ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه " (12)

ولما قالت عائشة " ألَا أدخل البيت ؟ " قال صلى الله عليه وآله وسلم لها " ادخلي الحِجْر فإنه من البيت " (13) قال عبد الله بن عمر " ما أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك استلام الركنين اللذين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم " (14)

وهكذا تَرْك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم لحداثة عهد قريش بالجاهلية، فخشي صلى الله عليه وآله وسلم تنفيرهم، وقَدَّم مصلحة التآلف.

وكذا جَهْر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية أحياناً في صلاة الظهر وصلاة العصر، وجَهْر عمر بن الخطاب بدعاء الاستفتاح في الصلاة، وجَهْر بعض الصحابة بالاستعاذة في الصلاة، وجَهْر عبد الله بن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وقال " لتعلموا أنها سُنَّة " وصلى عبد الله ابن مسعود مُتِمَّاً خلف الخليفة عثمان بن عفان في السفر، فلما سُئِل في ذلك قال " الخلاف شر " ومنع مالك بن أنس 179هـ ومحمد بن إدريس الشافعي 204هـ صلاة جماعتين في وقتٍ واحد بمسجدٍ واحد بإمامين، ونَصَّ أحمد بن حنبل 241هـ وغيره على الجهر بالبسملة في الصلاة بالمدينة؛ لأن جمهوراً من الصحابة قد جهروا بها، وكذا نَصَّ أحمد بن حنبل على وصل صلاة الوتر، وكل ذلك إنما

يدخل في باب استعمال الآثار على وجهها بالعدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاةً للأُلْفَة وتعريفاً بالسُّنَّة، وهو أصل كبير في سد الذرائع وجلب المصالح وتحقيق المقاصد (15)

ولذلك سَوَّغ أهل العلم ترك الأفضل لتأليف القلوب، أو لتعليم السُّنَّة النبوية؛ لأنهما من أعظم المصالح (16)

11) أسَّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإنزال المقالات عند أهلها بما يناسب أفهامهم، فنهى معاذ بن جبل وأبا هريرة أن يُحَدِّثوا الناس أن مَنْ لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ " لا تُبَشِّرهم فيَتَّكِلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تَأثُّماً (17)

وهكذا راعى السلف منازل المخاطَبين، فقال علي بن أبي طالب "حَدِّثوا الناس بما يفهمون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله " (18)

وقال عبد الله ابن مسعود " ما أنت بمُحَدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (19)

وكان الحسن البصري110هـ يخص بعض طلابه في بيته بنوعٍ من الكلام في معاني الزهد والرقائق وعلوم الباطن التي قد تلتبس على مَنْ هم دونهم ممن لا تدركها أفهامهم (20)

وكتب محمد بن إسماعيل البخاري 256هـ في كتاب العلم من صحيح البخاري باباً بعنوان " مَنْ خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا " (21)

وكتب مسلم بن الحجاج 261هـ في صحيح مسلم باباً بعنوان " النهي عن الحديث بكل ما سمع " (22)

وشرح ابن قَيِّم الجَوْزِيَّة751هـ ذلك بقوله " فلا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم، إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تَلَقِّي السلوك عن السلف، ولو برز لهم حالهم أنكروه، فهؤلاء لابد محجوبون عن معرفة مقادير السلف الصالح وعُمْق علومهم وقِلَّة تكلفهم " (23)

ونقل أبو إسحاق الشاطبي790هـ مسألة عند أهل الأصول مفادها " ليس كل ما يُعْلَم مما هو حق يُطْلَب نشره " (24)

وذهب جمهرة أهل العلم إلى أن من العلم ما هو مَضْنون به على غير أهله (25) وصار من المشهور عند العقلاء أنه ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حضر وقته، وليس كل ما حضر وقته حضر أهله.

12) نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المآلات وجعلها باباً مرعِياً في بناء الأحكام، فامتنع عن قتل المنافقين رغم استحقاقهم ذلك، من ذلك أنه لما أشار عمر بن الخطاب بقتل شيخ النفاق عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول قال صلى الله عليه وآله وسلم " دَعْه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " (26)

ولما بال أعرابي في المسجد قام الصحابة ليزجروه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " دَعُوه " حتى إذا فَرَغ الأعرابي أمر صلى الله عليه وآله وسلم بماء فصُبَّ على البول، ثم قال لهم" فإنما بُعِثْتُم مُيَسِّرين ولم تُبْعَثوا مُعَسِّرين" (27) وقـال للأعرابي " إن هذا المسجد لا يصلح لشيء من القَذَر والبول، إنما هو لقراءة القرآن، وذِكر الله، والصلاة " (28) فترفَّق صلى الله عليه وآله وسلم به ليعلمه ما جهل من الإسلام.

ولما قال شاب " يا رسول الله اِئذن لي في الزنا " زجره القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشاب " اُدْنُه " فدنا، فجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً " أفَتُحِبُّه لأمك، أفتحبه لابنتك، أفتحبه لأختك، أفتحبه لعمتك، أفتحبه لخالتك ؟ " كل ذلك والشاب يقول " لا والله جعلني الله فداءك " والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ولا الناس يحبونـه لأمهاتهم، ولا لبناتهم، ولا لأخواتهم، ولا لعماتهم، ولا لخالاتهم " ثم وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده عليه، وقـال " اللهم اغفر ذنبه، وطَهِّر قلبه، وحَصِّن فَرْجَه " فلم يلتفت الفتى لشيءٍ من ذلك (29)

13) دَلَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على (تنبيه النص) في قضية أول مسلم سرق، فلما أتَوْا به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال " اذهبوا بصاحبكم فاقطعوه " وكأنما أُسِفَ وجهه صلى الله عليه وآله وسلم رماداً، وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بيده يخفيه، فقالوا " كأن هذا شَقَّ عليك يا رسول الله ؟ " فقال " لا ينبغي أن تكونوا أعوان الشيطان، فإنه لا ينبغي لولي أمرٍ أن يُؤْتَى بحدٍ إلا أقامه، والله عَفُوٌ يحب العفو " ثم قرأ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم للذي دَلَّ على ماعِز، فرجموه " يا هزال لو سترته بثوبك، كان خيراً لك " (30) فبنى معنى الستر في كليات الأخلاق.

14) أمر صلى الله عليه وآله وسلم بتدوين القرآن، واتخذ كُتّاباً فوق الثلاثين يضعون كل كلمة في موضعها، فأسَّس صلى الله عليه وآله وسلم مرجعية للحماية، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن تدوين السُّنَّة النبوية في بداية الأمر لئلا تَلْتَبِس بالقرآن الكريم (31)

يتبع...

(1) صحيح مسلم 35

(2) صحيح البخاري 4776

(3) صحيح البخاري 5662

(4) صحيح مسلم 1297

(5-7) صحيح ابن حِبّان 4572

(8) سنن أبي داود 4297، السلسلة الصحيحة الألباني 958

(9) المُوافَقات الشاطبي 4/162

(10) صحيح البخاري 1509

(11) صحيح مسلم 1333

(12) سنن النسائي 2893و9234، المسند أبو عَوانَة 3167، وصححه الألباني في (إرواء الغليل 4/307)

(14) صحيح مسلم 1333

(15-16) تفسير القرطبي 8/257، نَصْب الراية الزَّيْلَعي 1/328، مجموع الفتاوى ابن تيمية 22/407-408

(17) صحيح البخاري 2701 (4) صحيح البخاري 127

(18) صحيح مسلم 5

(19) سِيَر أعلام النبلاء الذهبي 4/579

(20) صحيح البخاري - باب 49 (4) صحيح مسلم - باب 3

(21) مدارِج السالكين ابن القَيِّم 1/159

(22) المُوافَقات الشاطبي 4/189-190

(23) سِيَر أعلام النبلاء الذهبي 19/329

(26) صحيح البخاري 4622 و4624

(27) صحيح البخاري 216و 217و5777

(28) صحيح ابن خُزَيْمَة 293

(29) المسند أحمد بن حنبل 22265، وقال الهيثمي في (مَجْمَع الزوائد 1/74) والعراقي في (المُغْني عن حمل الأسفار 2251): رجاله رجال الصحيح.

(30) السنن الكبرى البيهقي 17390و18067، المسند أبو يَعْلَى 5155

(31) موطأ مالك 1499، سنن النسائي 7274و7276و7280، سنن أبي داود 4377

(31) المُحَدِّث الفاصل الرامَهُرْمُزِي 71، تقييد العلم الخطيب البغدادي 102

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين