لماذا ينبغي أن نتجنب التحليل القدري (3-3)

بعد الحلقتين السابقتين وردتني أسئلة من بعض أهل العلم ودارت حوارات مثمرة -وهذا يعني أن الأمر مهم ودقيق- وأنه جدير بالدراسة.

كانت مجمل الحوارات تدور حول كيف نتعامل مع السنن الإلهية والنصوص الخبرية القدرية خاصة (نصوص الوعد والوعيد) مثل وعد الله تعالى بالنصر لمن ينصره، وبمحق الكافرين وإهلاك الظالمين..الخ وهنا ألخّص الجواب في الآتي:

1- إذا كان الحدث قد وقع قبل نزول الوحي، ثم نزل الوحي يحدد مراد الله بهذا الحدث (انتقاما أو ابتلاء) مثلا، فهذا حق لوجود الدليل المخبر عن إرادة الله تعالى- وليس فيه أي تحليل، وإنما هو الخبر الصادق -لا غير-.

2- أما إذا وقع بعد انقطاع الوحي، فلا نستطيع أن نجزم بمراد الله تعالى، فالطاعون الذي حصد ثلث الشعب الأوربي مثلا، يمكن أن يكون عقوبة إلهية، ويمكن أن يكون بسبب الجهل وعدم الأخذ بالأسباب وطرق الوقاية، وهذا قانون كوني ينطبق على الكافرين والمؤمنين، والظالمين والمظلومين، وهذا الراجح بدليل أن الأوربيين لما تقدموا علميا تمكنوا من إنهاء الطاعون، ومثل ذلك الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات فهذه كلها قد تصيب الكافرين وقد تصيب المؤمنين.

3- إذا كان الأمر لم يقع بعد، فليس لنا أن نجزم أن الله تعالى سيهزم العدو الظالم في هذه المعركة وسينصرنا عليهم بناء على آيات الوعد والوعيد، فقد يستحق العدو النصر لأخذه بالأسباب وإعداده الجيد، وقد نستحق نحن الهزيمة لتفريطنا بالسنن الكونية وتقصيرنا في الإعداد، ولذلك خسر المسلمون معركة أحد لوجود خلل في الانضباط والسمع والطاعة، مع أن الخلل كان عن اجتهاد وسوء تقدير للموقف وليس معصية متعمدة.

4- وعد الله ووعيده حق، نؤمن به كما أخبر ربنا سبحانه، لكن ليس لنا تحديد زمانه ومكانه، ولا طريقته وكيفيته، بل قد لا يتحقق هذا الوعد أو الوعيد إلا في دار الجزاء الأخروي، ومثال ذلك أن الله تعالى الذي أخبرنا بهذا الوعد والوعيد هو الذي قص علينا قصة أصحاب الأخدود، حيث أبيدت الثلة المؤمنة حرقا على يد المجرمين دون أن يتحقق الوعد لهم ولا الوعيد لظالميهم، وقد رأينا كثيرا من الظالمين يموتون على عروشهم بينما يموت المظلومون في السجون وعلى أعواد المشانق، وعليه فكيف يستطيع المسلم أن يجزم بأن هذا الظالم سيهلك في هذه المواجهة وأن المظلوم سينتصر فيها، فإذا لم يتحقق ذلك صرنا نلوم المظلوم وأنه لم يكن صادقا في نيته مثلا، مما ولّد حالات من الإحباط وسوء الظن بين المسلمين وتنابز بالاتهامات المتبادلة ..الخ وأرجو هنا التدقيق في الآيتين الكريمتين: ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) و (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين)، فهؤلاء الأنبياء موعودون بالنصر ولكنهم قُتلوا وتمكن منهم عدوهم، فما معنى النصر هنا؟ وكيف يستطيع مسلم بعد هذا أن يتألى على الله تعالى بغير دليل من الوحي. نحن إذن أمام مساحة واسعة من المعاني والاحتمالات وحكمة الله التي قد نعلم طرفا منها وقد لا نعلم، فكيف يمكن تحليل الحدث تحليلا قدريا ونحن لا نحيط علما بحكمته سبحانه؟ الخلاصة هنا: أن القدر الوارد في الوحي هو خبر نصدّقه كما ورد من غير زيادة ولا نقصان ولا تحديد أو تنزيل إلا بدليل من الوحي نفسه.

5- إننا عباد لله تعالى ملزمون بتنفيذ أمره ونهيه، وليس بتنزيل وعده ووعيده، اليوم كنت أقول لطلابي: لو أنك كنت طبيبا، وبعد الفحص الدقيق تبين لك أن هذا المريض قد أصابه المرض نتيجة لسلوكه الآثم وارتكابه الموبقات، فما هو واجبك تجاهه؟ تعالجه بإتقان، أم تتذرع بأن هذا عقاب إلهي ووعيد قد تحقق؟ وقد قرأت قديما كلاما لأحد المشايخ اقشعرّ منه بدني، يقول فيه: "أولئك الذين يدعون إلى جمع كلمة المسلمين هؤلاء يريدون أن يكذّب رسول الله الذي أخبرنا بأن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة) وهكذا تكون القراءة المغلوطة للنص وسيلة للهدم والتفرق، بينما هذا الحديث ليس نصا تكليفيا، وإنما النص التكليفي القاطع والواضح (ولا تنازعوا فتفشلوا)، فنحن نحاسب غدا على تنفيذ الأمر والنهي، وليس على تحقيق الأخبار القدرية، فهذا شأنه سبحانه وحده وهو الأعلم والأحكم والأرحم.

انتهى

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين