كروتنا الحمراء

أن يكون الأمر الديني قطعيا وثابتا ومسلّما به لا يعني أبدا عدم جواز الاستفسار عنه وعدم دخول الشبهة فيه على الناس.

إن علينا أن لا نرفع الكارت الأحمر في لعبة الحوار والنقاش في وجه كل سائل ومتشكك لتحرمه من المتابعة وحقه في الاستفهام والمعرفة. 

وإن علينا أن نرجع سيف المسلمات الى غمده ونسحب دعوى الثوابت من المرافعة وأن نتأنى في تنزيل مصطلحات الفسق والكفر والاتهام بعدم التخصص على قول او فعل لأحد من الناس قبل عقد الحوار معه وفك العقدة وتوضيح المشكل الحاصل عنده وفق الأصول والضوابط التي يريدها القرآن والسنة.

إن الفكرة تقارع بالفكرة والحجة تدحض بالحجة وإن أكبر مقتل للمحاور أن يتعجل في حسم الحوار تحت حجة انه مخالف للثوابت والمسلمات والقطعيات في هروب مبطن من إثبات خطأ الفكرة محل الحوار الى طريقة سلبية في الحسم لا تصحح فكرة ولا تقنع محاورا.

مع الانتباه أن كثيرا مما نعده ونظنه من الثوابت والمسلمات هو ليس كذلك ولم ينعقد عليها اجماع ولا اتفاق صحيح صريح.

هل هناك قطعي أكبر من استحالة رؤية البشر لله تعالى في الدنيا؟!!

ومن الشك في كيفية قدرة الله على إحياء الموتى؟!!!!

لقد حاور الله عبده موسى حين طلب النظر اليه ولم يجرمه بل اثبت له الاستحالة من خلال:

دليل نظري: "لن تراني"

ودليل عملي: "انظر إلى الجبل".

وحاور عبده إبراهيم حين طلب رؤية كيفية احياء الله للموتى فاثبت له القدرة من خلال:

دليل نظري : "أولم تؤمن"

ودليل عملي: "فخذ اربعة من الطير".

وانظر لحوار ابراهيم مع أبيه ازر حين أثبت له الايمان بحوار عقلي وعملي.

وحواره مع قومه من خلال محاججة بليغة مفحمة حين اثبت بطلان الاصنام من خلال إثبات عجزها

وهؤلاء الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في أخطر قضية في الوجود وهي (وجود الله تعالى ومن الذي خلقه سبحانه)؟ فيقول :

"ذاك صريح الايمان ".

وهذا شاب يستأذن في محرم قطعي في الشريعة وهو محرم الزنا ويطلب اباحته فلم يعنفه ويبين له ان ذلك ليس منكرا دينيا فحسب فهو منكر اجتماعي "اترضاه لامك لاختك لخالتك لعمتك..."

إن العالم والداعية والمحاور ليس قاضيا يصدر الاحكام انما هو صاحب رسالة يتدرج في الاقناع بها ودفع الشبهات عنها وعند ذاك لن يحتاج مطرقة القاضي عند اصدار الحكم إلا قليلا.

إن كثيرا من الحوار النافع والتلاقح الفكري المثمر نخسره لمجرد ان احد الاطراف يظن ان ما يقال مخالف للثوابت فتنتفض غيرته الدينية لحسم الحوار والنقاش ظانا انه يحسن صنعا.

وكثير مما تخسره الدول والمؤسسات وحتى العوائل والأسر والأفراد ان لديهم قائمة طويلة من الثوابت والمسلمات - كما يظنونها - لتحرم نفسها من كثير من التطوير والمراجعة.

إن في الشريعة خطوطا حمراء وثوابت راسخة لكن ليس في الشريعة منع أحد أو تجريمه من الاستفسار عنها أو طرح شبهة دخلت عقل أحد دون علم.

إن الحوار والتعليم والمناقشة هي التي ستظهر الكروت والخطوط الحمراء عند المجادل ليعرف حينها ان هناك أشياء ينبغي أن تحترم ولا يمكن تجاوزها فيقتنع ويسلّم لكن ان ترفع في وجهه من البداية فهذا خطأ جسيم!

ليطرح من شاء ما شاء فله ان يطرح وللمتخصص والعارف ان يرد ما دام واثقا من منهجه وعصمة دينه.

انظر الرد على هذا المقال فيما كتبه الأستاذ الشيخ إبراهيم منصور بعنوان:  إلغاء المسَلّمات توطيد للشبهات هـــنا

وقد أجاب الأخ الكريم الدكتور سعد الكبيسي على تعقيب فضيلة الشيخ إبراهيم منصور بقوله : 

ما شاء الله الكاتب له نفس طويل يحمد عليه واشكره شكرا جزيلا على المتابعة والتعليق.

لكنه لو تريث قليلا في القراءة وتمعن جليا في المنشور لعرف ان كل ما كتبه كان منطلقا من مقدمة فهمها ولم اقصدها وهي اني اريد التهوين من الثوابت او تمييعها ولم يفهم ذلك 99% ممن قرأ المنشور -وهو الاكثر تفاعلا وانتشارا منذ سنتين بالنسبة لما أكتبه- اقول لقد وقع في المقدمة الخاطئة فوصل الى النتيجة الخاطئة.

إن الثوابت ثوابت يكفر منكرها العالم بها وهي غير قابلة لتغيير او تبديل ولم يكن قصد المنشور بيان ذلك انما كان القصد ان الشبهات التي تنتشر انتشار النار في الهشيم في مواقع التواصل وعبر الفضائيات لا يكفي من العلماء والمختصين ان يواجهوها بقولهم هذه ثابتة ومسلمة ويرفعوا الكروت الحمراء لانهاء النقاش وانهاء الامر خصوصا ان معظم هذه الشبهات تحدث عند عموم المسلمين المحبين لدين الله اما المبغضون ومنحرفوا الفكر فهؤلاء لا نعنيهم مع بقاء خيار مناقشتهم ايضا واحيانا وجوب مناقشتهم

وعلى هذا فان الانسحاب من اي حوار تحت قولنا هذا ثابت هو فيه مضرة على صاحب الشبهة اذ لم تزل شبهته بهذه الطريقة بل تعمقها وتزيدها

صلاة الظهر اربع مثلا وصلاة الفجر اثنان هذه ثابتة فلو جاء رجل وقال: هذا غير منطقي وتناقض لان الانسان فجرا يكون أنشط من الظهر واستحكمت الشبهة عنده او ان يقول: اين الله من نصرنا مع دعاء سبع عجاف من السنوات في ثورة سوريا؟!!!

ووجود الله ثابتة

هنا دور العالم ان يشرح ويبين لا ان يتنصل ويقول هذه ثوابت ويمضي 

الهدف كان في حث العلماء والمختصين على التسلح لاجل الرد على الشبهات حول الثوابت وحمايتها وتحذير ان يجابهوها بقولهم هذه ثوابت ومسلمات ويمضون دون بيان

اما جعل المتغيرات ثوابت فمن مثل بعض الشبهات عن بعض الاحكام التي لم ترتق ان تكون ثابتة مثل قضايا الرق فان بقاء حكم الرق الان ثابت عند قوم متغير عند اخرين فحين اتناول قضية الرق لا اتناولها على انها ثابتة

وهذا هو المقصد

لكن الاستاذ المعقب جزاه الله خيرا ربما لم يتضح له المقصود وظنه انها تهوين من شان الثوابت

خلاصة القول: ان المنشور هو في التعامل التربوي واليات الاستيعاب للسائلين والمستفتين والمتشككين وليس في التحرير العلمي لمفهوم الثوابت وماهيتها

وسياق الاستدلال بالايات والاحاديث هو ان الله تعالى كان يجيب عن أسئلة الانبياء ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجيب عن اسئلة الصحابة ويرفع الاشتباه ويوضح الحقيقة حتى يقتنع السائل انها ثوابت فلم يجرم السائل ولا السؤال لذا لا حاجة ان ادخل في نقاش نقض الادلة الذي ساقه فسياق الاستدلال مختلف والفكرة مختلفة تماما.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين