وقفت على المقال الذي كتبه الأستاذ محد خير موسى، بعنوان عن ثورة الحسين المظلوم والمظلومَة تجدون المقال هـــنا.
وقد رأيت في هذا المقال ثغرات تقتضي التعقيب عليه، فأقول:
المقال في نظري غير موفق، لا من حيث التوقيت، ولا من حيث المضمون.
فأما من حيث التوقيت، فلأنه سيكون إضافة لرصيد الشيعة شئنا أم أبينا، خصوصا في هذا الظرف الذي يعربد فيه الشيعة بباطلهم شرقا وغربا.
وأما من حيث المضمون فلي عليه الملاحظات الآتية:
أولا: إن خروج سيدنا الحسين رضي الله عنه إنما كان اجتهادا منه هو فيه مأجور بلا شك، ولكن عددا من جِلَّة الصحابة رضي الله عنهم كابن عباس وابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وأبي سعيد الخدري، رضي الله عنهم جميعا، كانوا يرون عدم خروجه، وقد حاولوا ثنيه عن مقصده، كما حاول ذلك أخوه محمد بن الحنفية، وليته استجاب لهم.
بل إن الحسين نفسه رضي الله عنه، قد أبدى موقفا يدل على تغير اجتهاده أمام المعطيات التي تبدت له بعد أن وصل العراق قادما من مكة. ولكن: (... وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرࣰا مَّقۡدُورًا)
فإنه بلغه رضي الله عنه أن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، مبعوثه إلى شيعته بالعراق، والذي سبقه لأخذ البيعة له منهم، قد قُتِل على يد عبيد الله بن زياد، والي يزيد على الكوفة والبصرة، بعد أن خذله أربعون ألفا ممن أخذ منهم البيعة للحسين، وكان محاصِرا بهم قصر ابن زياد في الكوفة، فتفرق أكثرهم عنه في بياض النهار، ثم لما جنّ عليه الليل لم يبق منهم معه أحد، فأوى متنكرا إلى أهل بيت عرفوه فأسلموه إلى ابن زياد فقتله.
ولم يبلغ الحسينَ مقتلُ مندوبه مسلم بن عقيل، حتى كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، فلقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: ارجع فإني لم أدَعْ لك خلفي خيراً، وأخبره الخبر، فهَمَّ أن يرجع، وليته رجع، ولكن كان معه إخوة القتيل مسلم بن عقيل، فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل...
ثم إن الحسين رضي الله عنه همَّ بالرجوع مرة أخرى عندما وافى كربلاء، وفيها جيش ابن زياد بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص، وليس مع الحسين إلا خمسة وأربعون نفساً من الفرسان ونحو مائة راجل، فلمَّا رأى الحسين الأمر كذلك، قال لعمر بن سعد قائد جيش ابن زياد: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن أرجع إلى المدينة، وإما أن ألحق بثغر من الثغور أقاتل في سبيل الله حتى أقتل، وإما أن أتوجه إلى الشام حتى أضع يدي في يد ابن عمي يزيد بن معاوية فيرى فيَّ رأيه.
فقبل عمر بن سعد ذلك منه، وكتب به إلى عبيد الله بن زياد، فكتب إليه: لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي. فامتنع الحسين، فقاتلوه فقتل معه أصحابه وفيهم سبعة عشر شاباً من أهل بيته ثم كان آخر ذلك أن قتل رضي الله عنه.
"انظر الإصابة لابن حجر، وتاريخ ابن كثير، في ترجمة الحسين فيهما."
أقول: فهل بعد هذا دليل على أن الحسين نفسه، لو استقبل من أمره ما استدبر لما خرج ذلك المخرج؟
فكيف يحتج الكاتب بخروجه، ويسميه ثورة، ويحرض على نظائره؟
ومعلوم أن من أصول الاستدلال أن العالم أو المتبوع إذا ورد عنه قولان متعارضان، أو موقفان متغايران لا يمكن الجمع بينهما، فالحكم للمتأخر منهما.
فكيف يتغاضى الكاتب عن هذه الحقيقة الجوهرية في هذه القضية، ويعكس مُسَلَّمات الاستدلال ليتعلق بما ندم الحسين عليه، ويتجاهل ما عزم بعد ذلك عليه؟
إنما مَثَلُه في ذلك كمثَل من تمسك بفتوى ابن عباس في حل نكاح المتعة، بعد أن رجع عنها ابن عباس نفسه.
إن ثمرة هذه الطريقة الخاطئة في الاستدلال أن يوجه الحدثُ إلى غير وجهته، وإلى غير مراد صاحبه الحسين رضي الله عنه، وأن يجعل ما استكره عليه الحسين حجة، وكأنه فعله مختارا له مغتبطا به، وغاية الكاتب من وراء هذه المغالطة أن يجعل من الحسين رضي الله عنه ملهما للثورات محرضا عليها، في وقت أصبحت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى التروي والأناة والسير بخطى واثقة، وخطط مدروسة؟!
وذلكم والله هو الدرس الأكبر والأظهر الذي يجب أن تسلط عليه الأضواء في موقعة كربلاء، ألا وهو: أنه إذا كنتَ أنت الذي تختار توقيت المواجهة مع الظلم والقهر والطغيان، فاستقْصِ غاية الاستقصاء في أخذ الأهبة وإعداد العدة وإحكام الخطة وتوقيت المواجهة، بحيث يكون احتمال الإخفاق مستبعدا جدا جدا جدا.
وأما إذا كانت المواجهة مفروضة عليك، لا خيار لك في التوقيت ولا المكان ولا التحييد ولا التأجيل ولا حتى المسالمة، (كشأن الحسين رضي الله عنه حين رُدّت عليه كل خيارات المسالمة الكريمة، وفرضت عليه المواجهة الأليمة) فالقول عندئذ:
مشيناها خطى كُتبت علينا ومن كُتبت عليه خطى مشاها
ومَن كانَت مَنِيَّتُهُ بِأَرضٍ فَلَيسَ يَموتُ في أَرضٍ سِواها
(ملاحظة): البيتان متَّسقان في المعنى والبحر والقافية، ولكنهما لشاعرين عباسيين في زمنين مختلفين، بينهما أكثر من قرن ونصف.
ثانيا: هذا المقال يمثل في نظري هجوما ظالما على أهل السنة والجماعة، باتهامهم بظلم الحسين رضي الله عنه.
ولست أقول ذلك استنتاجا ولا اجتهادا، وإنما هو نصُّ كلامه ومنطوقه الذي لا يحتاج إلى استنتاج ولا اجتهاد، وهذا نصه: (لقدَ ظلمَ أهل السّنّة والجماعة ثورة الحسين رضي الله عندما لم يحوّلوها إلى ثورةٍ ملهمةٍ لكلّ ثوراتِهم في مواجهة الطّغيان والاستبداد، وظلموها حين تحاشوا التّعاطي معها خوفًا من تهمة التّشيّع، فغابت عن أحاديثهم وخطبهم وندواتِهم ومحاضراتِهم، وظلموها حين تجنّبوا إحياء ذكراها كما يحيون ذكريات الوقائع المفصليّة في تاريخ الأمّة الإسلاميّة خشيةً من اتّهامهم بالتناغم مع المجالس الحسينيّة العاشورائيّة الشّيعيّة، والأصل فيهم أن يقولوا للدّنيا كلّها: نحن أبناء الحسين المظلومين (المظلومين) مثله، نحن أبناؤه المحاصرين (المحاصرون) من الاستبداد مثله، ورؤوسنا معلّقة على رماح الطّغاة المجرمين مثل رأسه فهو منّا ونحن منه) اهـ.
وأقول: عندما تقول: أهل السنة والجماعة. يدخل فيه أول ما يدخل أئمتهم في العلم من قرَّاء ومحدِّثين وفقهاء وقضاة ومفتين ومربين ومؤرخين وقادة الرأي وأهل الحل والعقد منهم...
وحاشا أن يكون هؤلاء مطْبقين على الظلم أصلا، فضلا عن أن يكون مظلومهم هو الإمام الحسين، ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنها لتهمة كبيرة مردودة على قائلها، عندما يتهم هؤلاء بأنهم أطبقوا عبر التاريخ على ظلم الحسين وثورته - إذا جاز أن نسميها ثورة - حين لم يحولوها إلى ثورة ملهمة، وحين تحاشوا التعاطي معها فغابت عن أحاديثهم، وحين تجنبوا إحياء ذكراها، وحين خالفوا الأصل فيهم، فلم يقولوا للدّنيا كلّها: نحن أبناء الحسين المظلومين مثله.....
إن اتهام أهل السنة والجماعة بظلم قضية الحسين، كلام يصب بسخاء في رصيد الرافضة.
وَدّ الرافضة لو ظفروا بأمثال ذلك من كتّاب أهل السنة وعلمائهم ومفكريهم، ليقيموا الدليل بطريقة (من فمك أدينك) على أن أهل السنة نواصب مبغضون لأهل البيت، والدليل: اقرؤوا ما كتب الأستاذ محمد خير موسى...
وإلا فما الفرق بين قول كاتب المقال: (يُعرِضُ كثيرٌ من الدّعاة والخطباء والعلماء المسلمين من أهل السّنة عن التّفاعل مع ثورة الحسين رضي الله عنه، ويتحاشون الحديث عن ثورة حفيد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وجه الاستبداد السياسيّ بسبب الخوف من الاتّهام بالتّشيّع) اهـ
وبين قول أحمد حسون، مفتي بشار، من قبل أن يتبوأ منصب الإفتاء: (عشرات من السنين وأنا على مقعد الدراسة، لا أسمعها من أستاذ لي أن يوم عاشوراء كانت فيه مأساة الأمة الإسلامية. لماذا يخفون عنا ذلك سامحهم الله؟ قال: خوفا من أن تتأثر فتتشيع. هل تُخبّأ الحقائق خوفا من المذاهب؟...) اهـ "مفرغ من كلامه في مقطع على اليوتيوب بعنوان: لماذا يخفون قصة مقتل الحسين؟"
هل تجد أيها القارئ فرقا في مضمون الخطابين؟ خطاب الكاتب، وخطاب المفتي.؟
ألم أقل لكم: إن المقال يعتبر إضافة إلى رصيد الشيعة، شئنا ذلك أو أبينا؟
ولو أنصف الكاتب، وأنزل أهل السنة والجماعة منزلتهم، للزم غَرْزهم، ووزن كلامه بموقفهم، ولم يخالف ما يراه إجماعا لهم، ولرأى أن مجيء كلامه على خلاف ما يقرِّره هو من منهج واختيار أهل السنة والجماعة، لدليل على بطلان كلامه، وهل هناك أدل على بطلان كلام ما، من كون ذلك الكلام مخالفا لإجماع أهل السنة والجماعة؟
فكيف إذا كان ذلك الكلام مستهجِنا لموقفهم ومنهجهم، وهم خيار الأمة؟ بل هم الأمة.
ثالثا: قال الكاتب: (المطلوب اليوم إعادة قراءة حادثة كربلاء وثورة الحسين رضي الله عنه قراءة موضوعيّة متجرّدة عن الصّراع الطّائفي لاستلهام معاني انتصار الدّم على السّيف، ولنرى أنَّ أوّل من ثار على الحكم المستبدّ هو حفيد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان سيّد شباب اهل الجنّة؛ فكلّ من استشهدوا على طريقه في مواجهة أحفاد يزيد من الحكّام المستبدّين هم سادة شباب أهل الجنّة معه.)
وأقول: ما أبعد هذا لكلام عن الواقعية والتجرد وعن منطق العلم! وما أثقله بالمغالطة والتلبيس!
فأين وجدتَ أيها الكاتب هذا الربط بين هذه المنقبة الشريفة النفيسة للحسين رضي الله عنه بأنه سيد شباب أهل الجنة، وبين ثورته التي تزعم على الحكم المستبد، حتى قلت: أول من ثار... فكان سيد شباب أهل الجنة؟
وهل ثبتت هذه المنقبة للحسين بعد الثورة المزعومة أم قبلها؟
وما محل فاء "فكان" التي تفيد الترتيب والتعقيب، وليس ثمت في الواقع ترتيب على ما قبلها ولا تعقيب ؟!
وكأن الخبر عن أن الحسين سيِّد شباب أهل الجنة قد جاء لاحقا بعد استشهاده رضي الله عنه.
أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ما هذه المغالطة المكشوفة؟
إن هذه المنقبة الجليلة للحسين، قد ثبت مثلها لأخيه الحسن في نفس الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي في سننه بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ". قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فإذا كان الحسين قد استحقَّ هذه المنقبة والبشارة النبويَّة، بأنه أوّل من ثار على الحكم المستبدّ. بزعم الكاتب. تُرى فبماذا استحقها أخوه الحسن، وهو معه في النص، وقبله في الولادة وفي الوفاة، ولم يكن له حظ في ثورة بمقتضى زعم الكاتب أن الحسين أول من ثار على الحكم المستبد؟!
ثم لماذا هذه الانتقائية في إشاعة هذه المنقبة في حقِّ الحسين، والسكوت عنها في حقِّ أخيه الحسن، مع أنها ثابتة لهما في نص واحد كما أسلفت؟!
إن في هذا التوجه وهذا النفَس مضاهاة للشيعة، وإن كان الكاتب لا يقصدها، فإن الشيعة يسلِّطون كل الأضواء على الحسين ليظهروه كما يحب ضُلالهم أن يروه، في الوقت الذي يحجبون الأضواء تماما عن أخيه الحسن ويحجبون الناس عن رؤيته كما هو. وأنعم به كما هو رضي الله عنه.
بل قد بلغت ببعضهم السفاهة أن قالوا عن الحسن: مُسوّد وجوه المؤمنين بعد صلحه مع معاوية. رضي الله عنهما.
والسر في ذلك التَّحيُّز الفارسي للحسين كما هو معلوم، أنَّ أم ولد الحسين هي إحدى بنات يزدجرد الثلاث اللاتي وقعن في السبي في زمن عمر رضي الله عنه، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر فأولدها سالما، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم، والثالثة للحسين بن علي فأولدها عليا زين العابدين ، فكلهم بنو خالة. كذا في تاريخ ابن كثير، نقلا عن الزمخشري في "ربيع الأبرار".
وإذا كنا معشر أهل السنة والجماعة أولى بالحسين من الشيعة، فنحن أيضا أولى من الشيعة بأخيه الأكبر الحسن رضي الله عنه.
وإذا كان يجب علينا - كما يرى الكاتب - أن نحتفي بذكرى استشهاد الحسين في كربلاء ونجعلها ملهمة للثورة على الاستبداد، فلماذا لا نحتفي بالإنجاز العظيم للحسن عام واحد وأربعين، الذي تمَّ فيه الصلح بين سيدنا الحسن بن علي وبين سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وحُقنت فيه الدماء، ووضعت فيه الحرب التي كانت على أهبة الانفجار، واغتبط الناس بذلك وسموا ذلك العام "عام الجماعة"
وقد كان في ذلك منقبة جليلة للحسن تحققت فيها نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال عن الحسن: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ".
روى خبر ذلك البخاري في أبواب الصلح من صحيحه عن الحسن البصري قال: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ - أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ وَقُولَا لَهُ وَاطْلُبَا إِلَيْهِ. فَأَتَيَاهُ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا وَقَالَا لَهُ فَطَلَبَا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا. قَالَا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ. قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَصَالَحَهُ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. اهـ
أقول للأخ الكاتب: لئن كنا محتاجين إلى ملهم للثورة في وجه الطواغيت القتلة، فنحن أحوج إلى مُلهم للصلح والتنازل والتفاهم والتغاضي فيما بين الفصائل التي أصبحت أكثر من الرز كما يقولون، والذين طالما اشتغلوا بالقتال المرير الشديد فيما بينهم، وهم بعد لم يفرُغوا من شأن النظام، فكيف لو قد فرغوا؟!
ولعله لا يخفى على الكاتب أن المئات من الشاب المقاتلين المرصَدين لجهاد الطواغيت، أو هكذا يفترض، قد قتلوا في المواجهات الدموية الضارية التي وقعت في الغوطة وحدها بين فصيلي جيش الإسلام وفيلق الرحمن، فضلا عمَّا وقع وما يزال بين مختلف الفصائل في مختلف المناطق.
فليكن خطابنا الثوري مشوبًا بشيء من خطاب السلام والوئام والصلح والمسامحة، فلكل مقامه وأهميته.
رابعا: قال الكاتب: (إنَّ الذين ثاروا على الطّغيان ووقفوا في وجه الحكّام المجرمين، وصرخوا في وجوه المستبدّين وجيوشِهم كما نادى الحسين رضي الله عنه "هيهات منّا الذّلّة" هم أبناء الحسين الحقيقيّين...)
وأقول: هذه عبارة مفصلة على مقاس الشيعة تماما.
عن نفسي: ما سمعت من يقولها إلا جرذ الضاحية زعيم حزب إيران اللبناني حسن زميرة، وأشياعه، يصرخون بها في وجوه المستبدين... بزعمهم.
ولهذه العبارة في رؤوسهم مثل أثر الخمر في رؤوس شاربيها، فهم بهذا الاعتبار أبناء الحسين الحقيقيون بشهادة الكاتب.
لستُ أتهمه بالتشيع، معاذ الله، ولكن هذا مدلول كلامه، وإلا فمتى كانت هذه العبارة شعارا لأهل السنة؟ ومن الذي يثبت أن سيدنا الحسين قالها فعلا؟
لستُ أنكر شيئا من معناها، وإن الحسين بمعناها لجدير.
ولكني أسأل عن التوثيق.
أما أنا فلم أجدها منسوبة إلى الحسين رضي الله عنه في مرجع معتبر.
إنما وجدتها في كتاب "شرح نهج البلاغة" وهو كتاب شيعي ملفَّق منسوب إلى عليّ رضي الله عنه، جمعه الشريف الرضي، أو أخوه الشريف المرتضى، أو كلاهما، وقد شرحه الشيعي ابن أبي الحديد، المتوفى سنة 656هـ برسم خزانة الوزير الشيعي الخائن الغادر ابن العلقمي، وزير المستعصم بالله، آخر خلفاء العباسيين، الذي كان حتفه بتدبير وزيره المذكور، حيث كاتب الوزير ابن العلقمي. قائد المغول هولاكو، يشير عليه باحتلال بغداد، ويعده بالإعانة على الخليفة، وكذلك كان، فكانت نهاية خلافة بني العباس سنة 656هـ
كذا في الأعلام للزركلي.
والمقصود أن العبارة يتداولها الشيعة، وينسبونها إلى الحسين، وليس هناك ما يثبت ذلك، فلا أرى الحفاوة بها، خصوصا وأنها صارت كالسِّمة على الشيعة يجعلونها شعارا لتغطية جرائمهم.
خامسا: قال الكاتب: (ويصلُ الأمرُ حدًّا في غاية الغرابةِ والاستهجان عندما ترى ثلّةً من الكتّاب والباحثين والدّعاة من اهل السّنّة يحاولون الغمز من الحسين رضي الله عنه وتحميله المسؤوليّة...)
وأقول: هذا صحيح، قد وُجد هذا قديما وما يزال، وأنا أبرأ إلى الله تعالى من كل من يغمز من الحسين في هذه المسألة.
وأعتذر إلى الله تعالى عمَّا كتبه القاضي أبو بكر بن العربي في (العواصم من القواصم) حين قال: وما خرج إليه "يعني الحسين" أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر عن الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها ما روى مسلم ... قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان". فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. اهـ
قلت: وقد تعقب رائد علم الاجتماع العلامة المتفنن المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون رحمه الله، كلاَم ابن العربي هذا بالتغليط، فقال في مقدمة تاريخه الشهيرة: وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه: أن الحسين قُتِل بشرع جده. وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل، ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!. اهـ
وهلمّ فلأنقل لكم الرؤية الروية والتحليل الوجيه المنصف من ابن خلدون عن موقعة كربلاء، التي كتبها بحسِّ المؤرِّخ الخبير والباحث البصير، بعيدا التحمس الثوري، أو الانحياز الطائفي.
قال رحمه الله في مقدمته:
وأما الحسين، فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافَّة من أهل عصره، بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعيِّن من أجل فسقه، لا سيما من له القدرة على ذلك، وظنها من نفسه بأهليته وشوكته. فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبيَّة مضر كانت في قريش، وعصبيَّة قريش في عبد مناف، وعصبيَّة عبد مناف إنما كانت في بني أميَّة، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس، ولا ينكرونه، وإنما نُسي ذلك أول الإسلام لِما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي، وتردُّد الملائكة لنصرة المسلمين. فأغفلوا أمور عوائدهم، وذهبت عصبيَّة الجاهلية ومنازعها ونُسيت، ولم يبق إلا العصبيَّة الطبيعية في الحماية والدفاع، يُنتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين، والدين فيها محَكّم والعادة معزولة. حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد، فعادت العصبيَّة كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل.
فقد تبيَّن لك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنِّه، وكان ظنُّه القدرة على ذلك. ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة، وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمَّا هو بسبيله لِما أراده الله.
وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز، ومع يزيد بالشام والعراق، ومن التابعين لهم، فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز، لما ينشأ عنه من الهرج والدماء، فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثموه، لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين.
ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره، فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء، على فضله وحقه، ويقول: "سلوا جابر بن عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وسهل بن سعيد، وزيد بن أرقم وأمثالهم. ولم ينكِر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرَّض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن اجتهاد منه.
وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لمّا كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد، ويكون ذلك كما يحدُّ الشافعيُّ والمالكيُّ الحنفيَّ على شرب النبيذ. واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم، وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه. ولا تقولن: إن يزيد وإن كان فاسقاً ولم يُجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة. واعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً. وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا، فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه، والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضاً واجتهاد. اهـ
أقول: فانظر رحمك الله كيف يعذر الحسينُ رضي الله عنه، المسلمين من الصحابة وغيرهم في قعودهم عن نصرته، لأنهم خالفوه في اجتهاده، في مقابل موقف كاتب المقال عن الحسين المظلوم، الذي يرمي أهل السنة والجماعة بظلم الحسين، وينحب باللائمة عليهم، لأنهم لم يُحوّلوا خروجه إلى ثورة ملهمة، ولأنهم تحاشوا التعاطي مع ذلك الخروج فغاب عن أحاديثهم، ولأنهم تجنبوا إحياء ذكرى وقعة كربلاء.....
وكأنَّ القضية عند الكاتب نصيَّة قطعيَّة لا يسوغ فيها اجتهاد مخالف.
وبهذه المقارنة يتَّضح لك الفرق بين من يكتب في هذه القضية عن رويَّة وبصيرة وورع، وبين من يكتب فيها مفتقرا إلى قليل من ذلك أو كثير.
ولست أبرئ نفسي من ذلك الافتقار
والله أعلم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول