قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (3)

قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (3)

قضى بالعدل فشغب عليه المشغّبون والفاسدون

د. محمد سليم العوَّا

 

نواصل القراءة في مقدمة ابن خلدون، رحمه الله تعالى، التي هي مقدمة لكتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».

 

ونتوقف عند مسألة ذكرناها في الحلقة الماضية تتعلق بسلوك ابن خلدون في القضاء، وقد ذكرنا في ترجمته غضب البعض منه أثناء ولايته القضاء حتى قالوا عنه: «كان فصيحاً مفوهاً جميل الصورة حسن العشرة، وخصوصاً إذا كان معزولاً، أما إذا ولي فلا يعامَل، بل ينبغي ألا يرى»، وهو ما أثار شبهة في نفس البعض، وقال لي: «إذا كان رجلاً هذا نوع خلقه بهذه الشراسة، وهذه السخافة، ويفضل ألا يرى، فماذا الذي يجعلنا نضيع وقتاً طويلاً ونقرأ كتبه»، ولنا رد على ذلك.

 

إن كل ما قيل في ذم ابن خلدون وسيرته في القضاء مردود عليه.

 

ولابن خلدون رد واضح في كتابه «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً»، حيث يقول بعد أن تولى منصب قضاة المالكية: «فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفيت عهد الله بإقامة رسوم الحق وتحري المعدلة؛ حتى سخطني من لم تُرضه أحكام الله، وكثر شغب أهل الباطل والمراء؛ فأعفاني السلطان منها لحول من يوم الولاية».

 

لقد مكث في منصبه سنة واحدة، وشغب عليه المشغبون وكرهه من لم ترضه أحكام الله، ممن كانوا يتوسلون إلى الحكام بالشفاعات والواسطات والرشى، ثم لما وجدوا ابن خلدون لا يمكن الوصول إليه بهذه الوسائل كرهوه، فلما كرهوه دسوا له عند السلطان وانتقدوه، فعزله السلطان بعد عام واحد من الولاية.

 

يقول ابن خلدون عن هذه الولاية: «فقمت بما دفع إليَّ من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما آمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسوياً بين الخصمين، آخذاً بحق الضعيف من الحكمين، معرضاً عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً إلى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات».

 

شهود الزور

 

والحق أنه في ذلك الزمن وإلى زمننا هذا يوجد شهود الزور وهم لا يحصون كثرة ولا عدداً، ويعرضون أنفسهم على الخصوم قبل بدء الخصومة، وهذه النوعية من الشهود كانت كثيرة جداً في الوقت الذي تولى فيه ابن خلدون القضاء؛ فتثبت في سماع الشهود؛ فكان يدقق من أمرهم، وله قصة مشهورة جداً حيث رفض شهادة «الاستادار» وهي كلمة فارسية، تطلق على وزير المالية في حكومة المماليك، فحينما ذهب عند ابن خلدون وشهد عنده رد شهادته، فلما سئل: كيف تفعل هذا في وزير المالية المقرب من الأمير؟ رد قائلاً: «هو عندي ليس بشاهد عدل؛ لأنه يجبر الناس على أخذ الأموال بالباطل، ويدخلها الخزانة، فهذا لا تقبل شهادته»؛ ما أدى إلى عزله من القضاء مرة من المرات.

 

ويضيف ابن خلدون في كتابه: «والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب ملتبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم؛ لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة؛ فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة..».

 

وإذا نظرنا بتمعن وجدنا أن هؤلاء المختلطين بالأمراء في كل عصر حتى عصرنا هذا؛ حيث نجد عمائم كبيرة تجلس عند الأمراء يلبون لهم طلباتهم، يعلمون القرآن، ويؤمُّون الناس في الصلوات، وإذا جاءت قضية للسلطان شهدوا بما يحب السلطان، ولو كان مخالفاً للحق، وهو ما رفضه ابن خلدون.

 

ويكمل ابن خلدون: «كان الأمراء يقسمون لهم الحظ من الجاه، ويزكونهم عند القضاة ويتوسلون لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتدليس والتزوير بين الناس منهم، ووقفت على بعضها فعاقبت فيها بموجع العقاب ومؤلم النكال، وتأدى إليَّ العلم بالجرح في طائفة منهم؛ فمنعتهم من تحمل الشهادة، وعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم عليَّ وأحقدهم، فصدعت في ذلك بالحق وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم..».

 

وهكذا يتبين لنا أنه انتقاد ولد من رحم الحقد على عدله والسخط على حزمه ورفضه للزور، وأوضاع غير صحيحة في زمنه؛ ولذلك كان يعود بعد فترة للقضاء عندما يتبين كل مرة نصاعة ساحته.

 

الأمر الثاني فيما سأل عنه البعض: أن الخلق السيئ لا يبدد العلم السليم؛ فقد نأخذ العلم ما دام ثبت لدينا صحته وسلامته من أناس ليسوا على ديننا أو على كامل الأخلاق، ولقد أثبتنا أن أخلاق ابن خلدون لم تكن سيئة، ولكنه حقد بعض الناس.

 

والذي يقدمه لنا ابن خلدون في هذه «المقدمة» شيء لم يُسبق إليه، وإلى اليوم لم يلحق به؛ فنحن أولى الناس أن نستعيد هذه «المقدمة»، وأن ندرسها ونعرف ما فيها من خير؛ لأن ابن خلدون كان محطاً للخير ومصدراً له، ولم يكن هذا الانتقاد الذي وجه إليه صحيحاً؛ إنما كان نتيجة حقد هؤلاء الفسدة عليه، الذين أرادوا أن يفسد القضاء في عهده كما فسد في عهد سواه، والحال أن الحملة عليه كانت بسبب عدله وصلاحه وشدته في الحق لا بسبب ظلم وقع منه أو مخالفة للقضاة العدول نُسبت إليه.

 

ونقول: إن كل الذين ترجموا له وذموه، ذكروا أنه عزل بسبب ظلمه أو خلقه، ووصل الأمر إلى نعته بالكبر لأنه كان يرتدي زي المغاربة، ولا يرتدي زي المصريين، بل قالوا: إنه كان يحب المخالفة في كل شيء، وهذا كله قاله أهل الفساد ليدفعوا عن ابن خلدون صفة الصلاح التي به.

 

وللأسف كان الأمراء يخشون من رد فعل معاونيهم إذا صمتوا على رد شهاداتهم من ابن خلدون؛ لأن الدولة المملوكية كانت مليئة بالانقلابات؛ ولذلك كان يدفع ابن خلدون الثمن، حتى شهد له المؤرخون في أربعة كتب بالصيانة وقت توليه القضاء.

 

وهناك مؤرخ من كبار مؤرخي مصر اسمه ابن تغري بردي (ت عام 874هـ)، يقول عن ابن خلدون في توليه القضاء: «باشره بحرمة وافرة وعظمة زائدة، وحمدت سيرته ودفع رسائل أكابر الدولة وشفاعات الأعيان».

 

وهناك أمر جدير بالتوقف عنده أنه اعتقل في المغرب ومصر وتونس حتى كان يعتقل في كل مكان يذهب له، وهذا شأن كثير من الصالحين والطيبين في التاريخ القريب والبعيد، وكانت أيام اعتقاله على سنن الأشراف من الصبر وعدم الخضوع والتوسل، وترك الخضوع للحكام، ولم يقبل أن يتوسل باسمه أحد عند الحكام ليطلق سراحه.

 

لقراءة المقال السابق.. اضغط هـنـا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين