قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (2)

قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (2)

ابن خلدون ومقدمته.. من مفاخر الإنسانية كلها

د. محمد سليم العوا

 

نستكمل القراءة في مقدمة ابن خلدون، رحمه الله تعالى، وهي «مقدمة في التاريخ»، بعد أن قرأنا طرفاً من سيرته ونسبه مجملاً وموجزاً شديد الإيجاز نبدأ في قراءة المقدمة.

 

هي مقدمة في التاريخ الذي صدر في ثلاثة عشر جزءاً، وصدرت هذه المقدمة في جزأين، وهناك جزآن للفهارس لم يصلا مصر بعد(1).

 

كتاب التاريخ سماه ابن خلدون «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، بدأ ابن خلدون كتابة التاريخ ليكون تاريخاً في منطقة ميلاده وحياته، منطقة الغرب الإسلامي؛ فكتب أجزاء منه في الجزائر، ثم كتب أجزاء منه في المغرب، وبدأه بأيام العرب الذين فتحوا هذه البلاد وأدخلوا فيها الإسلام، ثم البربر، ثم من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر قبائل زاناتا وما إليها.

 

ثم أتى على العجم بعد ما عاش في مصر؛ فلم يكن عنده خبر عن العجم حتى أقام في مصر، ووضع عنوان الكتاب متأخراً بعد ما انتهى منه، حتى إنه كان يراجع بعض النسخ المنسوخة توقياً للأخطاء فيها ويصححها بنفسه.

 

هذه الطبعة، التي صنعها إبراهيم شبوح، صدرت عام 2006م، قال عن عمله فيها: «قرأه وعارضه بأصول المؤلف وأعد معاجمه وفهارسه»، ولكل كلمة منها معنى في علم تحقيق النصوص، فالقراءة أن أعرف ماذا يقول النص.

 

والمعارضة: أن تقرأ النسخ أو النسختين بمقابلة بعضها، أحدنا يقرأ نسخة والثاني يرد عليه من نسخة أخرى، فإذا وُجد اختلاف يشار إلى أنه في كلمة كذا، حتى يتيقن من صحة النسخة التي يعمل عليها.

 

ثم أعد معاجمه وفهارسه، لأن لكل عالم في كتبه خصوصيات ومميزات، وهو تقليد قديم ومستمر حتى عصرنا هذا، فهناك معجم اسمه معجم لغة محمود شاكر، فصنع شبوح معجماً لألفاظ ابن خلدون في الجزأين الأخيرين، ثم أعد فهارسه؛ فهارس للأعلام وفهارس للبلدان، وفهارس للأماكن المهمة، وفهارس للتواريخ، فهارس شاملة جامعة، وكتب شبوح اسم ابن خلدون على المقدمة كما كتبه ابن خلدون في مقدمته: «ولي الدين عبدالرحمن ابن محمد ابن خلدون»، لكنه في طول الكتاب وعرضه يذكره بكنيته «أبو زيد»؛ فهو أبو زيد ولي الدين عبدالرحمن ابن محمد ابن خلدون.

 

ابن خلدون باختصار

أراد لسان الدين بن الخطيب(2)، أديب غرناطة والأندلس العظيم أن يُعرِّف ابن خلدون باختصار بكلمة صغيرة جداً، جاء بها في صفحة مستقلة، جعل عنوانها «ابن خلدون»، قال: «هذا الرجل الفاضل حسن الخلق، جم الفضائل، باهر الخصل رفيع القدر ظاهر الحياء أصيل المجد وقور المجلس خاصيّ الزي (كان ابن خلدون يلبس زياً مميزاً، وكان هذا موضع انتقاد من المصريين لأنه لم يغير زي المغاربة)(3)، عالي الهمة، عزوف عن الضيم (لا يقبل الظلم)، ولم يكن لسانه كالا (يرد الصاع صاعين)، صعب المقادة (ولذلك كان يبقى في منصبه مع الأمير سنة أو سنة ونصف سنة أو ستة أشهر، وفي بعض المناصب قعد أياماً، لا يتحمله الناس).

 

ومما وصف لما تولى القضاء في مصر أنه كان يعامل الناس بشدة، وكان قاسياً في التعزير(4)، قوي الجأش (لا يخاف، مثل الجبل ثابت)، طامح لقنن(5) الرئاسة (ليس متواضعاً، نظره دائماً إلى أعلى يريد أن يكون رئيساً، قاضي القضاة..)، خاطب للحظ (يمشي باحثاً عن الأماكن التي فيها رزق، همة أكثر، وظيفة أعلى، احترام أكبر من الناس، كلما وجدها تطلع للحصول على ما فيها من حظ الدنيا)، متقدم في فنون عقلية ونقلية متعدد المزايا سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغرى(6) بالتجلة (شخص يغريه جداً أن يجله الناس، لا يحب أن يعامل معاملة الأشخاص العاديين).

 

جواد الكف (كان كريماً)، حسن العشرة (إذا صادقته وصاحبته تلذذت بعشرته)، يهدي إليك مختار الألفاظ (جزيل المعاني، العلم النافع التواريخ التي لا تعرفها، الفقه، الحديث كان محدثاً من كبار المحدثين لكن غلبت عليه مهنته الأصلية التاريخ فضاع في علم الحديث، مع أن كلامه في المقدمة في علم الحديث كلام بحر من بحور علم الحديث)، مبذول المشاركة، مقيم لرسوم التعيين (يعطي الملوك والأمراء والقضاة حقوقهم من التوقير والتبجيل)، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخرة من مفاخر التخوم المغربية».

 

بل الحقيقة هو من مفاخر الإنسانية وليس العربية ولا الإسلامية فحسب، ومن قرأ أو من يحب أن يقرأ في علم الاجتماع فليقرأ أي كتاب كان، ثم يرجع لموضوع من موضوعاته في المقدمة لن يجد شيئاً يزيد عن الوجيز الذي كتبه ابن خلدون، تفصيلات وقصص عن بلاد وعن شعوب، لكن الأصل في بناء علم الاجتماع هو الذي ألهمه ابن خلدون إلهاماً على غير مثال سبق، وفصله تفصيلاً لم يخطر ببال أحد، ولا شك -عندي على الأقل- أن الله تبارك وتعالى قد اختاره لهذه المهمة لكي يقدم إلى البشرية هذا النوع من المعرفة الذي لم تكن تعرفه، والذي إلى يوم الناس هذا، وأظن إلى يوم القيامة، سيظل الناس في هذا الباب عيالاً على ابن خلدون.

 

وقال عنه الحافظ بن حجر، شارح البخاري وصاحب الكتب العظيمة في تاريخ مصر وفي الحديث وشروحه، الفقيه الشافعي المشهور، قال بعد أن ذكر اسمه ونسبه: «أبو زيد ولي الدين المالكي من المائة التاسعة، اعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط، حتى مهر في جميع ذلك..».

 

هذا يدل على أن العلماء المصريين أرادوا أن يحصروا ابن خلدون في جانب الأدب واللغة دون أن يدخلوه في جانب الفقه والحديث، لأن ابن حجر من كبار المحدثين، والسخاوي بعده وهو محدث من كبار المحدثين، وتكاد تكون ترجمة السخاوي نسخة من ترجمة ابن حجر ليس فيها زيادة بين الاثنين.

 

فقصدوا أننا أهل الحديث أهل العلم الفقهي، هو يعرف الأدب والخط، لكن الحديث والفقه صنعتنا نحن.

 

قال ابن حجر: «اعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط، حتى مهر في جميع ذلك، قرره الملك الظاهر في حقوق المالكية، في الديار المصرية، فباشرها مباشرة صعبة» (أي قسى على الناس فعزر بالقوة المتهمين وضربهم.. إلخ).

 

قيل عنه: «كان فصيحاً مفوهاً جميل الصورة حسن العشرة وخصوصاً إذا كان معزولاً» (إذا لم يكن عنده وظيفة يكون متواضعاً هيناً، ويمشي في الشوارع ويذهب لبيوت الفقراء)، أما إذا ولي فلا يعامل، بل ينبغي ألا يرى!

 

أقول هذا الكلام لكي نعرف أن أهل الفضل لا يكون فضلهم دائماً أبداً، وأن أهل الخير لا يكون خيرهم أبداً، وإنما الإنسان مظنة النقص ومظنة عدم الكمال ومظنة العيب ومظنة الخطأ والمعصية، كحال ابن خلدون.

 

كان يحب المخالفة في كل شيء، وهذه أيضاً منقصة، ولم يشهد عنه في منصبه إلا الصيانة، لم يعرف في احترام نفسه والقضاء بالحق والعدل دون أن يظلم أو يعين على ظالم.

 

_____________

(*) هذه المقالات أصلها حلقات ترفع تباعاً على موقع «يوتيوب» على قناة باسم د. محمد سليم العوَّا، والقراءة في مقدمة ابن خلدون لا تزال مستمرة.

(1) في وقت إذاعة هذه الحلقات على قناة «اليوتيوب».

(2) في كتاب الإحاطة بأخبار غرناطة.

(3) ويبين أن هذا التميز كان من قبل مجيئه إلى مصر.

(4) أي العقوبة غير المقدرة من الشرع ليست حدوداً وليست قصاصاً.

(5) جمع قنة، وهي المكان العالي.

(6) من الإغراء.

 

لقراءة المقال الأول .. اضغط هـنـا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين