قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (1)

    قراءة في كتاب مقدمة ابن خلدون (1)

نظرات في مقدمة المقدمة

 

د. محمد سليم العوَّا

يقول إبراهيم شبوح: محقق هذه النسخة من تاريخ ابن خلدون: على كتاب التاريخ كله: «بعد القراءة المتأنية لتاريخ ابن خلدون: أرى أنه ليس كتاباً في التاريخ: بل هو عرض لحال العالم الإسلامي منذ نشأة الإسلام إلى أيام ابن خلدون؛ هدف هذا العرض أن يكشف أثر قانون التدافع المأخوذ من قول الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} سورة الحج.

وتأثير هذا القانون في قيام الدول وبقائها وعظمتها وضعفها وانهيارها بعد ويضيف أن التدافع عند ابن خلدون ليس تدافع القوى؛ التدافع عند ابن خلدون ليس تدافعاً عسكرياً. إنما هو تدافع حضاري إذا استقلت الدولة بالحضارة: نمت الدولة وقويت: وإذا انهار الفعل والأثر الحضاري في سلوك الناس انحط حال الدولة وانهارت.

ويوضح شبوح أن ابن خلدون قسَّم المسلمين الذين حكموا العالم حتى وقته إلى ثلاثة أقسام:

-الأول: الشيعة (1) يقول ابن خلدون: إن الشيعة ينجحون عندماً يقيمون دولة لأن لديهم نظاما وهو ما نسميه الآن تنظيماً،  هذا النظام هو نظام الحوزة الدينية؛ يبدأ بآيات الله العظمى، ثم يتدرج إلى آيات الله، ثم حجج الإسلام، ثم العلماء والمشايخ، ثم إلى الملا الذي هو إمام الحارة أو إمام الجامع الصغير، هذا النظام المتراتب يتيح للدولة الشيعية أن يمسك ولاة الأمر فيها بزمامها.

- الثاني: حكموا إلى وقت ابن خلدون وهم الطالبيون؛ وهم من نسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو من نسل الأدارسة الذين كانوا في أفريقيا؛ لأن الأدارسة أنفسهم كانوا من نسل علي بن أبي طالب هؤلاء حافظوا على الدولة بعصبية البيت أو بعصبية الأسرة: فهذا النمط من الوحدة مكنهم من إقامة دول قوية وثابتة.

- الثالث: من الذين حكموا البلاد الإسلامية في وقته وهم المزاحمون؛ قال: المزاحمون هم أمويو الأندلس وملوك الطوائف الذين ورثوا الحكم.

ويرى شبوح أنَّ ابن خلدون معني في تاريخه كله بثلاثة عناصر لا رابع لها: الأرض؛ الإنسان، التنظيمات. ففكرة التنظيمات في نظر ابن خلدون هي التي مكنت الإنسان من أن يعيش على الأرض، بغير التنظيم وبغير وحدة التنظيم وبغير قيادة التنظيم لا يستطيع الإنسان أن يعيش على الأرض.

قراءة التمهيد

نبدأ القراءة في هذه المرة في أول المقدمة. وهى التمهيد الذي كتبه ابن خلدون لمقدمته، هذا التمهيد لا بد من قراءته لأمرين؛ الأول: أن نتعرف على منهج ابن خلدون الذي سار عليه في بقية المقدمة؛ الثاني: أن نرى كيف كانت لغة هذا الرجل العربي اليمني الحضرمي الذي ولد في تونس ونشأ في الأندلس، محافظا على هويته العربية التي تظهر في هذه اللغة الراقية التي يكتب بها؛ حتى إن هناك كلمات من كلماته. حار في معناها الذين شرحوا كتبه وفسروها.

قال ابن خلدون في أول مقدمته:

بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ اللهم صل على سيدنا مولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: قال الشيخ الفقيه الإمام العالم قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون: أطال الله بقاءه.

هذا كلام يكتبه عادة تلميذ من تلامذة المؤلف الحاضرين في درسه، أو تلميذ أخذ الإذن بكتابة ما يقال ويعرضه على المؤلف بعد ذلك.

في هذه النسخة التي معنا وهي كما قلت سابقاً نسخة بخط ابن خلدون، وعليها تعليقات بخطه.

قال: «الحمد للّه الذي له العزة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وله الأسماء الحسنى والنعوت، العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت. يعزب: يعني يختفي أو يغيب. النجوى: هو كلام النجي.

أو يخفيه السكوت؛ يقول ابن خلدون: ما تظهره النجوى، أو ما يخفيه السكوت، فإذا بقينا صامتين كل ما هو موجود في قلوبنا الله رب العالمين وحده هو الذي يعلمه. يعلم ما نفوسنا فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

قال: القادر فلا يعجزه شيء في السماوات والأرض ولا يفوت، أنشأنا من الأرض نسماً. النّسمة هي النفس.

قال: واستعمرنا فيها أجيالاً وأمما.

يتكلم عن الدول باعتبارها تابعة للأمم: كأن الأمم التي تقيم الدول؛ وهذا صحيح، لكن في وقته لم يكن معروفا لأحد. ,

قال: «ويسر لنا منها أرزاقاً وقسما تكنفنا الأرحام والبيوت. ويكفلنا الرزق والقوت؛ وتبلينا الأيام والوقوت، وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابنا الموقوت، وله سبحانه البقاء والثبوت وهو الحي الذي لا يموت.

تَكنُفنا وتَكنِفنا -كلاهما صحيح- أي: تسترنا الأرحام والبيوت، وتسترنا بعد ذلك القبور.

قال: والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت؛ ؛ يعني الموصوف في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} (الأعراف: 7). وفي الآية الثانية {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} سورة البقرة. فعند أهل الكتاب وصف نبينا صلى اللّه عليه وسلم إذا قرؤوا هذا الوصف يعرفون أنه محمد لا يخطئونه.

قال: «الذي تمخَّض لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الآحاد والسبوت؛ والمخاض هو الألم الذي يعتري المرأة في ساعة الولادة. وهناك روايات كثيرة عن أشياء حدثت في ساعة ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم؛ منها أنه اهتز إيوان كسرى، سماه ابن خلدون «تمخضاً». أي أن حال الدنيا اعتراه من المتاعب مثل ما يحدث للمرأة في وقت الولادة وما قبلها، ومعنى كلامه أن الكون كان مستعداً لميلاد محمد صلى اللّه عليه وسلم منن الأزل قبل أن يأتي يوم سبت ويوم أحد.

قال: «ويتباين زحل واليهموت»؛ اليهموت هذا من الألفاظ الصعبة التي حار فيها الشراح؛ وبعض الناس حذفوها من المقدمة؛ وبعض المفسرين يروون خطأ ينسب إلى الصحابة وبعضها ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول :«إن الله لما أراد أن يخلق الأرض خلق حوتاً (نونا) لكي يضع عليه الأرض، فلما دحى الأرض ووضعها فوقه اهتز الحوت، فثبتها اللّه تبارك وتعالى بالجبال.

وأنا أقول: إن هذا الكلام لا يدخل العقل ويتنافى مع قدرة الله تبارك وتعالى الذي يقول للشيء: كن فيكون؛ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40)} النحل. ويتنافى مع قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} فاطر. فهذا الكون كله بكلمة اللّهِ: كن.

وفي تحقيق د. علي عبد الواحد وافي - رحمة الله عليه - نقل ما قاله الشيخ نصر الهويني؛ محقق أول طبعة للمقدمة: قال: أظن أنَّ ابن خلدون رمز للسماء بزحل ورمز للأرض باليهموت. أما الكلام الذي في الأثر فلا يستقيم ولا يقبله العقل.

هذا كلام معقول من د. وافي: لكن الصحيح هو ما قاله ثقات المفسرين أن «نون» هو حرف من حروف مبتدأ السور «كهيعص» «ألم» «حمى« «ص» «ق»؛ كلها حروف للإعجاز أوردها القرآن الكريم ليعجز العرب. أما ما يقال في كتب التفسير من قصص الأعاجيب تلك فلا يصح أن يبقى منها في عقائدنا شيء، ونحن أمة التوحيد.

 

الهامش

(1) كان هذا مما رأيناه بعد الثورة الإيرانية دون معرفة مسبقة برأي ابن خلدون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين