في فهم القرآن الكريم

 

 

[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}

-1-

تحت هذه الآية كتبنا مقالاً عن أثر القلب في فهم القرآن الكريم، واليوم نكتب هذه الكلمة عن حاجة المرء إلى الذهن الواعي، مع القلب الذي في فهم كلام الله عزَّ وجل.

نعم نريد الذهن الواعي، مع القلب الذكي، فإن القرآن الكريم رسالة جامعة للبشرية كافة، في جميع أعصارها، وبيئاتها، على اختلاف ثقافاتهم، وأقضيتهم ومشكلاتهم وحضاراتهم، وهو بهذه المثابة يخاطب هؤلاء جميعاً خطاباً يرضي عقولهم، ويسوس ميولهم، و يهذب مشاعرهم، ويطب لأدوائهم، ويتحدث إليهم عن الكون، وينظم علاقتهم به، فلا يقلق لحديثه الرجل البدائي على حدود الغابة، أو في جوف الصحراء، ولا ينكره العالم العملاق الذي نفذ إلى اسرار الذرَّة وكشف مساتير السماء، في روحانية صافية، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم...

وإذا كان للبشرية كافَّة على اختلاف ما كان لهم من مستويات الثقافة والتجارب، وعلى اختلاف ما سيكون لهم من ذلك في مقتبل الدهور، فقد جعله الله سبحانه جامعاً لحقائق علوم هذا الكون، ما يتعلق بنا من ظاهره وباطنه، مما ندركه وما لا ندركه، فجاءت سوره الكريمة وآياته الشريفة، خزائن جليلة حافلة بأسرار المعارف الإلهية، ولباب المعاني التي يموج بها عالم البشر في مجتمعهم، ودخائل نفوسهم، وما يتصل بذلك من سنن ونواميس لا حصر لها...

-2-

ونريد أن نقرأ القرآن الكريم ونحن مستحضرون هذا المعنى، أو مستحضرون هذه الحقيقة في أذهاننا ومشاعرنا... فإن هذا يجعلنا نتوقع أن يشف لنا في سطوره وكلماته، عن محيطات من المعاني لا ساحل لها...

نعم... فإن الله سبحانه ساق كلامه في قدر محدود من صفحات المصحف الشريف، وسور مقدرة معلومة هي سور القرآن الكريم، وقد استطاع العلماء أن يعدوا آيات القرآن، ويعدوا كلماته بل أن يعدوا حروفه... فهي إذن حروف معدودة، تحوي معاني كلام الله العظيم كلها، فكيف نتصور احتواء هذه الحروف على علوم الله سبحانه، إن لم تكن في كل حرف إشارات إلى آفاق وأعمال؟...

إن كاتباً من الكتاب يستطيع أن ينتج في انتاجه الأدبي، من الحروف عدداً يساوي حروف القرآن، أو أكثر، فإذا جمعت كل ما أنتج جيل كامل من الكتاب، وأحصيت حروفه، وحاولت أن تستخلص ما في هذه الحروف من المعاني، ثم حاولت أن تقارن هذه المعاني، بما جاء في كتاب الله، لأدركك الحياء، فأعرضت عن المضي في هذه المقارنة، تنزيها لعقلك أن يستمر في شيء غير معقول... فإذا جمعت كل ما أنتج كتَّاب البشريَّة وفلاسفتها، في كل أجيالها وعصورها، وتسنى لك احصاء حروفه، و استخلاص معانيه، ثم حاولت أن تقارن بيّنها وبيِّن كلام الله، لرفض فقهك ويقينك بالله أن يلتفت إلى هذه الحماقة، ولدوي صوت الوحي في أعماق قلبك يخاطب هذه الأجيال البشرية في شخصك، [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] {الإسراء:85}.[ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7}.

ولمضي الوحي الكريم يتكلم عن الطرف الآخر في المقارنة، وهو علم الله سبحانه:[قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] {الكهف:109}. [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {لقمان:27}.

فإذا أنت حاولت أن تجمع علم البشرية كلها، وهو قليل، وتضغطه في حيِّز معدود من الحروف مماثل لعدد حروف القرآن وكلماته، أفلا يحق لك أن تقول إن تحت كل حرف إشارات وإشارات.... إلى علوم ومعارف كثيرة؟ فكيف والقرآن الذي بين يديّك جامع علوم الدنيا والآخرة مما لا يحيط به إلا الله سبحانه...!

حقاً يا أخي، إن تحت كل كلمة من كلمات القرآن لأسرار بعيدة الأغوار، ورسول الله يصفه بأن له ظهراً وبطناً ومطلعاً ويقول: وقد فقه منه ما لم نفقه: إنه (لا تنقضي عجائبه) فانظر شأن هذا الكلام الذي حوى من العجائب مالا ينقضي!!...

ولقد كان علماء المادة يقفون في أبحاثهم عند الذرة، ويقولون: إنها الجوهر الفرد الذي تتركب منه المادة، ولا يقبل التجزئة لتناهية في الصغر والدقة... ولكنهم عادوا يطالعوننا بعجيبة من عجائبها، وهي قابليتها للتجزئة والتحطيم، إذ حطموها فعلاً، واستكشفوا ما فيها م خلائق الله وأنواع الإشعاع، وما زالوا يطالعوننا إلى الآن من اسرار جزئياتها بالعجيب الرائع، وإذا بالقرآن يطالعنا بسر تحطيم الذرة كأنما نقرؤه لأول مرة في قوله تعالى:[ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] {يونس:61}. فكلمة أصغر وحدها، ليست إشارة إلى الذرة فقط، بل هي تصريح جليّ بإمكان تجزئتها وتحطيمها، ولك أن تحصي كم من الجهود والتجارب والمعارف سخِّرت وبذلت في سبيل تجزئة هذه الذرة، وكم من العلوم والمعارف وأسرار القوى يندرج تحت أجزائها! وإذا عرفت أن تحطيم الذرة إنما هو باب ـ فقط ـ لآفاق من العلوم جديدة أمكنك أن تدرك أن كلمة أصغر هذه كانت تسخر من معارف البشر حين كانوا ينكرون تجزئتها، وأنها حينئذ كانت تشير للغافلين عما وراءها من المعارف الهائلة الخطيرة...

وإذا كان هذا شأن كلمة واحدة من كلماته، فكيف بكلماته كلها؟... بل إذا كان هذا شأن كلمة من الكلام الذي يمس المادة المحسوسة فكيف بكلمة تتناول من أسرار الروح مالا نرى ومالا نحس؟!...

ولست بعد هذا أطمع أن أكلف نفسي أو أكلف غيري أن يسبر أغوار هذه الأعماق، وإنما أطمع أن يستحضر ذلك الشعور الذي يلفته إلى أنه يقرأ كلاماً لا كالكلام، يقرأ كلاماً حافلاً بأسرار المعارف والعلوم، حتى لا يترك سطراً واحداً دون أن يستخرج منه معنى واحداً على الأقل... وليعلم أننا لم نشبع أنفسنا بالكلام عما نشعر به نحو القرآن، وما تحوي آياته من وجوه المعاني، فإذا عوالم رهيبة خطيرة يذكر معها قول الله سبحانه:[ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ] {آل عمران:7}. [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {الحشر:21}.

-3-

قف يا أخي، وابحث، ونقِّب في كلام الله، على هدى وبصيرة، فإن المعاني تفتح لك ما استغلق من أبوابها...

اقرأ القرآن الكريم على أنه خزانة المعاني، وجامع المعارف، وانظر ماذا تحصَّل لنفسك منها؟؟...

ابسط مصحفك أمامك، واقصد سورة من سوره، ونقِّب فيها  تنقيب الأثري الحاذق العالم، عن ثمين الآثار وجواهر الكنوز، اقرأها آية آية، وضع على هامش مصحفك عنواناً لخلاصة ما يبدو لك من معناها... ثم اجمع ذلك في جريدة أو قائمة تجد نفسك أما عناوين ـ أو رؤوس موضوعات ـ كلها في غاية العمق ملئ بعلوم الحياة وحقائقها، مما لو أردت استنفاذ الجهد في شرح كل منها و تفصيله لطال بك الأمد...

لقد فتحت مصحفي ووجدتني أمام سورة الزخرف، وهأنذا أنقل إليك بعض رؤوس موضوعاتها، لا كلها...

...القرآن رفيع الشأن بين الرسالات ـ اسرافنا في الغيِّ لا يفسد استعدادنا للهداية ـ من سنن المتجبرين رد الحق والاستهانة بدعاته ـ قد يجحد الإنسان الحق وهو يعترف بالله ـ سنة الانتفاع بالنعم أن نذكر فضل الله فيها حين الانتفاع بها ـ لنا في كل نعمة نفع حسي، وآخر روحي، ولا يستقيم شأننا إلا باستخلاص النفعين جميعاً ـ من جناية التفكير المادي ظلم الحقائق وحرمان صاحبه نعمة الإدراك الصحيح ـ ضيقهم بالأنثى ثمرة خبيثة لتحكم مناهج المادة في تفكيرهم وعواطفهم ـ من جناية المعتقدات الفاسدة فساد معايير العقل وخبطه فيما لا علم له به ـ الانسياق مع مواريث البيئة بدون تمييز ونقد يورث التفاهة وفساد العقل والصدود عن الحق ـ إبراهيم عليه السلام مثال العقل الرشيد، والقلب الواعي، إذ رفض معتقدات الآباء ومواريثهم، واستقل بنشدان الحق، الترف آفة تورث النفور من الحق وفساد الحكم على قيم الأمور ـ مقادير الرجال في مواهب النفس لا في مواهب المال ـ اختلاف حظوظ الناس في الدنيا من أسس عمارة هذه الأرض ـ من محنة المرء أن يكون ماله لا يقينه هو مصدر سعادته ـ لولا أن يتحول الناس إلى الكفر لصب الله المال على الكافر فتنة له ـ الاستمتاع الحسي ظلمة تنسي ذكر الله ـ من نسي الله  تولته معية الشيطان إلى التهلكة ـ أخسر الناس من ضل ويحسب أنه في هداية ـ حين يعاين قرناء السوء عاقبة أمرهم يبرأ بعضهم من بعض ـ مناوأة الحق تحل بأصحابها أسوأ العواقب ـ الحق عصمة لأصحابه، ومصدر الرشاد لسلوكهم ـ القرآن سبيل القوة، ونباهة الذكر، ورفعة الشأن ـ الحق لا ينقض نفسه ـ من سنن المبطلين الاستخفاف بالحق ودعاته، زواجر الآيات لا تعظ من قام بالباطل أمره ـ  أرباب الطغيان يبتلون بمادية التفكير، و اختلال قيم الحقائق في أنظارهم ـ الطغيان يبتلون بمادية التفكير، واختلال قيم الحقائق في أنظارهم ـ قد يستطيع دجل صفحته للحق هلك ـ الأحمق من اتعظ به سواه ـ من داب المبطلين أن يفتعلوا التناقض في أقوال أهل الحق للتشويش وشفاء الخصومة، لا لإقامة الحجة وبراهين الاقتناع ـ شقاء المرء أن يأتيه أجله وهو في شغل بالدنيا ـ الحب في الله صلة باقية وأمن في الدنيا والآخرة ـ العمل الصالح يورث النعيم الحق ـ الحق وقاية من الشر ـ من كره الحق فقد ظلم نفسه وأسلمها للباطل ـ المبطل إنما يصنع بيده لباس شقوته ـ الآخرة طور نهائي يتبلور به كل امرئ في روح عمله من خير وشر، وحق وباطل ـ من تبلور في إجرامه فقد أحاط به عذاب مقيم  لا أمل معه في فرج، ولا انتار فيه لموت ـ من أوهام المبطلين ظنهم القدرة على تقرير العواقب ـ المبطل في تدبيره إنما يصنع بأمر الله عاقبة خذلانه ـ الناس في سرهم ونجواهم، تحت علم الله وضبط الحفظة الكاتبين ـ من إفحام الباطل أن تطلب إليهم الحجة على باطلهم ـ المبطل إنما يضرب في الوهب، والجهل، والعبث، حتى تطالعه عاقبته شقوته وخذلانه ـ الحق هو الوسيلة الشافعة إلى الله...

-4-

ومع أنَّ هذه العناوين ليست كل ما يؤخذ من الآية الواحدة، ومع أننا لم نستوعب كل آيات السورة الكريمة، فأنت ترى أن الطائفة التي سقناها لك من العناوين طائفة قيِّمة تمتاز بأن كلا منها يتناول لوناً من ألوان الحياة العملية، أو القلبية، بل إنَّ منها ما يتناول ما هو وراء المادة. وكل منها في موضوعه يتضمن الحق من لباب المعارف الصادقة، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها...

قراءة القرآن الكريم على هذا  النحو تقتضيك  استحضار قلبك وعقلك، وهذا وحده هو الذي يفتح لك خزائن تلك المعارف القدسية، وهي معارف تنقلك إلى الملأ الأعلى، وتذيقك من نفحات رضوان الله ما لا قبل لأحد بوصفه!!...

نسأل الله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء أبصارنا، وذهاب همومنا وحزننا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة 15 العدد 4 ربيع الأول 1377هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين