فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (21)

ونختار من المأثورات الواردة، الدعاء الذي كان يقنُت به عمر بن الخطاب وجيوش الإسلام تطرق أبواب المجوسية والنصرانية، الديانتين اللتين طالما أذلتا الجماهير، وطاردتا التوحيد. 

(اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع من يفجرك) (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق). 

(اللهم عذِّب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك ويُقاتلون أولياءك). 

(اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم. واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك صلى الله عليه وسلم وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم)

قال الإمام النووي: [.. واعلم أن المنقول عن عمر رضي الله عنه... (وعذب كفرة أهل الكتاب) لأن قتالهم ـ يعني المسلمين ـ كان مع كفرة أهل الكتاب. وأما اليوم فالاختيار أن يقول: وعذب الكفرة فإنَّه أعم ]. 

ونحن نخالف الإمام النووي رضي الله عنه في اختياره الذي حوَّر إليه دعاء عمر ـ وعنه نقلنا الصيغة المثبتة هنا ـ فإن كفرة أهل الكتاب هم في عصرنا وعصر عمر مصدر البلاء الذي يعاني منه ديننا، وسر النكبات التي حاقت بأمتنا. 

بل إن الشيوعية زحفت من بعدهم، سواء في النصف الأيمن للاتحاد السوفييتي، الذي استعمره القياصرة من قبل، أم في أرجاء العالم الإسلامي الذي أرغمه الاستعمار الصليبي على فتح أبوابه للشيوعية، كما أرغمه على فتح أبوابه للصهيونية. 

إن كفرة أهل الكتاب كانوا ولا يزالون من أشد الناس حقدا على الإسلام، ومواريثه، وقيمه كلها. 

ونعود إلى الجهاد النبوي كي نزداد بصيرة فيه: 

كانت محنة المسلمين شديدة يوم طوقت الأحزاب المدينة، وكان الخناق يشتد عليهم حتى ليكاد يعتصر أرواحهم، ومع ذلك ثبت الرجال في موقف الحراسة، وأحبطوا المحاولات الكثيرة التي قام الكفار بها لاقتحام المدينة. 

وفي يوم من الأيام رأى المهاجمون أن يقوموا بعمل حاسم لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، وإحداث ثغرة في استحكاماتهم ينفذون منها إلى قلب يثرب. 

وتلاحق الرجال يصدون هذا التسلل، وكان قد بدأ بعد الظهر، وظلَّ الهجوم والدفاع مستمرين حتى ولى الأصيل وأقبل المغرب والمسلمون لا يستطيعون أن يصلوا العصر. 

كان الخطر شديدا على المدينة، ولم يجد الرسول وصحبه بدا من مواجهة العدو حتى تنكسر حدته. ووقف الهجوم بعد المغرب لما يئس المشركون من إدراك شيء. 

فصلى المسلمون العصر بعد وقتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مغيظا لما حدث، فقال: "ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وعن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا "

إن هذا التعليق على الهجوم الفاشل يستحق التأمل الطويل. 

إضاعة وقت العصر كان محنة حقيقية عند النبي عليه الصلاة والسلام، لقد فوَّت المشركون عليه أن يؤم أصحابه في جماعة خاشعة تناجي ربها، ترجو رحمته وتخشى عذابه. 

لقد كانت سعادة هذا الإنسان الجليل أن يستغرق في الصلاة، ويسلم وجهه ومشاعره في عبودية كاملة لله رب العالمين. 

قال علماء البلاغة: الإطناب في موضعه حسن، ومثلوا لذلك بإجابة موسى لربه لما سأله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى}؟[طه:17] كان الجواب: عصاي.. ولكن موسى قال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه:18] 

إنَّه أطال الرد عمدا ليطيل الوقت مع العظيم الأعلى، ولماذا يختصر فرصة العمر؟. وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام كان يرى الصلاة معراجه الذي يناجي فيه ربَّه، أو الساعة التي تصل الملأ الأعلى بأهل الأرض؟ من أجل ذلك كانت الصلاة لذته الروحية، ومن أجل ذلك كان غضبه لما شغله المشركون عن موعد لقاء مع من يحب. 

وعلاقة الرسول مع ربه جل شأنه تستحق التأمل العميق في موقف آخر. 

فقد تعرَّض المسلمون معه لانكسار شديد في معركة أحد، وقُتل من الرجال العظام سبعون هم من خيرة شهداء التاريخ، وأصيب النبي عليه الصلاة والسلام بجرح نافذ في خده. ومع فرح المشركين، وشماتة العدو، وآلام المؤمنين، فقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام إلى صلاة جامعة ليحمد الله على ما وقع! 

روى الإمام أحمد قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون ـ عائدين بعد ما كان ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل " فصاروا خلفه صفوفا. 

فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت!. 

اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك، وفضلك، ورزقك!! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. 

اللهم إنا نسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف!. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا!. 

اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين!. اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين! 

اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك.. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب. إله الحق!! "

هذه دعوات ينسكب اليقين من كل حرف فيها، إن الهزيمة قد تكسر أفئدة الذين يعبدون الله على حرف. 

فأما الذين فَنَوا في الله وباعوه نفوسهم وأموالهم، فإنَّ عبوديتهم تتألق في السراء والضراء، وهم يسلمون لله ما أراد، ويخضعون لحكمته. وذاك سرُّ الكلمة الرقيقة الغالية التي قالها الرسول لصحبه بعد الهزيمة: "استووا حتى أثنى على ربي عز وجل.. "

لما تألم المتنبي لشر ناله من سيده سيف الدولة قال: فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللائي سررن ألوف! 

إنَّ الموقف هنا شيء آخر، فإن النبي الجليل عدَّ ما وقع قدرا يعلم الله حكمته، ولا يجرؤ على وصفه بالسوء، أنه يستعيذ بالله من شر ما أعطى ومن شر ما منع على سواء، فربما كان العطاء مخوف العقبى، وربما كان المنع ألما في الحاضر، وخيرا في المستقبل. وحصن المؤمن أولا وآخرا هو الله تبارك اسمه. 

وقد ختم الرسول دعاءه باستنزال بأس الله على المشركين، ثم ضمَّ إليهم الكفار أهل الكتاب، وذاك أنَّ اليهود في المدينة كانوا يتربَّصون الدوائر بالمسلمين. 

إنهم سيفرحون كثيرا لما حدث، حسبهم الله!. ولا شك أن ضربة أحد كانت موجعة، بيد أنها نفضت المجتمع الإسلامي نفضا شديدا، فامتاز المنافقون، وانعزلوا بغشِّهم وخداعهم، وتعلَّم المسلمون كيف يواجهون الأحداث بإيمان حر، وصف ملتئم. 

وشمت اليهود للنكبة النازلة، ولكن لم تمض سنون حتى نزل بهم أضعافها، ثم تركوا قلب الجزيرة إلى حيث ألقت. 

قد يتحدَّث المؤرخون عن محمد المقاتل، وقد يصفون عبقريته العسكرية ولكنهم يخطئون الخطأ الجسيم حين يعزلون هذا الجانب عن الجوانب الأخطر والأهم من سيرته الشريفة. 

لقد قاتل حين كان سفك الدم قصاصا لضمان الحياة، أو حين يأمر بقتل مجرم، ولا يرون الطبيب مقاتلا حين يأمر ببتر عضو. 

إن القتال الذي خاضه محمد وصحبه كان في سبيل الله، وما كان فى سبيل مأرب شخصي، أو مجد ذاتي، أو توسع إقليمي أو عرض آخر مما ألفه المؤرخون في سير القادة، والساسة على اختلاف العصور. 

قالت عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله بيده خادما له قط، ولا ضرب امرأة، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خير بين شيئين إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس عن الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تُنتهك حرمات الله، فيكون هو ينتقم لله عز وجل). 

وقال: "إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق "

وجاء في وصفه عليه الصلاة والسلام: ( ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه.. لا يقول الخنا، يفتح الله به أعينا كُمها، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.. أُسدِّدُه ـ من كلام الله في هذه الرواية ـ لكل أمرٍ جميل، وأهبُ له كل خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه والإسلام ملته.... إلخ).

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين