فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (2)

أرقُّ الدعوات بعد الطعام والشراب

والمرسلون بشر لابدَّ لهم من تغذية رتيبة، ودعك من تساؤل المشركين: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ إنه تساؤل غبي فالأكل لا يستغني عنه جسد، وإلا فكيف يحيا؟! المهم أن نعرف ماذا يأكل؟ وكيف؟.

إنَّ الذين يَعيشون لغرض ضخم يطوون رغباتهم الماديَّة طيَّاً في سبيل ما يَبتغون، وتنشأ لديهم مآرب أخرى قد تذهلهم عن أشهى المتاع.

إنَّنا في عصر تظلُّه حضارةٌ ماديَّة بادية اللهفة على اللذات العاجلة. وقد يقبل الشرفاء فيها أن يقوموا بتضحية ما لقاء أمر عظيم، بَيد أنهم لا يرون تلك الغاية التي يسعون لها.

أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجيل الذي استمع إليه فنسق آخر من الفكر العالي.

واسمع إلى هذا الخبر: رأى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه ثوب بدا وكأنه جميل، فقال له: (أجديد هذا أم غسيل؟) فقال: بل غسيل، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم داعياً: (البس جديداً، وعش حميداً، ومُت شهيدا) [رواه أحمد وابن حبان والطبراني].

القتل في سبيل الله أحد شارات السعادة التي طلبت لعمر مع العيش الحميد، والثوب الجديد.

هكذا اختلطت لذات الدنيا والآخرة وعيهم وأملهم، أفترى أولئك الرجال يعيشون لإقامة المآدب الدسمة؟!.

إننا لا نحقر طلب الطعام، فتلك طبيعة البشر كما أَبَنَّا، ومن حق الناس أن ينعموا بضرورات مكفولة، ومرفِّهات كذلك لطيفة، على أنَّ ذلك لا يعني الشره، وإلف التنعم، والجزع من تحمل متاعب الجهاد والحصار.

وقد كان محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ذا قُدرة مُستغربة على العيش الغليظ والمقادير التافهة من الأغذية، ولم يؤثر عنه اكتراث بأطايب الطعام وغاليه، ومع ذلك فما أمر بشظف، ولا حثَّ على زهد، ولا حرَّم حلالاً...!

وكان حفياً بنعمة الله تعالى يعظمها ويشكرها ويغالي بها، ويقول: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله، فإذا نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: باسم الله أولَه وآخِرَه).

وكان إذا فرغ من طعامه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)، ويقول: (إنَّ الله تعالى ليرضى عن العبدِ يأكلُ الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها).

إنَّ هناك أناسا يملأون أجوافهم بالطعام والشراب، ثم يمضون لشأنهم ما يدرون أنَّ لله عليهم حقاً، إنهم كأي دابة دسَّت فمها في مرودها حتى شبعت وحسب.

هذا السلوك الحقير لا يليق بمؤمن. وقد كان إمام النبيين ـ كدأبه أبدا ـ يفتن في حمد الله بعد الطعام ـ فمما روي عنه قوله: (اللهم أطعمت وسقيت، وأغنيت، وأقنيت، وهديت، وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت) [رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة].

وقوله: (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة). وفي رواية كان رسول الله إذا أكل أو شرب قال: (الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوَّغه، وجعل له مخرجا). أو: (الحمد لله الذي منَّ علينا، وهدانا، والذي أشبعنا وأروانا، وكل الإحسان آتانا) [الطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة]..

إنَّ هذه البشاشة في استقبال النعمة، وشكر مُسديها الأعلى، لها دلالة يجب إبرازها، فقد كان النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم إنساناً بعيدا عن العِلل والآفات بل كان جَلْداً يهزم المصارعين، وفارس معارك يهرعُ للقاء المغيرين.

والبسطة في الجسد حين تسدُّ كل ثغرة، وتلبي كل واجب تُعد خيراً عظيماً.

وصاحب العافية يطل على الدنيا من أرحب آفاقها، ومن حقِّه أن يتزوَّد من الطعام بما يعين عليها. ولم يحرِّم الله تعالى مأكلاً يمدُّ الجسد بالطاقة أو يبني ما تهدَّم من الخلايا في كدح الحياة الطويل.

ومن زعم غير ذلك فهو يفتري على دين الله، إنما كره الإسلام الصرف المتلف، والتشبع المورث للبطنة، والبدانة، وسائر الأمراض.

ولا يختلفُ الدين والطب في هذه الأمور، وقد حسب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عدد المشركين في بدر بين ألف وتسعمائة عندما علم أنهم يذبحون يوماً تسعاً، ويوماً عشراً من الإبل.

وعندما يُطعم مائة من الرجال جملاً فإنَّ نصيب كل واحد من اللحم يكفيه ويغنيه.

على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في أحيان كثيرة كان يكتفي بلقيمات وتمرات، وعندما لم يكن في البيت إلا الخل، قال: (نعم الإدام الخل) وهذه هي الرجولة المرضية القوية لا تستذلها أزمة عارضة، ولا تفقد تماسكها عندما تفقد بعض ما ألفت من زاد، أو متاع.

والبشر أجمعون لابدَّ لهم من نفض فضلاتهم بعيداً عن العيون، وقد شرع الإسلام تعاليم من الإنقاء والتطهر تليق بما ينبغي للبشر من وضاءة وجمال ومروءة.

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك. الحمد لله الذي أذهب عني الأذى، وعافاني).

ومن ألطف وأجمل ما روي عنه في ذلك: (الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ قوته، وأذهب عني أذاه) [ابن السني في عمل اليوم والليلة، والطبراني في الدعاء]. والضمير في الجمل الثلاث يعود إلى الطعام.

لكأنَّ هذه الكلمات وضعها نفر من علماء الطب والأخلاق والبلاغة. فإنَّها ذكرت فضل الله تعالى فيما يمرُّ من طعام شهي، وفيما ادَّخره البدن من أسباب حياته ونمائه، ثم فيما استبعده هذا البدن من نفايات تضر ولا تسر.

أرأيت أجملَ من هذا الحمد، وأرقَّ من هذا السرد؟ إنَّ النبيَّ الإنسان دائم الاستحضار لآلاء الله تعالى، مُسارعٌ إلى شكرها ما استطاع.

مجالس النبوة:

قد يحتاج المرء إلى العُزلة كي يحتفظ بقلبه مُشرقاً وفكره ثاقباً، وعلماء النفس يقولون: إنَّ مستوى التفكير العالي يهبط عندما يخالط الإنسان الجموع. وهذا صحيح بالنسبة إلى عظماء البشر العاديين، أما رسل الله فإنهم يرتفعون بالجماهير، ولا تهبط بهم الجماهير. 

وقد كان من الأصحاب من يشكو أنَّ يقظته العقليَّة في مجلس الرسول تخبو عندما يعود إلى بيته. 

لقد كان محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم لفَرْط شهوده وقوة علاقته بربه يحوِّل الأرض سماء، والبشر ملائكة، فأصحابه من حوله يذكرون الله ويوقِّرونه، ويتواصون بعبادته، وأداء حقوقه.!

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمقت مجالس الغافلين، ويشمئزُّ من كل تجمع خلا من ذكر الله تعالى، وفي ذلك يقول: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار. وكان لهم حسرة)! [رواه أحمد وأبو داود والحاكم].

إنَّ المجالس التي يُنسى فيها الله، وتنفض عن لغط طويل حول مطالب العيش، وشهوات الخلق هي مجالس نتنة، وماذا فيها يستحقُّ الخلود؟ ما يستحقُّ الخلود إلا ما اتصل بالباقي تبارك اسمه !.

وإذا ضمَّ الناسَ مجلسٌ يخلط بين الدنيا والآخرة فينبغي أن يُستبقى خيره في مجلس ويُستبعد شره بهذا الاستغفار. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا كفَّر الله له ما كان في مجلسه ذلك).

وفي حديث آخر (أنَّه إذا كان في مجلس خير كان كالطابع له، وإن كان مجلس تخليط كان كفارة له).

إنَّ الاختلاط بالناس ربما أثار التنافس على الدنيا، ربما أثار حُبَّ الظهور والاستطالة، ربما شغل الأذهان بقضايا تافهة، ربما قطع ما أمر الله به أن يوصل، من أجل ذلك كله جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلَّما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحولُ به بيننا وبين مَعَاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائبَ الدنيا).

(اللهم مَتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مُصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر هَمِّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا).

كذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يختم مجالسه، فما ينفض الناس عنه قافلين إلى بيوتهم إلا وهم يخوضون في الرحمة خوضاً.

ليل أبيض:

وينتهي سبح النهار الطويل، وتنقضي الصلوات المكتوبات، ويخلص كل امرئ بنفسه، قافلاً إلى بيته ليستجمَّ ويستريح، فهل ذلك ما يستقبلُ به محمد صلى الله عليه وآله وسلم الليل الوافد؟ لو أنَّ الفلاسفة الإلهيين يصنعون في نهارهم بعض ما يصنعه محمد في ليله لكفاهم، ولحسب لهم كدحاً حسناً.

إنَّ النبيَّ العابد يبدأ بالليل مرحلة جديدة من مراحل الإقبال على الله!.

وما أكثر ما رواه المحدثون عن أذكاره وأدعيته، فعن حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: (باسمك اللهم أحيا وأموت).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين).

وهذا الحديث شرح للآية الكريمة: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42] .

والمؤمن في تدبره للآية والحديث معاً يشعر أنَّ روحه في يد الله سبحانه، وأنَّه يستمدُّ محياه لحظةً بعد أخرى هبةً من ربِّ العالمين.

قد يضع جنبه فلا ينهضُ إلا يوم النشور، فإن كان ذلك فهو يرجو الرحمة.

وإن قام ليبدأ نهاراً آخر فهو يرجو أن يحيا في ضمان الله تعالى وحفظه.

أترى في ذلك المنهج أثارة من اعتداد، وغرور؟.

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت.. فإن مِتَّ مِتَّ على الفطرة).

عندما يغمض المرء جفنه ويتهيأ للكرى يترك إرادته جانباً لغيبوبة تطول أو تقصر. كثيرون يستسلمون للمجهول أما المؤمن فيُسلم نفسه لربه: يفوِّض إليه أمره، ويلجئ إليه ظهره!.

إنَّه وحده الحافظ، من غيره يُؤمل في دفع ضر، أو جلب خير؟ وقد يفكر المرء وهو يستعد لمنامه في مراجعة ما أصابه طول يومه من ربح أو خسارة، وما عرض له من خطأ أو صواب.

والواقع أنَّ الدعوات التي علمنا إياها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم تريح الأعصاب من هذا العناء، وتصل بمشاعر الرغبة والرهبة إلى مستقرها في جنب الله تعالى، وتجعل المرء قبل هجوعه يؤكد أمراً واحداً يناجي به ربَّه (آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت)، تلك هي الفطرة التي يستريح المسلم في مِهَادها الوثير.

وجاء في رواية أخرى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: (اللهم رب السموات وربَّ الأرض وربَّ العرش العظيم ربَّنا وربَّ كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن: أعوذ بك من شرِّ كل ذي شر أنتَ آخذٌ بناصيته...أنتَ الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدَّيْن، وأغننا من الفقر) [رواه مسلم].

وفي رواية أخرى عن علي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند مضجعه: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التَّامة من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم..، اللهم لا يُهزم جندُك، ولا يُخلفُ وعدُك، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجد، سبحانك اللهم وبحمدك) [رواه أبو داود وابن أبي شيبة].

وفي رواية أخرى كان يقول: (باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفكَّ رهاني، واجعلني في الندى الأعلى)، ونلحظ في هذه الأدعية كلها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم الإنسانَ لهجَ بتمجيد الله والتحدُّث عن عظمته، وقد قال ـ وهو يتأهب للنوم ـ كلاماً لا يستطيعه غيره مع حدَّة الانتباه وتألُّق الذهن، صوَّر به الألوهية في كمالها المطلق، وغِناها الذي يرنو إليه سائر الخلق.

وهو بعد هذا الثناء الحار يستجمع ذُلَّ العباد كلهم، فيطلب حِصْناً من الفقر، والدين، والإثم، ووساوس الشيطان. ويطلب المغفرة، والفكاك من كل قيد أرضي يشدُّه إلى هذه الدنيا. لأنَّه ينشد الانضمام إلى الندى الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، إلى من في السماء.

إنه ما بقي في الأرض، أي ما بقي بين الناس لا يريد أن تَشينه آفات الحياة، لا يريد أن يسوءه أحد، ومن ثَمَّ فهو يكره الفاقة والرذيلة، ويودُّ من الدنيا ما يرشِّحه لآخرة رفيعةِ القدر.

ولا تحسبنَّ أنه صلى الله عليه وآله وسلم يأخذه النعاس العميق بعد هذه الضراعات التي ناجى بها ربَّه، لا.. ما هي إلا ساعة ثم يستيقظ ليلبي أمر الله تعالى باستئناف التسبيح والتحميد، في جنح الليل كما كان يصنع آناء النهار.

ألم يقل الله له: ﴿وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا٢٥ وَمِنَ ٱلَّيۡلِ فَٱسۡجُدۡ لَهُۥ وَسَبِّحۡهُ لَيۡلٗا طَوِيلًا﴾[الإنسان: 25-26].

إنَّ قيام الليل فرضٌ عليه وحدَه. لينم من ينام، أما هو فقد قيل له: ﴿قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾[المزمل:2-4].

والمأثور من سيرته الشريفة أنَّه كان يقوم بالقرآن أوقاتاً مُتطاولة. وحدث وهو في أخريات الحلقة السادسة من عمره أن قام يصلي، وكان في البيت عبد الله بن عباس - وهو شابٌّ في أوائل الصبا - فرأى أن يأتمَّ بالرسول العابد، وشرع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقرأُ ويقرأُ، والشاب القوي يكابد طول القيام، ويرقب انتهاء الصلاة. لكن روح العابد المتبتل قهر الشيخوخة ومضى يختم سورة، ويبدأ أخرى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد هممتُ أن أتركه يصلي وحده، وأنصرف.

لقد تورَّمت أقدامه من طول الانتصاب الخاشع بين يدي رب العالمين لكن الفؤاد العامر بالحبِّ أرهق الجسد الزاحف إلى الستين فهو لا يحسُّ وخز الألم قدرَ ما يحسُّ سعادة الاستغراق، وحلاوة العبادة، وكما قيل: 

وإذا كانت النفوس كباراً = تَعِبت في مُرادها الأجسام 

وقد يستيقظ من الليل ويرمي ببصره إلى الأفق، ويشعر بأنَّ هذا السكون السائد له ما بعده.

إنَّ الناس سوف يصحون بين باكٍ وضاحك، وحي وهالك، ومُهتدٍ وضالٍّ، وواجد وفاقد!.

إنَّ الأقدار تعد لهم مع الغد المنتظر أشياء كثيرة، تُرى ما الموقف منها؟.

إنَّه يقول: (سبحان الله ماذا أنزل من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحب الحجر ـ يعني نساءه ـ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة).

إنَّه يستعدُّ لليوم الجديد قبل أن يجيء بخيره وشره، يستعدُّ له بعبادة يحشد لها أهل بيته، ينبغي أن يقمن الليل معه، وأن يتهيَّأن لليوم الآخر.

إنَّه يوم يقلب الأوضاع المألوفة في عالمنا هذا، ربَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، وربَّ صعلوك هنا يكون ملكاً هناك.

إنَّ الآخرة هي دار الحق، ولها يجب الاستعداد. وقد ينامُ بعد ذلك ولكن القلب المفعم بالتقوى يقظان، فإذا تقلَّب في فراشه، أو تهيَّأ لقيام ليلة قال: (اللهم لك الحمد أنت نورُ السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنتَ ربُّ السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت الحقُّ، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنَّة حقٌّ، والنار حق، والنبيون حق، ومحمدٌ حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنتْ، أنت إلهي لا إله إلا أنت).

وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُرغِّب أمَّته في استقبال الليل بكيان نقي نظيف فيقول: (طَهِّروا هذه الأجساد، طهَّركم الله تعالى، فإنه لا يبيت أحد طاهراً إلا بات في شعاره ملك يقول: اللهم اغفر له فإنَّه بات طاهراً) [رواه ابن حبان، والطبراني في الكبير والأوسط].

وطهارة البدن لا تغني عن زكاة الروح، والمرء يُعان على ليل طيب إذا دلف إلى فراشه، وقلبه مع ربِّه، وذكره على لسانه.

عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له ولفاطمة رضي الله عنها: (إذا أويتما إلى فراشكما، أو إذا أخذتما مضاجعكما فكبِّرا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين)، وفي رواية: (التسبيح أربعا وثلاثين)، قال علي: فما تركته منذ سمعته من رسول الله، قيل له: ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين.

لقد بقي على هذا الأدب مع الله ورسوله نيفاً وثلاثين سنة حتى ليلة المعركة الرهيبة بينه وبين خصمه.

وكان علي رضي الله عنه كثير الهموم، بعدت عنه الراحة في هذه الدنيا، فلم يشعر بطعمها إلا يوم ذهب إلى ربِّه، وقد علقت عائشة رضي الله عنها على موته المؤلم بهذا البيت: 

فألقت عصاها، واستقرَّ بها النوى = كما قَرَّ عيناً بالإيابِ المسافر

لكنَّ الهموم لم تذهله عن ذكر الله قبلَ كلِّ منام، بل لعله كان يهزمها ويفل حدَّها بهذا الذكر الموصول. 

وفي ترغيب الأمَّة كلها في طهارة البدن والروح لاستقبال الليل جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه، سمعت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أوى إلى فراشه طاهراً، وذكر الله عز وجل حتى يدركه النعاس، لم يتقلَّب ساعة من الليل يسأل الله عز وجل فيها خيراً من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه) [رواه الترمذي والطبراني في الكبير].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: (اللهم أمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على عدوي، وأرني منه ثأري، اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، ومن الجوع فإنَّه بئس الضجيع) [ رواه البيهقي في الشعب].

في هذا الحديث يرجو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه أن يبقيه سليمَ الحواسِّ طولَ عمره، وأن يمتِّعه بسمعه وبصره إلى أن يموت، كما يدعوه النجاة من غلبة الديون وسطوة الجوع.

إنَّ هذا النبيَّ الإنسان ينشد الحياة القويَّة العزيزة البعيدة عن متاعب البأساء والضراء، وهذا حق كل إنسان صحيح الفطرة، ودعك من كذبة المتدينين الذين يرحِّبون بالآلام كأنَّها غاية تُقصد لذاتها، أو كأنَّ الدين حرب على السلامة والكرامة.

وفي هذه الكلمات دعوة نريد تفسيرها وتحديد معناها، ونسأل قبل ذلك: هل بين الرسول وبين أحد من الناس عداوة شخصية؟ كلا، فقد كان أسمح الناس بحقِّه الخاص، وما كان يهيجه إلا أن تستباح حقوق الله تعالى، لينتصب حينئذ للدفاع عنها كأنه أسد غضوب. وهو عندما يسأل الله سبحان أن ينصره على عدوه فإنما يشرح بهذا السؤال قوله تعالى: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286].

إنَّ الكافرين يتركون في أفئدة المؤمنين جراحاً دامية، خصوصاً المؤمنين الضعاف الذين اجتاحهم جبروت القوَّة فمزَّق شملهم، وأذلَّ جانبهم، وضيَّق عليهم الدنيا الواسعة، فهي في أعينهم كسمِّ الخِياط.

من حقِّ هؤلاء المؤمنين المقهورين أن يروا ثأرهم من عدوهم، وأن يروا كبرياء الكفر ممرَّغةً في التراب.

وذاك سرُّ الأمر بقتالهم إلى أن تذهب دولتهم: ﴿قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ﴾[التوبة:13-14] 

إنَّ للفطرة الإنسانية معالم ثابتة لا يسوغ محوها، ولا جهلها.

وهناك تدين مخبول، يؤخِّر العقل، ويجورُ على الطباع السليمة، ويتجاوز منطقها، وهذا التديُّن يرفضه الإسلام.

ولعلَّ من احترام الفطرة وتلبية أشواقها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله - منذ صحبتُه حتى فارق الدنيا - ينامُ حتى يتعوَّذ من الجبن والكسل، والسآمة والبخل، وسوءِ الكبر وسوءِ المنظر في الأهل والمال، وعذاب القبر، ومن الشيطان وشركه) [رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة].

وينامُ الرسولُ في هذا الليل الحي بالطهر والذكر، وما هي إلا ساعة حتى يصحو لصلاة الفجر، ويستعد لاستقبال أربع وعشرين ساعة أخرى.

يستقبلها بهذا الدعاء: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله لا شريك له، لا إله إلا هو، وإليه النشور).

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين