فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (1)

كيفَ عرَّفنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم بالله تعالى؟

أنا أحدُ الألوف المؤلَّفة التي تؤمنُ بالله العظيم، وتُسبِّح بحمده، وتقرُّ بجلاله ومجده، وتَنتَعِشُ بنعمته ورفده.

ولقد عرفت هذا الإله الكبير عن طريق النبيِّ العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قرأت كتابه، ثم درست سيرته، فتجاوبت فطرتي مع رسالته، واستراح فكري وقلبي إلى دعوته، وأصبحت واحداً من جماهير ضخمة رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً.

كان في الناس من لا يعرفُ اللهَ أصلاً، فأنار محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم بصيرته، وقاده من ضميره إلى مولاه.

وكان هناك من يعرفه معرفةً فاسدة، يظنُّ له ولداً يشفع، أو شريكاً ينفع، فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرِّر عقيدة الوحدانية المطلقة، وينفي أن يكون لله تعالى ابن أو ابنة، أو ندّ أو ضدٌّ، أو شبيه في العظمة أو معقِّب في الحكم: ﴿أمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۖ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡوَلِيُّ وَهُوَ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٩ وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِيهِ مِن شَيۡءٖ فَحُكۡمُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ١٠ فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ١١ لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ١٢﴾[الشورى: 8-12].

ومعرفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالله تعالى لا تسبقها معرفة في الأولين والآخرين، لأنها معرفة تنبع من شهود لا يخبو سناه، ولا يغيم ضحاه.

والمسلم المتأسي برسوله يحسُّ أنَّ لهذه المعرفة سمات خاصة تبدو في حديثه صلى الله عليه وآله وسلم فهي واضحة صادقة حارَّة نفَّاذة. نعم، لا غموض ولا افتعال في حديث هذا النبيّ عن الله تعالى، وفي ربط الناس به.

وللكلام الإنساني درجة حرارة مُعينة يموت دونها فلا يترك أثراً، ولا يبلغ هدفاً، وعندما يذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه راغباً أو راهباً يشتدُّ النبض في الكلمات المنسابة، وتحتدُّ العاطفة في المشاعر الحارَّة فلا يملك قارئ أو سامع إلا أن يخشع ويستكين لله رب العالمين.

كنت أتابع يوماً درساً في عالم الأفلاك حيث تقفز الأعداد إلى شطحات تسبق الخيال، وتُقاس المسافات بأرقام تنقضي قبل إحصائها الآجال.

وتضاءلتُ في نفسي، ثم عُدت إلى مواقع الأقدام من أرضي، ونظرت إلى ما تحت الثرى، وعلمت أني لا أدري، ولا أرى.

تُرى ما هناك في أعماق هذه الكرة حتى النقطة المكشوفة من سطحها في الجانب الآخر؟ أشياء كثيرة نجهلها كل الجهل، قلت: لكن الله سبحانه وصف نفسه فقال: ﴿ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ٥ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ٦ وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى٧ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ٨﴾ [طه:5 - 8]: إنَّ اللمعة المضيئة عند سدرة المنتهى كالحبَّة المستخفية في ظلمات الأرض، سواء في علمه- تبارك اسمه- وهو علم مسطور في سجل بيِّن دقيق!.

وملأت أقطار نفسي عاطفة إعجاب بهذا الخالق الأعلى، بيد أنَّ الكلمات المعبرة تقاصرت ثم احتبست، وشاء ربي أنَّ يلهمني ترديد كلمات تُنفس عمَّا بي، فإذا الكلمات المعبِّرة في حديث رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف صلاة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه: (..وإذا ركع يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)، وإذا رفع رأسه من الركوع يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد)، وإذا سجد يقول في سجوده: (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشقَّ فيه سمعه وبصره. تبارك الله أحسن الخالقين) (1).

في هذه المناجاة ترى الألوهية الكاملة والعبودية الكاملة.

بين يدي بديع السموات والأرض يجثو عابد مُلهم، فيهمس في ركوعه وسجوده بكلمات تصور ما ينبغي أن ينطق به كل فم تحية لذي الأسماء الحسنى!

إنَّ المسلم الأول- وهذا ترتيب محمد بين النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- له فن في الذكر والشكر والإنابة والدعاء لم يُحفظ مثله لبشر، وسنلقي نظرة على ما أثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم لنجلو هذه الحقيقة.

رجَّعت البصر في كتب مقدَّسة لأديان أخرى، فوجدتها كلها دون ما حوى القرآن الكريم من إعظام لله تعالى، وتفصيل لأمجاده ومحامده؛ لقد ذكر القرآن أسماء الله الحسنى مئات المرات في تضاعيف قصصه وتشريعه ووصفه لمشاهد الكون، ومشاهد البعث، ورفض أن يكون الثناء على الله سبحانه نظرياً لا يتحرَّك به فؤاد ولا يرقى به سلوك، ثم ترجم النبيُّ العابد محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنهج في نواحي حياته كلها فصار إنساناً ربانياً ترنو بصيرته إلى الله سبحانه ويباشر كل شيء في الدنيا باسمه، كأنَّه منه على مرأى ومسمع.

إنَّ الغني بالله تعالى لا تدنيه مشاعر الرغبة والرهبة، والقوي بالله لا تقلقه أعداد القلة والكثرة، والمراقب لله تستوي عنده الخلوة والجلوة، وطالب الآخرة لا تستخفُّه مآربُ الحياة الدنيا.

وقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامر القلب بربِّه، عميق الحسِّ بعظمته، وكان ذلك أساس علاقته بالعباد ورب العباد.

واسمع إليه في هذا الدعاء الجامع: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي.اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب. وأسألك القصد في الفقر والغنى. وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرَّة عين لا تنقطع. وأسألك الرضا بعد القضاء. وأسألك بَرد العيش بعد الموت. وأسألك لذَّة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرة، ولا فتنة مُضِلَّة). (اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين).

ومن مجون الناس أن يقول فريق منهم: كان محمد مدعياً للنبوة! وَيْحكُم! فأين الصدق إذن؟.

إنَّ فم بشر من أزل الدنيا إلى أبدها لم يناجِ اللهَ بأشرف من هذا الكلم، ولم يتوجَّه إليه بأحر من هذه الضراعة، من يكون صادقاً إن كان محمد مُزوِّرا؟ 

والواقع أنَّ المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في درك من العجز الفكري والروحي، يعي الحلماء إنَّ تحديثهم عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتحديث الهوام عن الكواكب السيارة. ﴿وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [فصلت: 44].

الحب أساسه، والشوق مركبه:

محنة البشر أنهم مُكلَّفون بالارتقاء إلى الملأ الأعلى على حين أنهم خلقوا من حمأ مسنون! وهم ليسوا مكلفين أن يكونوا ملائكة، فهيهات هيهات ما داموا محكومين بأجهزة هذا الجسد ومطالبه المتجدِّدة.

هم مُكلَّفون أن يقاوموا الإسْفَاف بالتسامي، والنسيان بالذكر، والأثرة بالأخوَّة.

هم مُكلَّفون ـ بعد ما وهبوا الحياة ـ أن يجعلوها لله، فلا تكون أنفسهم شغلهم الشاغل، بل يكون واهب الحياة أملهم الماثل، وما فرضه هو مصدر نشاطهم، وأساس حراكهم وحماسهم.

وفي هذا الكلام إجمال يحتاج إلى إيضاح، إنَّ الملائكة لا تأكل، ولا تتكلَّف زرعاً ولا حصاداً، والبشر الذين يأكلون يُضاهِئون الملائكة تماماً لو أنَّهم زرعوا وحصدوا وأكلوا باسم الله تعالى.

ووقتهم المبذول في ذلك كله يساوي وقت الملائكة المبذول في التسبيح والتحميد إذا هم لحظوا قُدرة الله تعالى في الإنبات والإنضاج، وفضله في الإطعام والكسوة والمأوى.

وقد بعث الله تعالى رسله من بدء الخليقة ليسيروا بالأمم على هذا الدرب، لم يبعثهم ملائكة، لأنَّه لا علاقة للملائكة بهذا النوع من التكاليف وقد عجب الجاهليون من ذلك، وقالوا: ﴿وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرٗا رَّسُولٗا٩٤ قُل لَّوۡ كَانَ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَلَٰٓئِكَةٞ يَمۡشُونَ مُطۡمَئِنِّينَ لَنَزَّلۡنَا عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكٗا رَّسُولٗا٩٥ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا٩٦﴾[الإسراء: 94-96].

والنبي العربي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ضرب من نفسه المثل في إمكان أن يعيشَ البشرُ على مستوى الملائكة ذكراً لله وشكراً، والأفق الذي رفع الناس إليه لا تلمح فيه إلا صفوف المصلين المسبِّحين بحمد ربهم، أو صفوف المجاهدين الذين بذلوا في ذاتِ الله أنفسهم وأموالهم.

نعم، إنَّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أنشأ جيلاً من الناس يباهي الله سبحانه بهم ملائكته، لأنَّهم قطعوا كل الجواذب الأرضية وكل إغراءات هذه الدار العاجلة، ومشوا وراءَ نبيهم المتفاني في مَرضاة ربِّه، الناشد لوجهه وحدَه، المرتبط بهذه الكلمات النقيَّة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].

لا يعرفُ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من احتبس في سجن الدنايا أو قعد عن نصرة الحق والخير.

وينابيعُ الحياة العاطفيَّة والفكريَّة في نفس الرسولِ الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم تجيء من معرفته الساطعة بالله تعالى، وذكره الدائم له، وأخذه بنصيبه الضخم من معاني الكمال في أسمائه الحسنى.

ذلك أنَّ الله سبحانه خلق آدم على صورته، واستخلفه في هذه الأرض ليكون نائباً عنه، ومكَّنه، بل كلَّفه أن ينشط في استغلال خيرها وامتلاك أمرها وأوصاه أن يحترم أصله الإلهي العريق، فلا يتدلى عنه إلى نزعات الطين ووساوس الشياطين.

يجب أن يكون عالماً ماجداً، قادراً كريماً، رحيماً مُنعماً، وهَّاباً إلى آخر ما ترمز إليه أسماء الله الحسنى من صفات الكمال، وشارات العظمة والجمال.

والعالم ـ من أزله إلى أبده ـ لا يعرفُ إنساناً استغرق في التأمُّل العالي ومشى على الأرض وقلبه في السماء، كما يعرفُ في سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

إنَّه خير من حقَّق في نفسه، وفي الذين حوله حياة الإنسان الكامل: الإنسان الربَّاني المستخلف في ملكوت الله، لينقل إليه أطرافاً من حقيقة هذه الخلافة الكبيرة.

وفي المواريث العقليَّة والعاطفيَّة التي تركها هذا النبيُّ الكريم، ترى كل العناصر التي يستطيع بها أي إنسان أن يقوم بوظيفته الصحيحة في الحياة.

انظر إلى قوة العاطفة ودفقها في هذه المناجاة الحارَّة:

روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن زيد بن أرقم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول دُبرَ صلاته: (اللهم ربَّنا وربَّ كلِّ شيء).

(أنا شهيد أنك الرب وحدك، لا شريك لك).

(اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنَّ محمداً عبدك ورسولك).

(اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أنَّ العباد كلهم إخوة).

(اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصا لك وأهلي، في كل ساعة من الدنيا والآخرة).

(يا ذا الجلال والإكرام، اسمع واستجب).

(الله الأكبر الأكبر، نور السموات والأرض).

(الله الأكبر الأكبر، حسبي الله ونعم الوكيل).

(الله الأكبر الأكبر).

إنَّ ألفاظ اللغة حين تعجز عن ملاحقة هذا الجَيَشان المنساب في كل دعوة تجعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المنيب المتعبِّد يلجأ إلى التكرار في العبارة الواحدة ليُنفِّس عمَّا استكنَّ في صدره من روعة ومحبَّة وإجلال.

إنه في ظاهره ترداد للفظ واحد، وهو في باطنه تعبير عن معانٍ مُتجدِّدة من الولاء والهيام.

ويستوقفك في هذا الدعاء أن تتوسَّط شهادة النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لشخصه بالرسالة، بين توحيد الله تعالى، والإقرار بأنَّ العباد كلهم أخوة.

ما معنى أن يقول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لربه: (أشهد أنَّ محمداً عبدك ورسولك)؟.

ذلك ضربٌ من الإصرار على تحمُّل الأمانة وإبلاغ الرسالة للناس كافَّة مهما كذَّبوا بها، وتنكَّروا لصاحبها.

أربع وعشرون ساعة من حياة عريضة:

لنتأمَّل في هذه الصورة، صورة يوم واحد من حياة نبي الإسلام.

لقد صحا من نومه قبل الفجر بيقين، وظلمة الليل لا تزال مخيَّمة على كل شيء، إنَّه يتحرك مع طلائع الصبح المقبل قائلاً: (الحمد لله الذي ردَّ إليَّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره).

انظر كيف يستقبل الحياة بترحاب وتفاؤل: (الحمد لله الذي ردَّ إليَّ روحي).

إنَّ العمر الذي ملكناه نعمة نحمد الله عليها، وينبغي أن نحسن استغلالها. 

إنَّ الحياة فرصة النجاح لمن أراد النجاح، ولذلك امتنَّ الله تعالى بالشروق والغروب على عباده: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61].

وعظمة الحياة في العافية. ما أجمل أن يكون المرء سليم البدن، تنهض أجهزته وعضلاته بوظائفها كلها دون إعياء أو ملال. إنَّ المسلم عندئذ ينطلق في كل أفق ليؤدي واجباته باقتدار ورغبة. وذلك سرُّ حمدِ الله على العافية المتاحة.

ونقفُ طويلاً عند قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (وأذن لي بذكره). أرأيت أدب العبودية في شمائل العابد الرقيق؟ 

إنَّ منحه يوماً جديداً إيذان له باستئناف العبادة من مطلع الفجر.

ويبدأ العبد الشكور بذكر ربِّه بكلمات يقطر اليقينُ والحبُّ من كل حرف فيها، يقولها في الصباح والمساء على سواء: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي. اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي).

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السموات والأرض، رب كل شيء ومليكه، أشهد ألا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه) وفي رواية: (وأن أقترف على نفسي سوءاً، أو أجرَّه إلى مسلم).

مع طلائع اليوم المقبل يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه: (أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد، وعلى مِلَّة أبينا إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين).

وإقرارُ الأصحاب والأتباع أنَّهم على دين نبيِّهم محمد ظاهر، فما معنى أن يقول ذلك النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؟ لقد تكرَّر في أدعية كثيرة أن يشهد الرسول لنفسه بالنبوة، أو بأنَّ محمداً حق.

وأرى أنَّ ذلك لمقاصد حسنة منها: أنَّه أول ملتزم بتنفيذ ما جاء به، فكثير من أهل الدين ورؤسائه يحسبون الدين بلاغاً للآخرين وتكليفاً، أما هم ففوق المساءلة به.

ومنها: مُراغمة الكفار والمنكرين الشانئين، وجعل ذلك حقيقة لا تنال منها الشبهات والأوهام.

ومنها استشعار نعمة الله تعالى على صاحب الرسالة، وإبراز الرضا والسعادة بها شكرا لله تعالى الذي اصطفى.

وقد كان القلب الشريف يجيش بمشاعر التقدير والإعظام لفضل الله منذ يصبح، ويترجم عن ذلك بكلمات رائقة: (اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر)

(اللهم إني أصبحت منك في نعمة وعافية وستر، فأتمم نعمتك علي وعافيتك، وسترك في الدنيا والآخرة).

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من رجل ينتبه من نومه فيقول: الحمد لله الذي خلق النوم واليقظة، الحمد لله الذي بعثني سالماً سوياً، أشهد أنَّ الله يحيى الموتى، وهو على كل شيء قدير، إلا قال الله تعالى: صدق عبدي).

وجميل أن يثني المرء على مالك الملك، فيستمع الله إلى الثناء المهدى، ويقبله بالتصديق، ونسبة القائل إلى عبادته، يقول عنه: صدق عبدي.

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، وأعوذ بك من شر ما فيه، وشر ما بعده؛ ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك).

إنَّ الناس يعيشون داخل كهف مُعتم من همومهم الحقيقيَّة، أو المتخيَّلة.

وإنَّه لمحزن أنَّ عقولاً ذكيَّة لا ترى أبعد من جدران هذا الكهف، وأنَّ قلوباً فيَّاضة بالأسى لا تحسُّ إلا ظلمته وضيقه.

إنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العارف بربِّه يستنكر هذا الانقطاع المخزي فيقول: (ما من صباح يصبح العباد إلا منادٍ ينادي: سبحان الملك القدوس ـ وفي رواية ـ إلا صرخ صارخ: أيها الخلائق سبِّحوا الملك القدوس. أكاد أقول: إنَّ فؤاد محمد وحده، وهو الذي أصاخ إلى صوت الصارخ المهيب بالبشر أن يُمزقوا حُجب الغفلة، وأن يتوبوا إلى الملك القدوس.

وافتنانه صلى الله عليه وآله وسلم في التذكير هو أثر استغراقه في الذكر، ورؤيته لذي الجلال.

وجمهور الفقهاء لا يُلزم الأمة بترديد الأذكار والأدعية التي نقلناها وننقلها هنا. إنَّ ترديدها مُستحبٌّ وحسب، وهذا صحيح.

بيد أني أرى طول التأمُّل في هذه الأذكار والضراعات لابدَّ منه حين يعتلُّ القلب، وتضعف بالله علاقته، فإنَّ أثرها قوي في تعريف المرء بربِّه، وتبصيره بمعاني الأسماء الحسنى.

إنَّ الإيمان الغامض قليل الجدوى، والإيمان الفاتر أعجز أن يهيمن على السلوك، أو يكبح الهوى.

والواقع أنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحتلوا في الإيمان مكان القمَّة، ولم يغيروا التاريخ الإنساني، ويقيموا حكماً مكان حكم، وأخلاقاً مكان أخلاق، إلا لقربِهم من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واقتباسهم من سناه، وسريان الإخلاص من قلبه إلى قلوبهم، وحب الله من فؤاده إلى أفئدتهم.

هذه طباع الناس، ربما هاج أشواقهم الهامدة شوق حار، على ما قيل: 

وذو الشوق القديم وإن تسلَّى= مشوق حين يلقى العاشقينا

وأرى أنَّ الاستماع إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو، واستبطان عواطفه وهو يناجي يشعل البصائر المنطفئة، ويدفعها دفعاً إلى الإقبال على الله.

وليكن هذا اللون من الأدعية نافلة، فهناك قدرٌ مفروض من الاتصال بالله سبحانه يتصل بالمسجد، والصلوات المكتوبات على كل مسلم.

إنه خلال أربع وعشرين ساعة لابدَّ من الوقوف بين يدي الله خمس مرات، وقد تُفترض الجماعة أو تكون سُنَّة مؤكدة، ومكانة المسجد في المجتمع الإسلامي رفيعة، وسوف يستغرب الحديث عنها أناس أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات.

مع التباس الخيط الأبيض والأسود من الفجر يبدأ الخطو إلى المسجد، وإغراءً لذلك يقول الرسول الكريم: (بشر المشائين إلى المساجد في ظلم الليل بالنور التَّام يوم القيامة)، ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ [الحديد: 12]، ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا﴾ [التحريم: 8].

وفي المشي إلى المساجد لحضور الجماعات، صحَّ قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه: (ما يرفع الإنسان قدما ويضع أخرى، إلا كتبت له حسنة، ومُحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة).

وروى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى الصلاة بعد سماع الأذان وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً واجعل في سمعي نوراً واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً ومن أمامي نوراً، اللهم أعطني نوراً).

وقد أعطاه الله تعالى ما سأل، فكان داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً! وليت شعري ما تكون الإنسانية لو خلت من محمد؟ ومن سريرته النقية وبصيرته الوضاءة؟ ومن رسالته التي غسلت غسلاً ما علق بعقيدة التوحيد من لوثات الأفَّاكين والمخرفين.

لقد ارتبط بالمسجد، وجعل تعلق القلوب به أملاً حلواً، وأحيا بسيرته دعاء أبيه إبراهيم لما قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ [إبراهيم: 40].

لقد تحولت الصلاة في سيرته من تكليف تصحبه المعاناة إلى سعادة تستريح إليها النفس، وهو القائل: (وقرة عيني في الصلاة).

وفي رواية كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد يقول: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) قال: فإذا قال ـ المسلم ـ ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم.

وفي رواية: كان رسول الله يكتمل إذا دخل المسجد حمد الله تعالى وسمَّى وقال: (اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك). وإذا خرج قال مثل ذلك، وقال: (اللهم افتح لي أبواب فضلك).

ما كان أشد حبِّه للصلاة كان إذا سمع المؤذن يقول: قد قامت الصلاة يقول: (أقامها الله وأدامها).

ونحن مأمورون أن نردد كلمات الأذان ثم ندعو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا لطيفة يحسن إثباتها، إننا نقول: اللهم رب هذه الدعوة التَّامة، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته.

ربما تساءل سائل: لماذا لم تتجانس الكلمات في التعريف، فيقال: ابعثه المقام المحمود الذي وعدته؟ والجواب أنَّ النبيَّ فرح بالكلمة التي ذكرها القرآن الكريم وهو يبشر العابد المتهجد بالجائزة التي تنتظره: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79].

لقد تشبَّث بالكلمة المنبئة عن مكانته في الآخرة، وطلب من أمته أن تدعو الرحمن بسَوق الجائزة وإنجاز الوعد، ومكافأة قوّام الليل الذي تورمت قدماه من طول المناجاة والتلاوة، والركوع والسجود.

إنَّ لمحبة الله في قلب هذا الإنسان المتبتِّل مكانة لا يزحمها شيء أبداً.

ولقد ربَّى ـ عن طريق المحراب ـ الرجال الذين قادوا الإنسانية بعده ثقافياً وسياسياً، فما رأت الدنيا حضارة أشرف ولا أتقى مما صنع هؤلاء الربانيون من رجال محمد.

ربَّاهم بوحي قريب العهد بربِّه، فإذا الصحراء الغفل تتحوَّل إلى معهد يخرج أعرف الناس بالقيم والشرائع، وأحق الناس بالإمامة والسياسة. كانت القلوب ـ وهو يقرأ القرآن ـ تكاد تطير من الروعة والخشوع وكان الأصحاب يرمقونه وهو يرثيهم، فما يملأ أحد عينه منه مهابة وإعزازاً.

ولقد شعر الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه أدَّى رسالته عندما نظر في مرض الموت إلى المصلين في المسجد، فرآهم مُقبلين على الله، خالصين للحق، فاستنار وجهه كأنَّه صفحة مذهبة.

ذاك كل ما يريد ! ما يبغي إلا أن يلقى الله سبحانه بهذا الثمر الحي لجهاده الدؤوب.

تُرى هل تعود المساجد يوماً مصانع للرجال كما كانت قديماً؟ إنَّ الأماكن متشابهة ولكن السكان...غير ما نهوى!...

كأن مجنون ليلى كان يصف مشاعرنا عندما قال: 

أما الخيام فإنها كخيامهم = وأرى نساء الحي غير نسائها

يتبع...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

(1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين