فنُّ الذكرِ والدعاء عند خَاتَمِ الأنبياء (11)

وفيما قرأنا ونقرأ من أدعيةِ النبيِّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نرى طولَ نَفَسِه في الاستغفار، كما نرى أنَّ القرآن الكريم نسب إليه ما نسبه هو إلى نفسه من ذنوب غُفرت له بفضل الله فما معنى ذلك؟ وماذا صنع مما يُؤاخذ به؟.

ونحن نجيبُ على ذلك بهدوء، فإنَّ صفحة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي أنقى صفحة بين أهل الأرض والسماء، وما نعرفُ أحداً تبعتْه الأبصار في صِغَره وكِبَره، ويقظته ومنامه، وسرِّه وعلنه، كما تبعت محمداً وأحصت عليه كلَّ شيء.

وماذا قال أعداؤه عنه مما يخدش البطولة أو ينقص المروءة؟ لا شيء!.

ما نقم منه الناقمون إلا أنَّ الضربات التي كالها للباطل ظلَّ يترنَّح منها إلى آخر الدهر، وأنَّ منهجه في توحيد الله، وتحشيد الناس على عِبَادته، لم يقتربْ منه أحدٌ من الأولين والآخرين.

ولم ينسب إليه ـ ولو بطريق الكذب- ما نسبه أهل الكتاب إلى أنبياء الله من سكر، وزنى، وقتل، وختل.!

وأنبياء الله عليهم السلام كلهم براء من هذا الاختلاق، وإمامهم الشامخ محمد بن عبد الله أسمى قدراً، وأعزُّ مكاناً.

إذن فممَّ الاستغفار؟ إنَّ التفاوت بين النفوس كبيرٌ جداً، ذلك أنَّ ما تملك من طاقات مادية وأدبية يختلف اختلافاً واسعاً، وموقفها مما وهب لها هو الذي يحدِّد نجاحها ورسوبها، أو تقدمها وتأخُّرها، ولا عبرة بظاهرة العمل.

إنَّ الأرنب يَقدر في لحظات على اجتياز عِدَّة أذرع على حين تستغرق السلحفاة في ذلك أمداً، ولا مكان للومها على بطئها إذا كانت قد بذلت وسعها.

والبشر ليسوا سواء في هممهم ونظراتهم وإمكاناتهم، وهم مسؤولون أمام الله على قدر ما وهب لهم من تلك الأنصبة، ومعنى ذلك أنَّه قد يقبل من أحدهم ما يرفضُ من الآخر، ولعل ذلك معنى قول أبي الطيب: 

ويختلف الرِّزقانِ والفعل واحد = إلى أن يُرى إحسانُ هذا لذا ذنبا 

نعم، قد تكون الحسنة من هذا سيئة من ذاك، لبُعد ما لدى كليهما من مواهب عقلية وحسية، ولذلك قالوا: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)!.

والواقع أنَّ ما يُقبل من شخص عادي قد يُعد هِنَة من رجل عبقري، ومن هنا يمكن القول بأن ما ينسب - حيناً - إلى الأنبياء من ذنوب إنما هو على مقدار درجاتهم، وأنَّ هذه الذنوب ليست ما يُواقع العامَّة من كبائر أو يتلوثون به من أوحال.

وقد كتب الأستاذ العقَّاد مقالاً عن المقاييس الأدبيَّة، جاء فيه أنه ينبغي في بعض الأحوال النظر إلى من قال، لا إلى ما قيل. 

فإن أبا العلاء المعري عندما ينشد:

تعب كلها الحياة فما أعجب = إلا من راغبٍ في ازدياد 

فإنه لا يعني ما يَعنيه الحمَّالون في محطات السكة الحديد، أو ما يعنيه الفلاحون وهم ينقلون الأتربة والبذور.

وهذا كلام حسن، ومن السخف تصوُّر المرسلين يَقترفون خطايا الدهماء، إنَّ ما يستغفرون له من أخطاء شيء آخر يتفق مع مَعَادنهم المنتقاة.

والنسبة أمر لابدَّ منه، فركَّاب الطائرات قد ينظرون من مكانهم العالي إلى ركاب القطارات، ولكن ركاب السفن الفضائية يضحكون من ركاب الطائرات. ويأخذ الأمر صفة أخرى عند سكان الكواكب.

على أنَّ هناك منطقاً آخر يتمِّم هذه النظرة التي شرحناها فيما ينسب إلى الأنبياء من ذنوب. 

إنَّ الإنسان الواحد- فيما يمرُّ به من أطوار الكمال- يمكن أن يكون عدة أناس، إنه يرقى من سماء إلى سماء، وحاله في الأولى أدنى من حاله في الأخرى، وهو إذ ينظر إلى دنوها - بالنسبة إلى ما صار إليه - يستغفرُ ربَّه، ويستصغر ما قدَّم له، ويعدُّه فعلاً رديئاً ما كان ينبغي منه، وكلما مضى في معراج الارتقاء، وتكشَّف له من آيات الجمال الأعلى ازداد ولهاً بالتمجيد والتحميد، وازداد كذلك لهجاً بالتوبة والاستغفار.

ونحن على صعيدنا القريب عندما نرمُق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته وقيادته نرى أنَّه في فلكه العالي يرتفع من أفق إلى أفق، فآيات القرآن تَزيد يوماً بعد يوم، ومراحلُ الجهاد تطَّرد مرحلة بعد مرحلة، وأعباء الهداية العامَّة تشتد وطأتها، وتنداح دائرتها.

إنَّ الذي صاح على الصفا يدعو عشيرتَه الأقربين أخذ يكاتبُ ملوك العصر وجبابرة الأرض. والذي خاصم نفراً يُعدون على الأصابع أول أمره شرع يعدُّ الجيوش لمقارعة الضلال وكسر كبريائه. 

ولمن هذه المعاناة الموصولة في جهاد النفس وجهاد الناس؟ لله تعالى وحده.

لقد قام الليل إلا قليلاً من أول أيام البعثة، ومضى على الدرب الطويل يواصل الصلاة والصيام والعطاء، ويقاوم الوثنية والخرافات وعوج الجهال والمتعالمين. 

هل استراح يوماً؟ كلا! كلما شعر أنَّ الله سبحانه اختاره لهذه الرسالة أفنى قُواه في البلاغ والجهاد، وحطَّم العوائق ومضى في إعلاء اسم الله، فلا عجب إذ تنزَّل عليه قبيل الفتح الأكبر: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ﴾[الفتح:1-2] 

إنَّ الغفران هنا ليس لذنوب واقعة أو مُتوقعة، وإنما هو تبشير المجاهد في سبيل ربِّه بأنه نجح فيما كُلِّف به، وإنَّ الشعور بالتقصير أو العجز عن الوفاء بحقوق الله تعالى كما يحبها القائد الضخم أمرٌ مُتجاوز عنه.

لا ذنوب هنا مما يَألف العوام، إنما هو إحساس نبي الأنبياء بأنه - وإن أذاب نفسه في مرضاة ربه - فهو مُقصِّر في حقِّه، مُتخلِّف عن أداء واجباته العظام؛ من أجل ذلك كرَّمه الله، وساق له البشرى.

وعندما يقول الله تعالى لعبد: غفرتُ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر فليس معنى هذا إسقاط التكاليف، وإعطاء المرءِ حريَّة أن يفعل أو يترك، هذا فهم بادي السوء والغفلة؛ وإنما المراد أنَّ العبد بلغ مُستوى من الرفعة لن ينحدر عنه، وأن مستقبله لن يكون إلا امتدادا لحاضر طيب موصول بالله مراقب له.

وقد وُعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المغفرة الشاملة، كما أنَّ الرسول بَشَّر بهذه المكانة أهل بدر، وعثمان بن عفان رضي الله عنه لما أعطى مالاً ضخماً في غزوة العسرة.

وفي الصحيح أنَّ الله تعالى بَشَّر بهذه المنزلة الرجل التائب الذي يستغفر الله سبحانه من قلبه في أعقاب ذنبه قائلاً: (علم عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ويؤاخذ به...افعل ما شئت فقد غفرت لك).

إنَّ المفهوم من هذا أنَّ الله تعالى يكتبُ للعبد حقَّه أو صفته من الحال الثابتة التي بلغها في حياته، ويسجلها له قبل وفاته، لأنَّه يعلم منه أنَّه لن يتعرَّض بعدها لنكسة.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين