عظَمتُه صلى الله عليه وآله وسلم   وشيءٌ من سِيرتِه الباهرة وآياتِه الظاهرة (2)

وقال (جوستاف لوبون) الفرنسي في حقِّهم وهو من أعظم فلاسفة أوربا: (إنَّ مَلَكة الفنون لا تَستحكم في أمَّةٍ من الأمم إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال. وقد شذَّ العرب فوصلوا إلى الاستقلال في جيل واحد). وقال أيضاً: (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب). 

وقد أذكرني ذلك قول صاحب الهمزيَّة في أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم:

أغنياء نزاهة فقراء = علماء أمة أمراء

ثم نقول بعد ذلك:

إنَّ قوانين العالم المتمدن إلى الآن لم تصل إلى تلك الغايات السامية، ولا أتت بتلك السعادة المنشودة، ولا أورثتنا هناءً ولا صفاء. بل يمكننا أن نقول:

إن تلك القوانين وهاتيك المدنيات الفاسقة ما زادت العالم إلا شقاء وبلاء. على أنَّ سبب نهضتهم من كبوتهم واستيقاظهم من نومهم وإنقاذهم من جهالتهم إنما هو علم المسلمين والاحتكاك بهم كما هو معروف من تاريخ الأندلس وتاريخ الكنيسة وتاريخ الحروب الصليبية، فكانت القرون الوسطى أو القرون المظلمة على ما يقولون في ذلك العهد عندهم لا عندنا، (وإن كان شباننا بكل أسف لا يعرفون ذلك لأنهم جهلوا تاريخ آبائهم ونبغوا فيما جاء عن الأجانب فناءً فيهم وافتتاناً بهم): فإنَّ مدنيتهم لا تُعنى إلا بالماديَّات فمحورها الذي تدور عليه هو المادَّة، فمنها يبدأون وإليها ينتهون. أما إصلاح النفوس وسعادة الإنسانية، وراحة القلوب وهدوء الأفكار، والتنعُّم بتلك الإحساسات الشريفة والملكات الفاضلة، فهم بمعزل عنها، بل سرت عدواهم إلينا، فأقفرت نفوسنا من فضائل ديننا وآدابِ أسلافنا، ولم تصلْ أيدينا إلى مثل دُنياهم وقوَّتهم واتحادهم ونشاطهم، فأصبحنا مُستعبدين وقد كنَّا السادة، وجاهلين وقد كنا العلماء، وأذلَّة وقد كنَّا الأعزاء وقد شطَّ بنا القلم، ولكنها نفثة مصدور، فلنرجع إلى ما كنا فيه، فنقول:

إنَّ تشريعه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصلْ إليه تشريع إلى الآن وقد مضى عليه أربعة عشر قرناً تقريباً. ذلك التشريع الذي تكفَّل بإصلاح النفوس والأبدان، وضمن سعادة الدنيا والآخرة، وحرَّم على أبنائه أن يكونوا أذلاء، فقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]، وقال في وصفهم أيضا: « ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾ [المائدة: 54] وقال لهم بعد ما سلَّحهم بتلك الأسلحة وحلاهم بهاتيك المكارم: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ﴾ [آل عمران: 110]. وقد قال في آية أخرى في وصفهم: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ﴾ [الفتح: 29].

وما أبهر هذه الآية في نفسي: فإنها تشير على ما بها من إيجاز إلى ما يجب أن تكون عليه الأمَّة مع أعدائها، وقد أشير إلى ذلك بقوله: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ﴾، وإلى ما يجب أن يكون قانونها الداخلي بين أبنائها. وقد أشير إلى ذلك بقوله: ﴿رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ﴾ وإلى ما يجب أن يكون بينهم وبين الله، وقد أشير إلى ذلك بقوله: ﴿تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ﴾، فماذا بقي بعد هذا؟ أصلح ظواهرهم وبواطنهم، ثم أرشدهم إلى ما يجب أن يعملوا مع أعدائهم، وما يجب أن يكونوا عليه فيما بينهم، وما يجب أن يتحلوا به أمام خالقهم. وكم للقرآن من إيجاز وإعجاز.

وقد أذكرني ذلك قول سدير الفرنسي: (لو وجد المصحف في فلاة لقلنا إنه كلام الله). وكم للمنصفين منهم من شهادات لدين الإسلام ونبي الإسلام!

ويلتحق بذلك مُعجزات طبيَّة وعلميَّة لا يمكننا أن نشير إليها إلا إشارة وجيزة. فإنَّ الذي حرَّمه كلحم الخنزير مثلاً تبين أنَّ فيه ضرراً كبيراً. فقد عرفوا الآن أن فيه دیدانا كثيرة، وأنَّه يولد الدودة الوحيدة. ووراء ذلك شيء كثير كالخمر الذي حرَّمته أمريكا لمَّا عرفت أضراره الكثيرة (والخمر تكنى عندنا بأم الخبائث).

ومن تلك الآيات العليَّة قول القرآن: ﴿وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ﴾ [الحجر: 22] وما عرف تلقيح الرياح للأشجار إلا من عهد قريب. وقوله: ﴿وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ﴾ [يونس: 61]. ولم يكن في ذلك العهد شيء أصغر من الذرة وإن كانت الميكروبات التي عرفناها أخيرا هي أصغر من الذرة. 

وكقوله: ﴿وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]، ولم يعرف أن في النباتات ذكرا وأنثى إلا منذُ عهدٍ قريب: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [يس: 36].

وبعد: ففي القرآن الكريم من التعبير عن الحقائق ما تَقْضي منه العجب، حيث يعبر بالعبارات التي تساير كلَّ عصر وتتفق وكلَّ اكتشاف، حتى إذا تبين خطأ في تفسيرها بمقتضى اكتشاف جديد نسب لمفسري الآيات لا لها، ووجدت هي أكثر انطباقاً على ما قضى به العمل المحض والاكتشاف الجديد، ما يدهش اللبَّ، وينطق بأنه ما أنزله إلا الذي يعلم السرَّ في السموات والأرض.

أفلا يحق له أن يقول بعد ذلك: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا﴾ [الإسراء: 88] وإني أستحلفك بعلمك وإنصافك أن تنظر في هذه الآية نظر الباحث المدقق حتى تعلم أن مثل ذلك التحدي لا يجوز أن يكون إلا من الله تعالى العالم بكافة الأشياء وما عليه عباده من القوى والقُدَر. ولا يتصوَّر أن يقول ذلك مخلوق ولا يتحدى جميع الخلق بمثل هذا عاقل: فإنَّ العاقل لا يعرض نفسه للهزء والسخرية بتحدي الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

ومن هذا القبيل في الدلالة على صحَّة دعوته وصدق رسالته صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى : ﴿يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ﴾ [الأعراف: 157] ، وقوله في حقِّ أهل الكتاب: ﴿يَعۡرِفُونَهُۥ كَمَا يَعۡرِفُونَ أَبۡنَآءَهُمۡۖ﴾ [البقرة: 146]. 

وليس يعقل أن يعتقد مثل عبد الله بن سلام وهو من أكبر علماء التوراة كذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ثم يؤمن به، أو يعتقد نصاری نجران كذبه ثم لا يجيبوه إلى المباهلة، بل ليس من المعقول أن يقيم صلى الله عليه وآله وسلم برهاناً على كذبه فيخاطبهم والتوراة بين أيديهم بمثل ذلك الخطاب، ثم يوبخهم ويقرعهم ويشافههم بأنَّهم يجدونه فيها، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. 

ولا من المتصور أن يجترئ على ذلك وهو يعلم كذب نفسه، إلى غير ذلك مما ينفرهم غاية التنفير، ويضعفه لديهم ويهون شأنه عليهم (والكاذب ضعیف حتى عند نفسه). ولو فعل ذلك من غير أن يكون له حقيقة لكان أول السفهاء وأكبر الجهلاء ولطمعت فيه أعداؤه، وما أسرع ما كان ينتفض بناؤه. إلى آخر ما لا يمكننا الإفاضة فيه، ولا الوصول إلى خوافيه.

آية أخرى ﴿وَمَا نُرِيهِم مِّنۡ ءَايَةٍ إِلَّا هِيَ أَكۡبَرُ مِنۡ أُخۡتِهَاۖ وَأَخَذۡنَٰهُم بِٱلۡعَذَابِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [الزخرف: 48]:

ومن عجيب أمره وبديع حكمته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأخذ القلوب إلى الله تعالى، ويملأ النفوس رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه، ومع ذلك يرغب في العمل للمجتمع، ولم يحرم زينة الدنيا التي أخرج الله لعباده والطيبات من الرزق، بل فضَّل الأمور العامة التي ينتفع بها الناس على العبادات الخاصة، كما قال في حقِّ الذين خدموا إخوانهم في السفر في يوم شديد الحر: إنهم فازوا بالأجر كله، ولم يجعل ذلك للصائمين المتعبدين في ذلك اليوم. 

وقد ورد موقوفاً أو مرفوعاً: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)[لم يصح وروده موقوفاً أو مرفوعاً].

وقال تعالى: ﴿فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ﴾ [الملك: 15] ، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ﴾ [الجمعة: 10] ولكنه مع هذا حوَّل كل شيء من أمور الدنيا للآخرة بالنية الصالحة والإخلاص لله، فصار كل شيء عند المسلمين طاعة بفضل هذا التعليم العالي، وأصبح من المقرَّر أنَّ العمل المتعدي أفضل من العمل القاصر، فجمع لنا صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بين مصلحة الدنيا ومصلحة الآخرة على أتمِّ الوجوه. وفي الوقت نفسه حفظنا من سفاسف الأخلاق، ودنايا الخصال، بفضل تلك المراقبة وذلك الإخلاص، فصار كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويعتبر منفعة أخيه منفعة له إن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة.

وقد أذكرني هذا قول بعض العلماء: لم يبقَ بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخلاق فاسدة أصلاً، لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم أبان لنا عن مصارفها كلها: من حرص وحسد، وشَرٍّ وبخلٍ وخوف، وكل صفة مذمومة. فمن أجراها على تلك المصارف عادت كلها مكارم أخلاق وزال عنها اسم الذمِّ. فإذا صرفت ما فيك من الحرص والطمع إلى اكتساب الدرجات وفعل الطاعات، وما فيك من الحسد والمنافسة إلى النبوغ في العلم والحكمة وإحراز الزلفى عند الله تعالى، وما فيك من الغضب ومحبة الانتقام إلى أعداء الله تعالى وبذل الوسع في سبيل الله سبحانه لإعلاء كلمة الله، وما فيك من شهوة السرف إلى صلة الأرحام وإغاثة الملهوف ومواساة الجيران والإخوان،... إلخ، كنت شخص الفضل ومثال الكمال، وعادت هذه الرذائل فضائل، وتلك المنكرات وسيلة لأعظم الطاعات وعظيم الدرجات.

وانظر إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن رکع دون الصفِّ: زادك الله حرصاً ولا تَعُدْ. فعرفك بذلك فضيلة الحرص وأبان مصرفه الذي ينبغي أن يكون فيه.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الخير، ورجلٍ آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس)

فانظر کیف وجَّه من فيه غريزة الحسد إلى أي ناحية وصرفه عن بقية النواحي. وغريزة الغبطة التي يذكرها العلماء في شرح هذا الحديث هي بعينها غريزة الحسد، وإنما غایرتها بصرفها لغير مصرفها، وتوجيهها إلى غير وِجْهتها.

يتبع...

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: مجلة الأزهر المجلد الثامن ربيع الأول 1356 الجزء الثالث

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين