عظمتُه صلى الله عليه وآله وسلم وشيءٌ من سيرتِه الباهرة وآياتِه الظاهرة (1)

تُعرفُ عظمةُ الرجل بتحليل نفسيَّتِه الكبيرة، وأخلاقه الرفيعة، ثم بآثاره الخالدة. ولا نجد نفسيَّة أعظم من نفسيَّتِه عليه السلام ولا آثاراً کآثاره. وكل من تتبَّع شریفَ أحواله وما اشتملت عليه سيرة حياته، وطالعَ جوامعَ كلمه وحسن شمائله وبدائع سياسته ولطف دعوته، ورفيع حكمته، وعلمه بمجامع السعادات، وسوقه إليها بالوسائل المختلفة والطرق العجيبة التي تفوق كلَّ ما جاء في حكمة الحكماء وسير العلماء، وما تمَّ له صلى الله عليه وآله وسلم من سياسة الخلق وتقرير الشرائع وتأصيل الآداب الكريمة والشيم الحميدة، إلى فنون العلوم المختلفة دون تعتيم ولا مُدارة، ولا مُطالعة كتب من تقدم، ولا الجلوس إلى العلماء والحكماء بل هو نبي أمِّي ما يعرف شيئاً من ذلك، حتی شرح الله تعالى صدره وأبان أمره، وعلَّمه مالم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما. 

وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ٤٩﴾ . ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ٥٢﴾ [الشورى: 52] ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ٢﴾ [الجمعة: 2] ، ﴿سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ٢١﴾ [الحديد: 21].

نقول: كلُّ من درسَ سيرة هذا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم دراسة مُدقَّقة، وعرفَ تاريخ حياتِه الشريفة معرفةً تامَّة، لم يخالجه أقلَّ ريب في أنَّه واسطة عِقْد الكمال، وأنَّه سيدُ الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين. على أنَّ من يرید بیانَ کماله واستقصاءَ أحواله فإنَّما يحاولُ عدَّ ما في البحر من دُرر، أو استقصاء ما في السماء من نجوم: 

فإنَّ فضلَ رسولِ اللهِ ليس له = حَدٌّ فيعربَ عنه ناطقٌ بِفَمِ 

ولنقرِّب لك ذلك بعضَ التقريب، ولنفصِّله شيئاً من التفصيل، فنقول: إنَّ فيما أتی به من الأوامر الحكيمة التي تكفل مصالح الدنيا والآخرة، وفي إرشاده إلى ما يكفل سعادة الأبد وراحة المجتمع وصفاء العيش، وفيما بيَّنه من الحقائق وهدي الخلائق، وفيما أتى به ما يعرفه العقل جملةً ويعجزُ عنه تفصيلاً - ما يعلم به المنصف البصير أنَّه من العلم والمعرفة والخبرة في الغاية التي باين بها الخلق، فكل ما يَعلم الناس أنَّه حقٌّ وأنَّه خير فهو أعلم منهم به، وهو بعد ذلك أنصح الخلق للخلق، وأبرُّ الناس بالناس، وأصدقهم فيما يقول، وأقومهم فيما يفعل.

وبعبارة أخرى نقول: إنَّه جمع مالم يجتمع لأحد، ولم يُعهد مثلُه في السنين الطبيعيَّة للإنسان. فإنَّ من نظر إلى تدبيره الحروب مثلاً وعرف أنَّه أتى فيها بأحسنِ الخُطط، قال إنَّه رجلُ حربٍ، وجَّه كلَّ هَمِّه وفكره لمجالدةِ الأعداء ورسم خُطط الحروب، ومن كان كذلك لا يكادُ يحسنُ غيرَ ذلك.

فإذا نظرتَ إلى زهده وعبادته صلى الله عليه وآله وسلم حتى تورَّمت قدماه، وكان يُسمع لصدره أزیز کأزیز المِرْجَل من البكاء في الصلاة، وكان يُطيل السجود حتى تظن عائشةُ رضي الله عنها أنَّه قد مات، تقول إنَّه رجلٌ ترك الدنيا وما فيها، فهو جاهل بها لا يحسنُ تدبيرَها ولا العمل لها بوجهٍ من الوجوه، فضلاً عن إعداد الوسائل لقوم جُهَّالٍ مُتفرِّقين مُتوحِّشين لأن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، تَغِلب، ولا تُغلَب وتَقهر ولا تُقهر، مادامت مُتمسِّكة بما جاء به.

وإذا نظرت إلى وعظه صلى الله عليه وآله وسلم الذي يأخذ بمجامع القلوب، قلتَ إنَّه لا يحسن غير ذلك.

وإذا نظرت إلى حسن ترتيبه وتعليمه الذي جعل السيدة عائشة رضي الله عنها تكون من أعلى العلماء، بحيث تجرؤ على أن تخطئ عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وهم من أكبر الصحابة وأعلمهم، وقد مات عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة، وقد صار بفضل هذه التربية الحكيمة وتلك الأساليب العجيبة أبو هريرة رضي الله عنه أكبر من روينا عنه الشريعة في أربع سنين.

إذا نظرت إلى ذلك كله قلتَ إنَّه من أكبر أساتذة علم النفس، حيث جاء بتلك النتائج الباهرة التي لم تُعرفْ لأحد من علماء التربية وأساتذة علم الاجتماع حتى الآن. بل نقول: كان يجيئه الأعرابي فلا يمكث معه إلا قليلاً من الزمن حتى يرجع عالماً في نفسه معلماً لقومه.

وإذا صادفك التأييد ونظرت إلى ما كان من تأثيره في الأمة العربية، رأيت العجب العجاب، فقد تبدَّلت طبائعُ العرب على اختلاف قبائلهم ونزعاتهم بهدايته صلى الله عليه وآله وسلم: من الظلم إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفسق الفاحش إلى العدل العظيم الذي لم يبلغه أعظم الفلاسفة، وقد أَسقطوا كُلَّهم أولهم وآخرهم - بفضل تعاليمه صلى الله عليه وآله وسلم - طلب الثأر، وصحب الرجل منهم قاتل ابنه وأبيه وأعدى الناس له، صحبةَ الإخوة المتحابين دون خوف يجمعهم، ولا رياسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم، ولا مال يتعجَّلونه.

وقد علِم الناس كيف كانت سيرةُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وليس يغيب عنك أنَّ جمهور أتباعه غرباء من غير قومه، لم يُمنِّهم بدنيا ولا وعدهم بملك، بل بايعهم على ألا ينازعوا الأمرَ أهلَه، وأن يوطِّنوا أنفسهم على الأَثَرة عليهم، ولم يفعل ذلك لأقاربه أنفسهم، ولا ترك لهم ميراثا يُورث عنه. (وهذا لا ينكره أحدٌ من النَّاس).

وخلاصة القول: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يشغله ظاهرٌ عن باطن، ولا إصلاح الدنيا عن إصلاح الآخرة، ولا ما يهمُّ النفوس والأبدان عما يمتِّع الأرواحَ والأسرار، ولا موجبات الغضب عن استعمال الحكمة (ولا غرو فهو ينظر في الأشياء بنظر الله تعالى فسِيَّان حربه وسلمه).

ثم انظر بعد ذلك إلى ما جاء به من مجامع السعادة للفرد والمجتمع، فتراه أوصاك بخاصَّتِك من أهل بيتك وأقاربك، ثم أوصاك بجيرانك والأباعدِ عنك، ثمَّ على المسلمين وأهل الذمَّة، ثم أوصى الرئيس أن يرحمَ المرؤوس، والمرؤوس أن يُطيعَ الرئيس. 

ومما ينبغي أن نعرفه من حكمته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يستعمل الشدة في موضعها والرحمة في موضعها، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم متخلق بأخلاق الله القائل: (سبقت رحمتي غضي). إلى غير ذلك مما ينبغي أن يوضع فيه كتاب مخصوص. 

وهذه أنظار واسعة لايتأتى في العادة أن يحيط بها إنسان، وحكمة عالية تضع الأشياء في مواضعها بموازين القسط الدقيقة، وأكثر الحكماء إن أصابوا التشريع لم يمكنهم استعمال الحكمة ولا القدرة عليها عند التنفيذ والتطبيق، فقلَّما يطابق العلم العمل، وقلَّما يطابق العمل الصواب، وقلَّما يستطيع الإنسان الضغط على نفسه في ظروف كثيرة، وقلَّما ينجو العقل من تلبيس الهوى وجهل النفس وسلطان الشهوة التي تزيِّن القبيح حتى تغطي العقل بغطاء كثيف لا يكاد ينفذ منه بصره إلى الحقيقة (حبك الشيء يعمي ويصم)، وإذا لا يستمد العقل إلا من العاطفة، وتكون هي المسيطرة عليه المملية له، فلا ينظر إلا بعينها ولا يسمع إلا بأذنها. ولديك أرباب العواطف من الأحزاب المختلفة في الدين والدنيا.

وبالجملة فسيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمن تدبَّرها تقضي بتصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته عليه السلام لكفى. فإنَّه صلى الله عليه وآله وسلم نشأ في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد إلا خرجتين: إحداها إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ثم رجع؛ والأخرى أيضاً إلى أول أرض الشام ولم يطل بها البقاء، بل رجع بشهادة حبر من أحبار أهل الكتاب بنبوته عليه السلام وهو بحيرا الراهب، وحبر آخر وهو نسطورا الراهب كما هو معروف.

وناهيك ما وصلت اليه أمته بفضل تلك التربية، حتى إنها في أقل من عشر سنين بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فتحت أعظم ممالك الأرض إذ ذاك (مملكة الفرس ومملكة الرومان). 

وفي أقل من قرن وصلت من آسيا إلى الهند والصين، ومن إفريقيا إلى أرض مراكش ثم تخطتها إلى أوربا فأسست بها تلك المملكة الفيحاء (مملكة الأندلس)، ووصلت إلى بُردو من أرض فرنسا، إلى غير ذلك مما دهش له التاريخ وعجب له فلاسفة أوربا، وكل ذلك بفضل تلك التربية النبويَّة الحكيمة.

يتبع...

المصدر: مجلة الأزهر المجلد الثامن ربيع الأول 1356 الجزء الثالث

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين