ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (3)

ودخلنا المدينة العتيقة من جهة الشمال خلال سؤرها الذي أقامه السلطان سليمان القانوني، دخلناها متسلِّين عن الحظوظ والأماني، وآسين لأثر من آل عثمان دارس، يبدي صلابة وتجلدا وعليه كلكل من كلاكل الدهر مُرسي، ومررنا بدروب ضيقة وأزقة محصورة غارقة في العتاقة والقدم، على حافتيها دكاكين ومحلات لبيع الأطعمة والحلويات والأشربة والملابس، وغيرها من الحوائج والأغراض المعيشية، متصورين أن القدس لم تزل منذ سالف الدهر محط أنظار العالمين، ومرمى أطماع الملوك والغزاة الفاتحين، خائضة الخطوب التوالي والنكبات المتعاقبة، وهي خطوب عوادٍ مدلهمات، ونكبات تشيب لها نواصي الزمان.

إنها مدينة تضم روائع المدن، وبلدة تمثل أعاجيب البلدان، وإنها لاختزال للعالم كله، قال فيها تميم البرغوثي:

في القدس أعمدةُ الرُّخامِ الداكناتُ

كأنَّ تعريقَ الرُّخامِ دخانْ

ونوافذٌ تعلو المساجدَ والكنائس

أَمْسَكَتْ بيدِ الصُباحِ تُرِيهِ كيفَ النقشُ بالألوان

في القدس رائحةٌ تُلَخِّصُ بابلاً والهندَ في دكانِ عطارٍ بخانِ الزيتْ

واللهِ رائحةٌ لها لغةٌ سَتَفْهَمُها إذا أصْغَيتْ

في القدس يرتاحُ التناقضُ، والعجائبُ ليسَ ينكرُها العِبادُ

كأنها قِطَعُ القِمَاشِ يُقَلِّبُونَ قَدِيمها وَجَدِيدَها

والمعجزاتُ هناكَ تُلْمَسُ باليَدَيْنْ

في القدس لو صافحتَ شيخاً أو لمستَ بنايةً

لَوَجَدْتَ منقوشاً على كَفَّيكَ نَصَّ قصيدَةٍ

يا بْنَ الكرامِ أو اثْنَتَيْنْ

وإني لفي رؤيا لذيذة تراودني أشباحها، غائبا عن الزمن الذي أنا فيه، والناس حولي سائلون عني، ويا ليتهم لم يسألوا، أفلا يدرون كيف المشغوف المتيَّم والمولَّه الهائم، إني لفي حلم أطْبَقَ على الشكوك والأوهام عيني، وفي أمان غيَّرن أخيلتي وظنوني، إذ نبّهني صوت زيد أننا أمام باب حطة، والمسجد الأقصى محاط بسؤر قديم له أبواب، وباب حطة من أقدمها وأشهرها، واقعا على السؤر الشمالي بين بابي الأسباط والفيصل، يرجع بناؤه الحالي إلى عهد السلطان الأيوبي الملك المعظم شرف الدين عيسى سنة سبع عشرة وستمائة من الهجرة، ولعل اسم حطة مأخوذ من الآية القرآنية (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة).

وأدهشتني رؤية جنود من العلوج مدججة بالأسلحة على ظاهر الباب، وحرس من السلطة الفلسطينية في ملابس عادية في باطنه، وهم يفتشون كل داخل وخارج تفتيشا فيه عنف ومضايقة وفتك وقسوة، فاستغربنا تبارز الشوكة والطاقة على مدخل أرض طاهرة مقدسة تؤوي العابدين الصالحين وتلجئ المذعورين الخائفين، وقلنا: في أوربا والهند وعامة بلاد العالم ملايين من المساجد والكنائس والمعابد لا حارس عليها ولا شرطي ولا جندي، فما تكتل هؤلاء المتعجرفين على أبواب المسجد الأقصى إلا غطرسة وترفعًا على الفلسطينيين، واستكبارًا في الأرض وتظاهرًا بالقوة، وإهانة للمصلين والعُبَّاد والزائرين، وكأن الزمان أصبح محمولا هواه مع الأخساء الأرذال والهجان الأنذال، أو لم يُنبَّأوا أن الأقصى له إلف، وليس لهم إلاف، فما أصبر المسجد الأقصى على صحبة هؤلاء الذين لا يربط بينه وبينهم إلا التواحش والتنافر، وأصعب خطة وأجلُّ أمر على الإثال الكرام مجالسة الأوغاد اللئام.

دخلنا ساحة المسجد، وهي ساحة واسعة فسيحة تشمل المسجد القبلي (والذي يسميه العامة المسجد الأقصى)، وقبة الصخرة ومعالم أخرى، تبلغ مساحتها 144 دونما، ويقع المسجد الأقصى بمعالمه فوق هضبة صغيرة تسمى "هضبة موريا"، وتعد الصخرة أعلى نقطة فيه، وتقع في قلبه، ومشينا وعلى يميننا ويسارنا قباب جميلة تعد من أبرز معالم المسجد وأروع التحف الإسلامية الخالدة، وهي خمس عشرة قبة، وعاينَّا مدارس للرجال والنساء تنتشر في الرواقين الشمالي والغربي، وبعضها تمتد خارج سور المسجد.

انطلقنا حتى وقفنا أمام قبة الصخرة، فبهرتنا بروعتها وجمالها، مالئة للعيون جليلة القدر في الصدور، وطمحنا أن ندخلها، فمُنعنا، لأنها تستعمل في شهر رمضان مصلى للنساء، بينما يصلي الرجال في المسجد القبلي، فانضوت النساء اللاتي معنا إلى قبة الصخرة يصلين فيها، ومضينا نحن الرجال تجاه المسجد القبلي، وانتهينا إلى مصلاه متخيلين جموعا من الأنبياء والصالحين عاكفين فيه وراكعين ساجدين، لابسين نور الهدى يبدو عليهم ويظهر، وماشين مشية خاشع متواضع لله لا يزهى ولا يتكبر، وهذه أول صلاة نؤديها في البقعة التي بارك الله حولها، يرنو إليها الناظرون، فأصابع تومئ إليها، وعيون تقرَّ بها، صلينا جماعة وقلوبنا إلى ربها منيبة، ولعظمته وجلاله وكبريائه خاشعة، ووجدنا سجداتنا التي فزنا بها من أنعم الله التي لا تكفر، فحمدنا الله عز وجل على هذا التوفيق، وعلى هذه الأيادي التي تتضاءل أمامها زخارف الحياة الدنيا وزينتها من الذهب والفضة ومتاعها الزائل، فيا حبذا من هدي إلى صراط مستقيم، وإلى اقتفاء آثار عباد الله الأتقياء الصادقين.

لما انتهينا من الصلاة عُدنا من طريق الصخرة، واتصل زيد ونحن على مدارج بابها بفضيلة الشيخ يوسف أبي سنينة إمام المسجد الأقصى على الهاتف، فسلمت على الشيخ ورحب بوصولنا في سلام وأمان، ووعدنا باللقاء بعد صلاة العشاء، ثم تجمَّعنا نحن المتزاملين بجانب الصخرة بوجوه مبتهجة مبتسمة، وقلوب تملؤها السعادة ويغمرها شعور غريب، شعور مزيج من الاصطفاء وتحمل المسؤولية، ممتنين بما أكرمنا الله تعالى بأن نتنفس في هذا الجو المبارك الذي يغبطنا الملائكة عليه، ومعترفين بضعفنا أمام الواجب الذي يلقيه هذا الاصطفاء على كواهلنا، واجب حمل الأمانة وأداء الرسالة، ومتضرعين إلى ربنا أن يرضى عنا ويجعلنا ساعين لرضاه.

وأصغت آذاننا إلى آيات الكتاب الحكيم يتلوها بعض القراء في المسجد الأقصى بصوت جهوري جميل على مكبر الصوت، وهذه عادة مستمرة هنا كل يوم في رمضان بعد صلاة العصر، وخرجنا من باب حطة سالكي تلك الأزقة التي سرعان ما أنسنا بها وأنست بنا، فهي ممرنا في كل صلاة وفي كل زيارة للمسجد، وكأننا تربينا في أحضانها ونشأنا في أكنافها، وكأنها أمينة لذكريات طفولاتنا البريئة، وكأن كل ركن من أركانها يحكي قصصًا من ماضينا، وكأن كل حجرة من أحجارها معاهد لنا تروي أخبار مرحنا ولهونا وجدنا وهزلنا، مزعجين بالفراق عن أنس إلف عز أو مرهقين بتطليق عرس.

فَقُلْتُ لنفســي رُبما هِيَ نِعْمَةٌ

فماذا تَرَى في القدسِ حينَ تَزُورُها

تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ

إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها

وما كلُّ نفسٍ حينَ تَلْقَى حَبِيبَها تُـسَرُّ

ولا كُلُّ الغـِيابِ يُضِيرُها

فإن سـرَّها قبلَ الفِراقِ لِقاؤُه

فليسَ بمأمـونٍ عليها سـرُورُها

متى تُبْصِرِ القدسَ العتيقةَ مَرَّةً

فسوفَ تراها العَيْنُ حَيْثُ تُدِيرُها

طلعنا من سؤر المدينة صاعدين إلى شارع صلاح الدين، وإنه لمن أدنى وفاء هذه المدينة ببطلها المنقذ لها من براثن الهمجيين الذين عاثوا فيها فسادا وسفكوا الدماء وهتكوا الأعراض والحرمات، هو الفارس النبيل، البطل الشجاع، الملك الناصر، القائد الموفق أبو المظفر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذي (532-589هـ)، قضى على الفاطميين في مصر، وحرر القدس ومعظم أراضي فلسطين من الصليبيين بعد أن هزمهم هزيمة منكرة في معركة حطين سنة 583هـ، وأسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن تحت الخلافة العباسية.

تجولنا في شارع صلاح الدين وصرفنا بعض النقود، واشترينا ما اشتهينا من المآكل والمشارب، ثم رجعنا إلى الفندق واسترحنا فيه استراحة لم تطل، ونزلنا حوالي الساعة السابعة آمِّين مع زيد المسجد الأقصى لصلاة المغرب، وانقطعت أهلي وبناتي إلى حشود النساء في قبة الصخرة، وهبطتُ أنا وزيد إلى المسجد القبلي، ورأينا موائد الإفطار مبسوطة في باحات المسجد، والصائمون جلوس حولها، والموائد تتنوع في مآكلها ومشاربها حسب المتبرعين بها والمنظمين لها، وهي تشترك في أنواع التمور، وعلب الماء، ولبن الزبادي، والدجاج المشوي، والخبز والأرز، وتألمتُ لما شاهدت من قلة التزام بترتيب أو نظام من الصائمين، متهافتين على الموائد تهافتًا لا يليق بسكان هذه الأراضي المقدسة، ولعل ذلك يرجع إلى ما يكابده أهلها من حصار عليهم وفقر فتاك وعوز في المعيشة، ندعو الله عز وجل أن يوسع عليهم وعلينا أجمعين من فضله ورحمته، وتوسَّم المنظمون أننا غرباء فتواضعوا لنا بحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، ولما علا صوت الأذان سمينا الله تعالى مرددين كلمات حمد وثناء ودعوات، وأفطرنا على التمور والماء والعصير واللبن، وقارنَّا بين أجواء رمضان في بلادنا وأجواء رمضان في المسجد الأقصى، ففي بلادنا وإن كان رمضان مزيجًا من الألفة والتقارب، إلا أن هنا من الروحانية والخشوع ما لا يوصف، وأجواء نورانية لا يشاهدها الصائمون إلا في الحرمين الشريفين، وكلما تنفس المسلم في هذا الجو الرمضاني الروحاني المبارك رمى بهموم الحياة وأحزانها جانبًا متعلقًا بالله عز وجل مختلطًا بعباده الصالحين ومواكبًا للملائكة المقربين.

وبعد الإفطار نهضنا إلى المسجد القبلي، وصلينا فيه المغرب جماعة، وصلينا ركعتين للسنة، ثم أسرعنا إلى الفندق حيث نتعشى ونستريح قبل أن نعود إلى المسجد للعشاء والتراويح، دخلنا مطعم الفندق، والتقطنا أنواعًا مختلفة من الطعام من اللحم والخضار والبطاطس المقلي والرز والخبز على الأطباق وأخذنا مقاعدنا، ولم نلبث أن وجدنا المكان ازدحم بالنزلاء وقد ملأوا أطباقهم بالأطعمة العربية الشهية جالسين حول موائد مختلفة سعداء بالفرحة التي وعدها الرحمن للصائمين، وقد استأنسوا للحديث استئناسًا معجبين بقدسية المكان، وروحانية الرحلة، وفرحين بصفاء قلوبهم، بابتعادها عن الحياة المادية الطاغية.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين