ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (2)

 

شاء إلا ما أفطرنا عليه في الطائرة من تمرات وماء، ووصلنا إلى القدس وقد أُصبنا بشيء من الجوع وغير يسير من التعب، فلما أوينا إلى غرفتنا حاطِّي رحالنا وواضعي أمتعتنا وأغراضنا مرتَّبةً اضطجعنا على فرشنا ندفع عنا الإرهاق والنصب ونهدئ أعصابنا ونرد الأفكار إلى صوابها، ونزلنا في الساعة الثانية إلى ردهة الفندق لنتناول السحور، فإذا باب المطعم مغلق، ولم يفتح إلا بعد الساعة الثانية والنصف، فلما دخلنا صالة الطعام وجدناها على طراز عامة مطاعم البوفيه متميزة بتزيينات مقدسية، فيها أجناس من المأكولات العربية للسحور من الخبز وأنواع الجبن واللبن والبيض والخيار والطماطم، وأشربة من الماء البارد والليمون والبرتقال والشاي، وحلوى من السمسم، ولكنا زهدنا في تلك الأجناس والأنواع مقتصرين على وجبات خفيفة، ورجعنا إلى غرفتنا، واستلقينا مقيمي ظهورنا ومادي أرجلنا.

وصوت أذان المسجد الأقصى مسموع في الفندق، وعند الصبح هنا أذانان على غرار الحرمين الشريفين، الأول للسحور والقيام، والثاني لصلاة الفجر، ولما سمعنا الأذان الثاني في الساعة الرابعة صلينا الفجر في الغرفة، فإن زيدا نصح المعشر أن لا يؤموا المسجد الأقصى للصلاة إلا بعد أن يعطيهم الإرشادات الكاملة كيف يتعاملون مع رجال الأمن ويطبقون تعاليم الدخول في المسجد والتنقل بين الشوارع والطرقات.

بعد صلاة الفجر أخذنا في سبات عميق مديد، ولم أنهض إلا في الساعة العاشرة والنصف وقد ذهب عني التعب والإعياء، فاغتسلت وصليت ركعتين، وتلوت ما تيسر لي من كتاب الله تعالى، ونزلت بناتي إلى غرفتي، فسألتُ فاطمة وعائشة أن تعيدا دروسهما للغة العربية وتجتهدا استعدادًا للامتحان، وموعده بعد رجوعنا إلى المملكة المتحدة، وشرعتُ في دبج مذكراتي.

وحوالي الساعة الواحدة إلا الثلث سمعنا أذان الظهر من المسجد الأقصى، وصلينا، واحتشدنا في صالة الطعام حيث يعقد اجتماع في الساعة الثالثة للتعارف واللقاء وبيان ما يلزم الانتباه إليه خلال الإقامة في القدس، قدّم زيد نفسه للحضور وعرّف بنفسه أميرا لهم، وأشار عليهم بما يحتاجون إليه من توجيهات وتوصيات، مشددا على تحتم الالتزام بها، ووجوب الاستماع إلى كلمة الأمير، وأن لا يتصرف أحد بما يوقعه أو غيره في حرج أو صعوبة، ومحذرا من مآل مثل هذا التصرف والذي قد يعقب إكباح مشروع الزيارة بتاتا.

وبعد ذلك ألقيتُ كلمةً حمدت الله تعالى فيها على أن أنعم علينا بزيارة هذه الأراضي المقدسة، سائلا إياه أن يوفقنا للشكر على نعمه والقيام بحقها، وأن لا نضيع أوقاتنا، ونبذل ما في وسعنا مستزيدين من الإيمان والعلم والعمل، ومقتدين بهدى الأنبياء والمرسلين، وساعين للتزلف إلى الله تعالى وابتغاء طاعته، ثم ذكّرتُ أصحابي أن الانتفاع الكامل بهذه الزيارة يتوقف على التقيد بالتعاليم والإرشادات التي شرحها صاحبنا زيد، وأن نلزم أنفسنا إطاعة الأمير، وسردت بهذه المناسبة بعض ما ورد من الآيات والأحاديث في وجوب طاعة الأمير وفضلها، وأثبتُّ أن الأمير إذا نهى عن الصلاة في المسجد الأقصى وأمر بإقامة الصلاة جماعة في الفندق، فمن أطاعه وصلى في موضه خير ممن عصاه وتجشم الخطى إلى المسجد، حتى إن من كان في مكة المكرمة وأطاع الأمير وصلى في الموضع الذي أمر بالصلاة فيه خير ممن عصى وخالف إلى المسجد الحرام، وذكرتُ أن من أهم الأسباب التي يرجع إليها تخلفنا نحن المسلمين في عامة مجالات الحياة وفشلنا هو عدم تنظيم شؤوننا الدينية والدنيوية، وخلع ربقة الطاعة عن أعناقنا، والشذوذ عن الجماعة.

ثم ذكّرتهم بأهمية المسجد الأقصى وفضله وبركته، وقلت: إن من سنة الله تعالى في كل ما خلق وأمر تفضيل الأشياء بعضها على بعض، فعدَّد الشهور، ورجَّح رمضان على سائرها، وأنشأ الأيام والليالي وقدّم عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وأرسل الأنبياء والمرسلين وفضّل بعضهم على بعض، وخلق الأرض واختار بعض بقاعها على ما دونها.

وقرأت لهم سورة التين، ولخّصت معانيها (وسيأتي بيان تلك المعاني في موعظتي على جبل التين)، واستلفتُّ أنظارهم إلى أن الله تعالى فضّل الجزيرة العربية، والشام، ومصر، والعراق على غيرها من البلدان، وهي البقاع التي سكنها إبراهيم الخليل عليه السلام وهاجر إليها وطاف في أنحائها ومشى في طرقها، وذلك لوعد الله الذي ذكره في قوله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين)، فاستمرت الإمامة في ذرية إبراهيم عليه السلام ممن ليسوا من الظالمين، وممن استوطنوا تلك الأراضي المقدسة، وأمر الله تعالى من خَلَفه من الأنبياء والمرسلين وسائر الناس أن يتبعوه، حتى إن سيد المرسلين وخاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم أُمِر باتباعه، وذلك في قوله تعالى (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين).

وما كان اختيار إبراهيم عليه السلام لهذه الإمامة إلا لما ابتلاه الله في كلمات فأتمهن، ولا يفضل الله أحدًا على غيره إلا بعد الابتلاء، ومن ثم كان الصبر في الشدائد والحلم عن سفاسف الأمور مع إحسان النية في إعمال الفكر والعقل والسعي والعمل من أسس الإحسان، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين، ومن عاش الرفاهية واليسر من غير تضحية ولا ابتلاء فلا قيمة لحياته، والناس في زماننا هذا مولعون بحياة البذخ والتنعم، فهم سائرون على درب الخيبة والفشل، وإخماد قدراتهم وطاقاتهم التي أودعهم الله تعالى إياها.

وذكرتُ لهم أن إبراهيم عليه السلام لم يخرج من ابتلاء إلا إلى آخر أشد منه، فهو دائم السير والترحال، لا يعرف مكثًا ولا إقامة، ولا يألف دعة ولا راحة، وهو كما يقول الشاعر المسلم الدكتور محمد إقبال: "إن منزل المسلم وراء السماء الزرقاء، فأنت مساير للركب الذي يخلِّف وراءه النجوم والكواكب غبرة وقتاما في طريقه". والمسلم أغلى من كل شيء في الكون، لا يشترى بأي ثمن مهما ارتفع وعلا، وهو كما يقول أمير شعراء الهند خسرو: "قُلتَ: ثمنك الذي تُشترى به يعدِل العالَمَين: عالم الدنيا والآخرة، ارفع سعرك، فإنك لا تزال رخيصًا".

وكانت الكلمة طافحة بالحماس، ومستثيرة للعواطف والهمم، حتى استعبر بعض الحضور ودمعت عيونهم، ورقَّت قلوبهم، وسمت نفوسهم، وبدت آثار الفكر والطموح لامعة على محياهم وغررهم، أبلغتُهم فيها غاية نصحي واجتهدت فيها بوافر عقلي وتام نظرى ومنتهى علمي، مع أنه ليس المنصوح بأجدر بالرشد من الناصح، ولا الآمر بالخير بأحق به من المطيع له، فبارك الله في هذه الكلمة، ووهبنا نطقا مؤيدا بالحجة، وإصابة ذائدة عن الزيغ، وعزيمة قاهرة هوى النفس، وبصيرة ندرك بها الهدى والتقى، واستقامة على طريق الحق ورضا المولى.

وانتهى المجلس حوالي الساعة الرابعة، فاتجهنا إلى المسجد الأقصى متوزعين على زمر وأمراء، قد علم كل أناس فئتهم، والتي لحقت بها مع أهلي وبناتي يقدُمها زيد، وقد سبقت له زيارات لهذه الديار، فحبانا من معرفته وبصره، وسمى لنا الشوارع والمحلات، ونحن على شارع هارون الرشيد في طريقنا إلى المسجد، وذكر أن الشارع الذي هو على يمين الخارج من شارعنا: شارع صلاح الدين، وهو شارع معروف في القدس، فينبغي للجميع أن يحفظوه تذكيرا لهم بموضع إقامتهم وتجنيبا لهم من أن يضلوا أو يتيهوا تيها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين