ثالث الحرمين الشريفين (3)

ونجده يصف جوانب من تلك الحياة العلمية والنقاشات الدائرة في مجالسها بين المنتسبين إلى المدارس الفقهية؛ فيقول في قصة تعبِّر عن أريحية علمية قلَّ نظيرها فيما بعدُ، ورواها في كتابه ‘العواصم من القواصم‘ قائلا: "لقد كنتُ يوما جالسا بمدرسة الشافعي بـ”باب الأسباب“ في المسجد الأقصى، وقد انعقد على الطوائف -من الشافعية والحنفية- وهم في مجلس النظر (= المناظرة الفقهية)، فإذا سائلٌ قد وقف علينا، وخاطب صاحب المدرسة القاضي الرشيد يحيى بن مفرِّج المقدسي (ت بعد 488هـ/1095م) وكان أسَنَّ أصحاب نصر (بن إبراهيم المقدسي ت 490هـ/1097م)، فقال له: حلفتُ بالطلاق ثلاثا من امرأتي ألا آكل جوزا ثم أكلتها ناسيا [فماذا عليَّ]؟ فنظر إليهم [القاضي] وقال: ما تقولون؟ فقالت الحنفية عن بكرة أبيها: يحنث! واختلف قول الشافعية فيها؛ فتبسم القاضي الرشيد وقال له: اذهب، لا شيء عليك"!!وكان انتظام الدراسة في الأقصى قويا في جميع الأوقات بما فيها تلك التي كانت تشهد اضطرابا أمنيا في مدينته المقدسة؛ وفي ذلك أيضا يقول ابن العربي في تفسيره ‘أحكام القرآن‘: "ورأيتُ فيه (= بيت المقدس) غريبةَ الدهر؛ وذلك أن ثائرا ثار به على واليه وامتنع فيه بالقوت، فحصره [الوالي] وحاول قتاله بالنشاب مدة، والبلد -على صغره- مستمر على حاله..، ولا بَرَزَ للحال من المسجد الأقصى معتكف، ولا انقطعت مناظرة، ولا بطل التدريس، وإنما كانت العسكرية قد تفرقت فرقتين يقتتلون"!!كما يخبرنا ابن الجوزيّ -في ‘المنتظم‘- عن مرحلة مهمة من الحياة العلمية والصوفية للإمام أبي حامد الغزاليّ (ت 505هـ/1111م) قضاها في جنبات الأقصى؛ فيقول إنه خرج "من بغداد متوجها إلى بيت المقدس تاركا لتدريس النظامية! زاهدا في الدنيا..، ثم رجع إلى بلده وقد صنف كتاب ‘الإحياء‘ في هذه المدة".بل إنه نُسب إلى الغزالي موضعٌ بالقدس مارس فيه التدريس والتربية؛ فقد قال العُليمي إنه "انتقل إلى بيت المقدس مجتهدا في العبادة والطاعة، وزيارة المشاهد والمواضع العظيمة، وأخذ في التصانيف المشهورة ببيت المقدس، فيقال: إنه صنَّف في القدس [كتابه]: ‘إحياء علوم الدين‘، وأقام بالزاوية التي على باب الرحمة المعروفة قبل ذلك بـ‘الناصرية‘ شرقي بيت المقدس، فسُميت بالغزالية نسبةً إليه".وإذا كانت رواية العليمي تقدّم الأقصى باعتباره مهد ولادة أهم كتب الإمام الغزالي، وأكثرها تأثيرا في تاريخ المسلمين العلمي والتربوي؛ فإننا نجد أن الأقصى كان أيضا منطلقا لنشر أحد أهم المذاهب الفقهية الباقية، وهو المذهب الحنبلي الذي وصل من العراق إلى الشام -في النصف الثاني مع القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي- بواسطة الإمام عبد الواحد الشيرازي (ت 486هـ/1093م)، الذي "قَدِم الشام فسكن ببيت المقدس فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، ثم أقام بدمشق فنشر المذهب وتخرج به الأصحاب"؛ حسب ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘.مدارس منوعة

لعل الأقصى كان كذلك المحضن الشامي الأول للمدارس الفقهية بمعناها المؤسسي؛ كما نراه في "المدرسة الصلاحية" التي لم تكن حقيقة من تأسيس صلاح الدين الأيوبي، بدليل ورود ذكرها في النص المتقدم لابن العربي باسم "المدرسة الشافعية"، وذلك قبل عصر صلاح الدين بقرن كامل!وفي أحد النصوص النادرة في رصدها لنشأة الوقف التعليمي الشخصي وخاصة في القدس؛ يفيدنا ابن العربي -في ‘سراج المريدين‘- بأن الإمام نصر بن إبراهيم المقدسي -المتقدم ذكْره- رصَد وقفاً بالقدس لهذه المدرسة؛ إذْ كانت له داران "فحبس إحدى داريه على الطلبة مع معظم ماله، وجعل النظر فيها إلى يحيى بن مفرج شيخ أصحابه، وشرط أن نصيبه منها كأنصبائهم".أما ابن واصل الحموي (ت 696هـ/1297م) فيقول -في ‘مفرِّج الكروب‘- إن هذه "المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بـ”صند حنه” (= سانت حنة/القديسة حنة) يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم عليها السلام، ثم صارت في الإسلام ”دار علم” قبل أن يملك الفرنج القدس".ثم تحدث الحموي عن التقلبات التاريخية التي مرت بها هذه المدرسة؛ فقال إنه "كان يدرس بها العَلَم الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي قُبيل أخذ الفرنج للقدس، ثم لما ملك الفرنج القدس سنة اثنين وتسعين وأربعمئة (492هـ/1099م) أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان [صلاح الدين] القدس أعادها مدرسة [للشافعية] ووقف عليها وُقوفا (= أوقافاً) جليلة، وفوّض تدريسها ووقْفَها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد الموصلي (ت 632هـ/1234م)، وتولاها [بعده] جماعة من الفقهاء".ولم تلبث "المدرسة الصلاحيّة" أن تحوّلت منارةً علميّة على مستوى العالم الإسلاميّ، حين أصبحت أهم الروافع العلمية المقدسية للحياة العلمية بأروقة المسجد الأقصى. وفي عهد الدولة المملوكية كانت مشيختُها تُعيَّن بمرسومٍ من السلطان بالقاهرة، وبذلك أضحت "وظيفة مشيختها من الوظائف السَّنِية (= الرفيعة) بمملكة الإسلام"؛ حسب العُليمي.تولى مشيخة "المدرسة الصلاحيّة" عبر الزمان قومٌ من أكابر الفقهاء والمحدثين ومشاهيرهم، وتفيد قصة أوردها ابن شاهين المَلَطيّ (ت 920هـ/1514م) -في ‘نيل الأمل‘ ضمن وقائع سنة 842هـ/1438م- أن العادة جرت بأن يستمرُّ شيخ "المدرسة الصلاحيّة" في منصبه حتى وفاته؛ كما هو العرف اليوم في منصب "مشيخة الأزهر" بمصر.

احتفاء رسمي

وبعد المدرسة الصلاحية في الأهمية العلمية والمكانة المحورية في رفْد الحياة العلمية بأروقة الأقصى؛ تأتي "المدرسة الأشرفية" التي بناها السلطان المملوكي الأشرف قايِتْباي (ت 901هـ/1495م) سنة 887هـ/1482م، وكانت آية في الجمال وحسن البناء "في المسجد الأقصى الشريف وهي آخر مدرسة بنيت فيه" حتى مطلع القرن العاشر الهجري/الـ16 الميلادي؛ طبقا للعليمي.وقد أفاض العُليميّ في وصف بنائها ومحاسنها، ثم قال: "ومن أعظم محاسنها كونها في هذه البقعة الشريفة، ولو بُنيت في غير هذا المحل لم يكن عليها الرونق الموجود عليها ببنائها [فيه]، فإن الناس كانوا يقولون قديما: مسجد بيت المقدس به جوهرتان هما: قبة الجامع الأقصى وقبة الصخرة الشريفة؛ قلتُ (= العليمي): وهذه المدرسة صارت جوهرة ثالثة، فإنها من العجائب في حسن المنظر ولطف الهيئة"!! وكلمة العُليمي هذه بديعة جدًّا، مؤدّاها: إن كل جميل هو في القدس أجمل!وكان أمر مشيخة "المدرسة الأشرفية" بيد السلطان الذي أسسها، فكان يرسل مبعوثين رسميين رفيعي المستوى لمطالعة حسن سيرها؛ إذْ يفيدنا المَلَطي بأنه في سنة 890هـ/1485م "قرّر في مشيخة مدرسة السلطان بالبيت المقدس العلاّمة الكمال ابن أبي شريف (ت 906هـ/1500م)، وعُيّن [قاضي القاهرة] أبو البقاء الجيعان (ت 930هـ/1524م)، و[الأمير] جان بلاط (ت 906هـ/1500م) للسفر إلى القدس لأجل تقرير أحوال المدرسة المذكورة وعمل مصالحها"!يُعرِّف العُليمي -في ‘الأنس الجليل‘- بنحو أربعين مدرسة أقيمت في محيط المسجد الأقصى الملاصق له، سوى المدارس المقدسية الأخرى غير المجاورة له. ورغم أن المدرستين الكبرييْن السابقتين (الصلاحية والأشرفية) كانتا شافعيتيْ المذهب، انسجاما مع الانتماء المذهبي الرسمي لسلاطين الدولة الأيوبية ثم المملوكية؛ فإنه كان للمذاهب الأخرى حضورُها العلمي في أروقة المسجد الأقصى، وأنشئت مدارسُها المذهبية في أكنافه المقدسية.فقد كان لأصحاب المذهب الحنفي "المدرسة المعظَّمية"، التي تُنسب إلى واقفها أحدِ السلاطين الأيوبيين كان من فئة العلماء الأمراء؛ وهو ملِك دمشق العالِم: المعظَّم عيسى ابن العادل (ت 624هـ/1227م) الذي فضّل ألا يأخذ النسخة المذهبية ذاتها التي كان ينتمي إليها أبناء بيته الأيوبي، وهي المذهب الشافعي؛ بل اختار أن يكون فقيها حنفيا متبحرا في مذهبه "حتى تأهَّل للفتيا" فيه رغم أعباء السلطة؛ طبقا للذهبي في ‘السِّيَر‘.وقد حدد لنا العليمي المكان الذي كانت تقع فيه "المدرسة المعظمية" وتاريخ إنشائها؛ فقال إنها أقيمت "مقابل باب شرف الأنبياء المعروف بباب الدَّوَادارية (يسمَّى اليوم باب العتم وباب الملك فيصل)، [وكان] تاريخ وقفها في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 606هـ‍ (= 1209م)".ريادة مستحقة

وترجم العُليمي لأساتذتها وخاصة من تولى منهم مشيختها؛ فذكر فيهم قاضي القضاة خير الدين خليل بن عيسى البابَرْتي الحنفي (ت 801هـ/1398م)، الذي وصفه بأنه "الإمام العلامة، كان من أهل العلم والدين قدم من بلاده واختار الإقامة ببيت المقدس، وولي قضاء القدس من الملك الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) في سنة 784هـ (= 1382م)، وهو أول من ولي قضاء الحنفية بالقدس الشريف بعد الفتح الصلاحي، ثم ولي تدريس المعظمية".أما المالكية، فكانت لهم "المدرسة الأفضلية"، وقد عرّف بها العُليمي قائلا: "المدرسة الأفضلية: وتُعرف قديما بحارة المغاربة، [وهي من] وقْف الملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي ابن الملك صلاح الدين (الأيوبي ت 622هـ/1225م)، وقَفَها على فقهاء المالكية بالقدس الشريف (نحو سنة 590هـ/1194م)، ووقف أيضا حارة المغاربة على طائفة المغاربة على اختلاف أجناسهم ذكورهم وإناثهم".ويبدو أن الملك الأفضل هذا كان أحد أفذاذ الأمراء العلماء المحبين لنشر العلم والدفاع عن المقدسات؛ ولذا جاء في ترجمته عند ابن واصل الحموي أنه "كان مستجمعا لفضائل ومناقب تفرقت في كثير من الملوك"! كما يذكر العُليمي أنه كان معروفا ببذله "أنواعا من البر والخير، ووضَع الأسلحة برسم المجاهدين في سبيل الله" للدفاع عن القدس والأقصى!!وللحنابلة مدرستهم التي كانت تُعرف باسمهم وأنشئت سنة 781هـ/1379م، وقد ذكرها العُليمي مبينا موقعها فقال: "المدرسة الحنبلية بباب الحديد [غربي الأقصى]، واقفها الأمير بَيْدَمُر (الخوارزمي ت بعد 781هـ/1379م) نائب الشام".ولعل من الطريف ذكر أن الشيخ الشافعيّ إبراهيم بن علي الإسْعَردي الصوفي الزاهد (ت 887هـ/1482م) تولَّى مشيخة هذه المدرسة الحنبلية رغم الاختلاف المذهبي بينهما؛ فقد ذكر العُليمي في ترجمته أنّه "قدم إلى بيت المقدس واستوطنه، وقرره الملك الظاهر جُقْمُق (ت 857هـ/1453م) في المدرسة الحنبلية بباب الحديد"!!وبالنظر إلى هذا التاريخ العلمي الزاهر الزاخر؛ لا نبالغ إن قلنا إن المكانة العلمية والروحية لمدارس المسجد الأقصى ومشيخاته، كانت تؤهلها لأن ترثها جامعةٌ حديثة عريقةٌ على غرار الأزهر والزيتونة والقرويين، لكن حال دون ذلك تسلّطُ المحتلين عليه منذ ثلاثينيات القرن الـ14 الهجري/بدايات القرن الـ20 الميلادي، وهي الفترة التي شهدت تأسيس الجامعات الحديثة في بلادنا.معتكَف دائم

كان من مظاهر عُلوّ مكانة القدس في قلوب المسلمين أن كثيرًا منهم اختارها موطنًا تاركا أهله وبلاده، وأقام مستأنسًا بجوار المسجد الأقصى المبارك طالبا للعلم، أو راغبا في التزكية، أو ناشرا لكليهما، أو مرابطا في ثغره للدفاع عنه؛ ولم يكن ذلك في الحقيقة إلا وجها آخر من أوجه الحياة العلمية فيه، فالعلم والتزكية صنوان متلازمان.فهذا الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1148م) يقول -في ‘سراج المريدين‘- واصفا هذه "العمارة الرباطية" لتلك الرحاب المباركة: "لقد عبدناه في المسجد الأقصى -طهره الله- ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال؛ مع أمم من العابدين والعاكفين والعالِمين، نحوا من ثلاثة آلاف معلومين، حصدتهم السيوفُ في غداة واحدة!! فأيُّ عيش بعدهم يطيب؟ أم أيُّ أمل يُسْتأنَف؟!".ويذكر -في ‘العواصم من القواصم‘- أنه حين سقطت القدس في أيدي القوات الصليبية "محت كلمة الإسلام عن المسجد الأقصى، وقتل فيه -في غداة الجمعة لاثنيْ عشر بقيت لشعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمئة- ثلاثة آلاف ما بين عابد وعالم، ذكر وأنثى، ومعتكف من مشهور الحالة ومذكور بالديانة، وفيها قتلت العالمة الشيرازية -بقبة السلسلة- في جملة النساء"!!وإذا كانت هذه الثلاثة آلاف مجاور إنما هي ممن ينطبق عليهم وصف "مشهور الحالة ومذكور بالديانة"؛ فكم سيكون عدد غيرهم من المجهولين والمغمورين ممن استشهدوا أو بقوا سالمين؟! ولذلك لا يُحصى عدد مَنْ ترجم لهم المؤرخون -وخاصة العُليمي في ‘الأنس الجليل‘- ممن آثروا سكنى القدس على بلادهم، فمكثوا بها حتى توفوا ودفنوا في مقبرتها الشهيرة المسمّاة "ماملّا".ويفيدنا ابن العربي أيضا بأبرز أماكن المرابطة في الأقصى التي كان هؤلاء العلماء والعباد يركنون إليها؛ فيقول: "وأما المسجد الأقصى فكان منهم (= المجاورين) مملوءا: كان بالسكينة (= باب السكينة)، وبمحراب زكرياء، وبباب التوبة والرحمة، وبمهد عيسى، وبقبة السلسلة، وبقبة النبي ﷺ، وبقبة جبريل عليه السلام، وبالصخرة المقدسة، وبمحراب داود، وبباب حطة، وبباب الأسباط؛ بكل واحد رجل عالم منقطع إلى الله، لم يخرج من المسجد منذ دخل إليه حتى استشهد به"!!رباطية صامدة

وكان العلماء يذكرون المُقام في بيت المقدس والمجاورة بالمسجد الأقصى ضمن مناقب العلماء وفضائل العُبّاد؛ فمثلا حين ترجم الإمام السخاوي (ت 902هـ/1496م) -في ‘الضوء اللامع‘- للعلامة نصر المغربي المالكي (ت 826هـ/1423م) نعته بأنه "نزيل بيت المقدس"، ويقول إنه "قدِمه (= القدس) من بلاده فأقام به قريبا من عشرين سنة على قدم التجرد والاشتغال بالعلوم والعبادة، قانعًا باليسير إلى أن مات ودفن هناك"، وكان موصوفًا "بالعلم والفضل والزهد".وقد يأتي أحدهم إلى القدس وهو شاب يطلب العلم فيستوطنها حتى يموت ويدفن فيها، ويكون له من المكانة والهيبة ما يجعلُ السلاطين والأمراء تزوره في بيته، ومن هؤلاء "الإمام القدوة الزاهد العابد.. أبو بكر بن علي.. الشيباني الموصلي.. الشافعي (ت 797هـ/1395م)..، قدم من الموصل وهو شاب وعلا ذكْرُه، وقد زاره السلطان برقوق في منزله بالأمينية بجوار سور المسجد الأقصى".وكما رأينا في شهادة القاضي ابن العربي المالكي؛ فإن طلب الجوار بالأقصى لم يكن مقتصرا على الرجال، بل كان مقصدا شائعا في الصالحات من النساء؛ ويفيدنا هو بوجود مئات المرابطات اللاتي كُنَّ منتظماتٍ في شبه "تنظيم رباطي" يتألف من زهاء ألف امرأة ويتبعن فيه لقيادة علمية نسوية واحدة، وقد تحولن إلى مدافعات شرسات عن الأقصى حين اقتحم ساحاته الصليبيون حتى استشهدن جميعا وهن صابرات صامدات!!يقول ابن العربي في ‘سراج المريدين‘: "لقد كان في بيت المقدس نسوة يُفْخَرُ بهنّ على الأزمنة؛ يَلْتَفِفْنَ على العالمة الشيرازية: فقيهة واعظة متعبدة متبتّلة؛ فلما دخل الروم بيت المقدس يوم الجمعة لاثنتيْ عشرة ليلة بقيت لشعبان من سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة (492هـ/1099م) لجأت بهن أجمعين إلى المسجد الأقصى، وجلسن في قبة السلسلة..، فلما غشيتهن الروم قمن إليهم بالسب ورمي التراب في وجوههن، فحصدوهن بالسيوف وأنزلوا بهن الحتوف. قال لي من عاين ذلك وهو في سطح المسجد الأقصى: كن قريبا من ألف امرأة"!!ولعل قائلًا يقول: لماذا يختارُ البلخيُّ أو المغربيّ أو المصريّ أو الشامي أو العراقي أن يأتي الواحد منهم من أقصى الأرض أو أدناها ليستقرّ في بيت المقدس بدلًا من المجاورة بمكة والمدينة، وهو سؤالٌ وجيه، يمكن أن نجد إجابته في عبارة ترد أحيانا في تراجم العلماء المجاورين، فتصف أحدهم بأنه جاور الأقصى "بنية الرّباط" للجهاد في أكنافه وصدّ الغزاة عنه.محن كبرى

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين