ثالث الحرمين الشريفين (2)

أما أهمّ معالم الأقصى العمرانية؛ فإنه إذا ذكُر المسجد الأقصى اليوم فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو صورة "مسجد قبة الصخرة" المشرّفة الأزرق ذي القبة الذهبية، إلا عند العامة من أهل القدس فإنهم تنصرفُ أذهانهم إلى "المسجد القِبليّ" ذي القبة الرصاصية. والحقيقة خلاف هذا وذاك؛ إذْ يقول العُلَيمي إن "المتعارَف عند الناس أن الأقصى -من جهة القبلة- الجامعُ المبني في صدر المسجد الذي به المنبر والمحراب الكبير، وحقيقة الحال أن الأقصى اسم لجميع المسجد مما دار عليه السور"!وهذا الذي قاله العُليمي هو المعتمد اليوم عند المتخصصين، وصار معروفًا لكثيرٍ من العامّة بسبب التوعية المتكررة به. وفيما يلي محاولةٌ لوصف أهمّ معالم المسجد الأقصى بين الأمس واليوم، بالاعتماد على الوصف البديع التفصيلي الذي أودعه العُلَيمي كتابه ‘الأنْس الجليل‘:1- المسجد القبلي: قال العُليمي في وصفه: "الجامع الذي هو في صدره (= صدر المسجد الأقصى) عند القبلة، الذي تقام فيه الجمعة، وهو المتعارف عند الناس أنه ”المسجد الأقصى”، يشتمل على بناء عظيم به قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة، وتحت القبة المنبر والمحراب"، وعلى القبة "رصاص من ظاهرها" كما هو شكلها حتى الآن، وما زال هذا البناء هو المسجد المركزيّ، وفيه منبر صلاح الدين/نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م) الذي عليه يقف الخطيب كل جمعة.2- مسجد قبة الصخرة: وهو المسجدُ مثمّن الأضلاع ذو القبة الذهبية الشهيرة، وقد سبق ذكْرُ أنّ عبد الملك أمر بصبّ مئات آلاف الدنانير عليها، فكانت ذهبيّة فعلا لا مطلية بالذهب فحسب. ولئن كانت الجمعة لا تُقام في مسجد قبة الصخرة فإنه فيه كان "يُصلَّى.. العيدُ والاستسقاء" في العصر القديم؛ وفقا للعُليمي.ويُفهم من كلام العُليمي وغيره أنه كان لمسجد قبة الصخرة إمام مستقلّ؛ فقد ترجم لغير واحدٍ بكونه "إمام مسجد الصخرة". أما الآن؛ فلا تُقام بمسجد الصخرة صلاة مستقلة، بل الصلاة فيه تبعٌ للصلاة في المسجد القبليّ، وعادةً تُصلي فيه النساء خصوصًا في الجُمَع والمواسم.3- قبة السلسلة: في المسجد الأقصى قبابٌ كثيرة سوى القُبّتين الشهيرتين، وكلها أصغر حجما منهما. وأشهرها "قبة السلسلة" التي وصفها العُليمي بأنها "قبة في غاية الظرف على عُمُد من رُخام"، وقد بُنيت لتكون مجسَّما مصغَّرا لقبة الصخرة قبل بنائها، ولذا فهي "على صفة قبة الصخرة"؛ وفق تعبير العُليمي.4- الأقصى القديم والمصلى المرواني: كلاهما يقع شرقيّ "المسجد القبلي"، أما "الأقصى القديم" فيقع تحت المسجد القبليّ من جهة المحراب، وإلى جواره يقع "المصلى المروانيّ". قال العُليمي: "وسُفْلَ (= أسفل) المسجدِ -من جهة القبلة- مكان كبير معقود (= مبنيّ)، وبه أسوار حاملة للسقف..، ويسمى هذا المكان السفلي “الأقصى القديم”..، وإلى جانب هذا المكان -أيضا سُفْلَ المسجد تحت الجهة التي بها الأشجار والزيتون- مكان عظيم معقود". وهذا المكان هو الذي يُعرف اليوم بـ"المصلى المروانيّ".5- حائط البراق: وهو السور الغربيّ للمسجد الأقصى المبارك، يقعُ فيه "باب المغاربة" الذي يُعتقد أن النبيّ ﷺ دخل منه المسجد الأقصى ليلة الإسراء "فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد"؛ طبقا لرواية الإمام ابن القيم (ت 752هـ/1351م) في ‘زاد المعاد‘. والسور الغربيّ للمسجد [حائط البراق] هو الذي يسميه الصهاينة اليوم "حائط المبكى".6- الأبواب: للمسجد الأقصى -سوى باب المغاربة- خمسة عشر بابا، بعضُها مفتوح والآخر مسدود. وأشهر الأبواب المفتوحة: "باب السلسلة" و"باب السكينة"، اللذان يقول عنهما العُليمي: "ومنهما يخرج إلى الشارع الأعظم..، وهما عُمدة أبواب المسجد، وغالب استطراق (= دخول) الناس إلى المسجد منهما"! ولا يزال هذا البابان على أهميتهما هذه، بل ازداد اعتماد الناس عليهما بعد إغلاق الاحتلال "باب المغاربة" منذ 1387هـ/1967م.7- القناطر: أما القناطر فهي أحدُ أهمّ معالم الجمال في صحن قبة الصخرة المشرّفة، وقد وصفها العُليمي بقوله: "الصحن مفروش بالبلاط الأبيض، ويُتوصّل إليه من عدة أماكن من صحن المسجد، كلّ مكان به سُلّم من حجر، وعلى رأس السلم قناطر (= أقواس) مرتفعة على عُمُد". وتُسمّى هذه القناطر في بعض الكتب "البوائك" جمع بائكة، وهي تحفة معمارية بديعة.8- المَساطب: واحدتها مَسْطبة، وهي أماكنُ مرتفعة عن الأرض بأقل من متر، ويُرتقى إليها بدرج وتُعقد فيها مجالسُ العلم عادة. وربما نظّمت فيها قديما الاجتماعاتُ العامة؛ فقد ذكر العُليمي نماذج لذلك كان أحدها حضوره اجتماعًا مهمًّا لكبار المسؤولين والعلماء عُقد "بالمسجد الأقصى على المسطبة الكائنة عند باب جامع المغاربة"، وذلك في ربيع الأول 879هـ/1474م لمناقشة مشكلة ثارت حينها بشأن "كنيسة اليهود بالقدس".حاضنة تربوية

إلى جانب العمارة الإنشائية والخدمية للمسجد الأقصى بمرافقه وملحقاته المتعددة؛ نجد نمطا آخر من العناية ذا صلة أكبر بالمكانة المقدسة لهذا المسجد الشريف، وهو ما يمكن تسميته بـ"العمارة النُّسُكية" التعبدية التي تتجاوز الحرص على الشهود اليومي للصلوات الخمس فيه إلى ربطه ببعض أركان الإسلام الأخرى كالحج والصيام.إذْ كان كثيرٌ من الصالحين يُحبّ أن يُحْرِم للحجّ من المسجد الأقصى؛ وأصلُ هذه العادة جاء عملا بحديث رواه الإمام أبو داود (ت 275هـ/888م) من طريق أمِّ المؤمنين أُمِّ سَلَمَةَ (ت 61هـ/682م) أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».ورغم أن إسناد الحديث لا يخلو من مقال؛ فإن أبا داود عضده بالعمل فقال: "يَرْحَمُ اللَّهُ وَكِيعًا (بن الجَرّاح الإمام الحافظ ت 197هـ/813م) أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ يَعْنِي إِلَى مَكَّة". كما قال الإمام البَغَوي (ت 516هـ/1122م) -في ‘شرح السنّة‘- إن الإحرام للحج من الأقصى "قد فعله غير واحد من الصحابة". فيبدو أن هذه العادة متأصلة منذ زمن الصحابة الكرام، وقد بقيت شائعة في أجيال المسلمين حتى احتلال المسجد الأقصى من الصهاينة.ولعلّ أجمل قصة إحرام من المسجد الأقصى ذكرها المؤرخون، وأبلغها بيانا لمكانة الأقصى في قلوب المسلمين؛ هي حكاية إحرام طائفةٍ من المجاهدين جاؤوا إلى القدس من مختلف مناطق الشام والجزيرة الفراتية وديار بكر الواقعة اليوم في جنوب شرقي تركيا، وشاركوا في تحريرها من الصليبيين سنة 583هـ/1187م.فقد ذكر الفتح بن علي الأصفهانيّ (ت 643هـ/1245م) -في ‘مختصر سنا البرق الشاميّ‘- أنه "لمّا وقع الفراغ من فتح القدس دنا الحج..، وقالوا (= المجاهدون): نُحْرِمُ من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام، ونفوز مع إدراك فضيلة [استعادة] القدس -في هذا العام- بأداء فريضة الجهاد والحج ركنيْ الإسلام"."تقديس" عريق

أما زيارة بيت المقدس في ختام رحلة الحجّ -التي تسمى "تقديس الحجّ"- فظلت عادةً أكثر انتشارًا من سابقتها؛ فكان كثيرٌ من المسلمين يحجّون ثم يقصدون المسجد النبوي بالمدينة المنورة للزيارة والصلاة فيه، ثم لا يرون أتمّ ولا أجمل لحجّهم من أن "يُقدّسوه" بزيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى.وقد غلط باحثون نسبوا هذه العادة إلى عهود الدولة العثمانية؛ إذْ هي عادةٌ متأصلة في تاريخ المسلمين لكونها مبنيّة في الأصل على الحديث المشهور: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مساجد» (رواه البخاري ومسلم)؛ فكأنه لما جمع الحديثُ ذكْرَ المساجد الثلاثة في سياق واحد أحبَّ المسلمون الجمع بين زيارتها جميعا في رحلة الحج.بل إن "الحملة الرسمية للحج" كانت تفعل هذا "التقديس" منذ القرون الأولى؛ فقد قال ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- ضمن أحداث سنة 140هـ/758م: "خرج [الخليفة العباسي] أَبُو جعفر المنصور حاجًّا فأحرم من الحِيرة [جنوبي العراق]، ثم رجع بعد ما قضى الحج إلى المدينة [النبوية]، فتوجه منها إلى بيت المقدس (مطلع سنة 141هـ/759م) فصلى في مسجدها، ثُمَّ سلك إلى الشام منصرفا" نحو العراق. ثم صار "التقديس" في القرون المتأخرة جزءًا من رحلة الحجّ لا غنى عنه للحُجّاج.والعجيب أنه وُجد أيضا من العلماء والعبّاد من يتقصد صيام رمضان في الأقصى على غرار توخي الإحرام بالحج منه؛ فالإمام القاضي ابن العربي الأندلسي المالكي (ت 543هـ/1148م) يسجّل حضور هذا المعنى عند جماعات المتبتِّلين في رحاب الأقصى، فيقول في ‘سراج المريدين‘: "وكان يرد علينا في بيت المقدس كلَّ عام من جبال الشام جماعة من المتبتِّلين (= المتعبِّدين)، يصومون بالمسجد الأقصى شهر رمضان، ثم يرجعون إلى جبالهم وكهوفهم"!!لقد كانت سعة المسجد الأقصى تسمح بإقامة أكثر من صلاة فيه عندما استُحْدِث فيه تعددُ المحاريب تبعا لتعدد المذاهب الفقهية الأربعة، كما حصل في الحرمين بمكة والمدينة بدءاً من القرن الخامس الهجري/الـ11 الميلادي؛ غير أن العلماء كأنهم كرهوا أن تقام صلاتان للجماعة في الوقت نفسه، فجعلوا للصلوات ترتيبا زمانيًّا ثابتا وفقا للمذاهب.وقد ذكر العليمي -في ‘الأنس الجليل‘- تفصيل الأئمة وترتيب الصلوات؛ فقال: أما الأئمة المرتبون فيه فأولهم إمام المالكية، يصلي في الجامع الذي غربيّ المسجد من جهة القبلة [جامع المغاربة]..، ثم يصلي بعده إمام الشافعية بالجامع الكبير القِبْلي المتعارَف عند الناس بالمسجد الأقصى، ثم يصلي بعده إمام الحنفية بقبة الصخرة الشريفة، ثم يصلي بعده إمام الحنابلة". أما الجمعة فكانت تُقام في المسجد القِبْلي فقط.ويضيف العليمي: "وللمسجد الأقصى أيضا عدة أئمة بداخل الجامع الأقصى وبمغارة الصخرة وعند أبواب المسجد يصلون التراويح في رمضان فقط، وبقية الأيام لا يصلون شيئا ولكن العمدة على الأئمة الأربعة المتقدم".منارة علمية

وغير بعيد عن العمارة النُّسُكية للمسجد الأقصى؛ كان من أبرز مظاهر عناية المسلمين بالأقصى أنهم جعلوا منه مركزًا علميًّا قَلَّ نظيرُه في تاريخ المسلمين؛ وذلك برعاية رسميّة من الدول المتعاقبة على المسؤولية عن القدس، إذْ يقرر العليمي أن جميع "الملوك والأعيان.. وقفوا أوقافا على مصالح المسجد الأقصى وخدمته".ومما يدلّ على أن الرعاية الرسمية للنشاط العلمي ببيت المقدس بدأت مبكرة جدًّا وكانت سخيّة؛ ما نقله الذهبيّ -في ‘سير أعلام النبلاء‘- عن "الإمام القدوة شيخ فلسطين" إبراهيم ابن أبي عَبْلة (ت 152هـ/770م) من أنه كان يقول عن الخليفة الأمويّ الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ/716م): "رحم الله الوليد! وأين مثل الوليد؟ افتتح الهند والأندلس، وبنى مسجد دمشق (= الجامع الأموي)، وكان يعطيني قطع الفضة أقسمها على قُرَّاء (= علماء) مسجد بيت المقدس"!!وبالطبع تعززت تلك الرعاية الرسمية لمكانة الأقصى العلمية بجهود بالغة بذلها العلماء من كل المذاهب والتخصصات، وعُضّدت بالتفافٍ وإقبال واسع من طلبة العلم من جميع أقطار العالم الإسلاميّ؛ فقد بدأ اتخاذ المسجد الأقصى مدرسةً -منذ القرن الأول الهجريّ/السابع الميلادي- لإقراء القرآن أولًا، ثم لرواية الحديث النبوي وتدريس سائر العلوم الإسلامية.وإذا كان النشاط العلميّ شهد ازدهارَه الكبير ببيت المقدس بعد تحريره من الصليبيين أواخر القرن السادس الهجريّ/الـ12 الميلادي، بإحياء "المدرسة النصريّة" (الصلاحيّة بعد الاحتلال الصليبي)؛ فإن كتب التاريخ لم تخلُ مما يدلّ على أن الأقصى كان جامعةً علميّة كبيرة -تنافس أهمّ المدارس الإسلامية- قبل الاحتلال الصليبيّ والتحرر منه، فازدهرت فيها النقاشات العلمية، وصُنِّفت المؤلفات الرائدة، ومنها انتشرت مذاهب معتبرة، واحتضنت باكورة المدارس المؤسسة في الشام.فهذا الإمام ابن العربي المالكي -الذي يحدثنا كثيرا في العديد من مؤلفاته عن مشاهداته في الأقصى قُبَيل الاحتلال الصليبي للقدس- يبدي اندهاشه من العمارة العلمية للأقصى وتنوع النشاط المدرسي فيه، حتى إنه لما زار القدس سنة 488هـ/1095م هاله عِظَمُ الحيوية العلمية في أروقته والمستوى الرفيع لعلمائه!وقد دفعته تلك الحيوية العلمية لتأجيل الحج الذي جاء من أجله، والبقاء في الأقصى لطلب العلم رغم ازدهار سوقه في الأقطار المجاورة بل وفي بلاده الأندلسية؛ وفي ذلك يقول في كتابه ‘قانون التأويل‘: "قلت لأبي رحمة الله عليه: إن كانت لك نية في الحج فامضِ لعزمك فإني لست برايمٍ (= مغادر) هذه البلدة حتى أعْلم علمَ مَنْ فيها وأجعل ذلك دستوراً (= دليلا إرشاديا) للعلم وسُلَّماً إلى مراقيها"!!

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين