تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر (5 -5) في ضوء علم أصول الفقه

(4) النصوص والوقائع أيهما يَتْبَع الآخر ويُنزَّل عليه؟

بعد إحاطة المجتهد أو المفتي بالواقعة علمًا وسبرها لأغوارها وأبعادها وملابساتها، يأتي البحث عن النصوص التي أتت على الموضوع تصريحًا أو تلميحًا لمعرفة حكم الله في المسألة والتوقيع عن رب العالمين فيها، وتتباين طريقة البحث عن النصوص من مجتهدٍ إلى آخر، أمَّا التباين في وسائل البحث وأدواته واستنطاق ما خفي في خبايا النصوص واستكناه ما دلت عليه فهو مقتضَى بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدِّي إليها، وأمَّا التباين في طريقة البحث عن حكم الله في المسألة بالاستقصاء والتجرُّد أو الانتقاء والتحيُّز فهو مزلة أقدامٍ إليه يُرَدُّ سبب اختلاف الفتاوى في كثير من النوازل لا سيما ما يعمّ الأمة أو جمًّا غفيرًا منها.

الاستقصاء والتجرُّد في الاجتهاد

مدلول الاستقصاء في جمع الأدلة هو استفراغ الوسع في الاستقراء والتنقيب عن النصوص والإجماعات محل البحث وما يؤول إليها من أدلة معتبرة لمعرفة حكم الله في الواقعة، ومدلوله في الواقعة هو بذل المجتهد طاقته كلها لتتبع واستقراء وحصر أحوال الواقعة المؤثرة في الحكم وضبط متغيراتها في ضوء آراء أهل الخبرة والتخصص المهني، وأمَّا مدلول التجرُّد فهو استهداف المجتهد لإصابة حكم الله في الواقعة والتوقيع عنه فيها خاليًا من دواعي الهوى والميول والنزعات والتصورات والأحكام المسبقة وذلك بتورُّعه عن الاستدلال بما لا يصلح دليلا وعن إغفال ما يصلح للاستدلال، وبتركه وصف الواقعة بما ليس فيها وتجريدها من وصفٍ قائمٍ بها، ومُقتَضَى الاستقصاء والتجرد "أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقارِ واقتباسُ ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وَفْقه، وأما بعد وقوعها فلِيُتلافى الأمر ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة" (1)، فأخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين، أحدهما هذا، وثانيهما:

الانتقاء والتحيُّز في الاجتهاد

من أزمات الاجتهاد المعاصر الانسياق للرأي العامّ العالمي الذي كانت وما تزال للإعلام والاستخبارات اليد العليا في صناعته، ولا يكاد يصح في الأذهان شيءٌ إذا أنكر أحدٌ اليوم التأثير النسبيّ للهوى والميول الفكرية والعقائدية والمذهبية والاجتماعية والسياسية والاستخباراتية والمجتمعية والشخصية والبيئة الخاصة والعصبية والتعصب والضغط العام وقهر الإعلام على حركة فكر المفتي أو المجتهد، فالإسارة أيًّا كان نوعها تترك أثرًا تتفاوت علامته في طبيعة فهم المجتهد للنص وللواقعة، وهذا يبرهن أنّ التجرُّد في الاجتهاد عن منازع هذه المؤثرات يزيد نسبة صوابه والعكسُ صحيحٌ مطرد، نعم إنَّ دعوى التجرُّد المطلق وهم مطلق، لكن التحيُّزَ الذي لا تستقيم معه حركة الفكر نسبيًّا في النصِّ والواقعة انحرافٌ وتحريفٌ مطلقٌ للحقِّ والحقيقة، ومدلول الانتقاء والتحيز في الاجتهاد "أن يؤخَذ الدليل مأخذ الاستظهار على صحة غرضِ المفتي في النازلة العارضة، وأن يظهر بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكامَ من الأدلة، ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7]؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، {والراسخون في العلم} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك {يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، ويقولون: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران: 8] ، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكِّمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدًا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا" (2).

ويميل هذا الضربُ من الاجتهادِ العبثيِّ إلى وضع الفروع موضع الأصول والجزئيات مقام الكليات واستبدال المتشابهات بالمحكمات وجعل الاستنثاء هو القاعدة، ولا يتورع مفتٍ كهذا عن إيهام تضارب النصوص وتعارضها وادِّعاء مخالفة بعض ما صح منها للمعقول سعيًا منه إلى نسبة ما يهوى من الأحكام إلى الشريعة ولو أنه أتى بهواه عليها من قواعدها، "فتراه آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطةٍ بمعانيها ولا راجعٍ رجوعَ الافتقارِ إليها، ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر" (3).

ولا يعدم المتتبع لفتاوى المعاصرين أمثلةً من ضروبٍ شتى على ذلك، فلدى البحث في حكم فوائد المصارف تجد من يضع نصب عينيه إباحتها ويأخذ بل يُغرِق ويَغرق في تشخيص هذه الواقعة والاستدلال للحكم المسبق الذي يراه حكم الله في المسألة، ويُغمض عينيه بل يُخفي ما لا يوافق هواه من أدلةٍ أو تشخيص للواقعة ويتكلف تأويل هذه الأدلة وليّ عنق النص الراجح عنده أو تشويه الواقعة وتصويرها بغير ما هي عليه إن كان ما لا يحبِّذه من الأدلة والتشخيص معلومًا لا يخفى، وتُلفي من المفتين من يعكس الأمر ويمضي كالأول في الإغراق تشخيصًا واستدلالًا على التحريم ويكد ويُضنِي نفسه في ذلك دون أن يبذل معشار هذا الجهد في اقتراح البديل المشروع، وقل مثل هذا في بعض مسائل التأمين والسندات والنِّقَاب وهدايا الشركات والتسويق الشبكي والهرمي وأسواق المال والمظاهرات السلمية وتفريق الحكام لها بالسلاح ودفاع المتظاهرين عن أنفسهم واستعانة كلا الطرفين بالمسلمين وغير المسلمين، ومقاومة المحتل هل هي إرهاب أم جهاد، وانتزاع الحكم بالسلاح ممن يُقِرّ ويؤمن بالشريعة ولا يحكِّمُها ضعفًا أو خذلانًا جهادٌ أم إرهاب وحِرابة وخروجٌ على الحاكم، والديمقراطية المطلقة شورى معدَّلة أم تأليهٌ لرأي الأكثرية؟ وهكذا إلى ما لا يكاد يحصَى من وقائع ما زالت محل نزاع بين المفتين والمتصدرين للاجتهاد، ولو أنَّ نزاعهم تحلَّى بالنَّصفة والموضوعية وسكت من لا يعلم عمَّا لا يعلم لظهر الحقُّ وكثر الصواب.

وبعد: فالبحث إنما عُنيَ بالاجتهاد والفتوى، ولم يأت على القضاء، وهو في الحقيقة فتوى وزيادة لأنه ملزم بخلافها، وله أركان لا بدّ منها؛ ذلك أنّ "الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة والأسباب والبينات؛ فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها أو في بعضها" (4)، "وإذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال كفقهه في كليات الأحكام ضيّع الحقوق، فههنا فقهان لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في الوقائع وأحوال الناس: يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطبق بين هذا وهذا، بين الواقع والواجب، فيعطي الواقع حكمه من الواجب" (5).

وللاجتهاد والفتوى والقضاء كليَّاتٌ أخرى تُذكْر في قواعد الفقه الكليَّة لعلَّها تُبحث لاحقًا، ولتلك الكليات ما لها في ضبط حركة الفكر الاجتهادي، فهي تمنعه من أن يخرج عن حدود النصوص التي استنبطت منها.

ولو أنّ بعض الدراسات الإحصائية طرحت استباناتٍ تستطلع بها تأثير نماذج من الفتاوى الشاذة المنتشرة في مجتمعٍ ما لربما اكتشف القارئ في ضوء الكليات السابقة أثرَ تلك الفتاوى النفسي والاجتماعي الدنيوي والديني على حياة الناس، ثم لا يسعه إلا أن يكرر متفكِّرًا متذكِّرًا فواصل الآيات التي أتت على ذكر واقعة حادثة بلعام بن باعوراء (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الأعراف: (176)، وجِلًا أن يكون ممن اتبع الغاوين فظلم نفسه (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) (177)، سائلًا المولى الهداية واتباعَ الأئمة الهادين المهديين (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (178).

مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الرابعة هنا

===

( ) الشاطبي: الموافقات (3/ 290).

(2) المصدر السابق (3/ 290).

(3) الشاطبي: الموافقات (5/ 142).

(4) ابن قيم الجوزية شمس الدين محمد بن أبي بكر: بدائع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، (4/ 12).

(5) المصدر السابق (3/ 117).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين