تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر (4-5) في ضوء علم أصول الفقه

(3) مِنْ فِقْهِ النَّص إِلَى فِقْهِ الواقعةِ والواقِع

لا مبالغة في القول إنَّ الأركانَ الموضوعية للفتوى إجمالًا لا تخرج عن اثنين: فقه النص وفقه الواقعة، "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم" (1).

وقد أوْعَبَ علماء الأصول في مباحث دلالات الألفاظ فقهَ النص وضوابطَه وطرقَه وأوجهَه ومراتبَه بحثًا وتفصيلًا، وحسبُ فقه الوقائع أو تحقيق المناط أنّ الأصوليين أوسعوه بحثًا في اثنين من أمِّهات الأبواب: باب الاجتهاد وباب القياس.

أمَّا عَن فقه النص وفق ما قنَّنَه الفقهاء فإنَّهُ لا مزيدَ عليه لكن المشكل أنّه لا شيء من طرق الدلالة ومراتبها سوى المحكم بمفيدٍ للقطع، وما دام النص محتملا لوجوه وثمة طرق محتملة لتفسيره وتأويله والذهاب بمعناه مذاهب شتَّى فإنّ بابَ التمحُّل والتكلف في تفسير النص وتأويله ليُطاوع هوى ذوي الأهواء لن يُغلَق، ولن يوصده سوى أمرين:

أولهما: تحلِّي المفتي أو المجتهد بصفات الاجتهاد وشروطه، ومنها العدالة والتقوى والورع واستشعار هيبة الله الذي يقوم المفتي بالتوقيع عنه بفتواه، "ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يُبلِّغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالما بما يبلِّغ صادقا فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مَرْضِيّ السيرة، عدلا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وليعلمِ المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله" (2). "ولا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه، وسخطه من سخطه، وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه؛ فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكَمَ به وأوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]؛ فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو يفتي زيدًا بما لا يفتي به عَمْرًا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الأغراض؟" (3). ولا مراء أنَّ الفتوى إذا التاثتْ بهوًى أو غرضٍ غدَتْ رأيًا اجتماعيًّا لا فتوى وبلاغًا عن ربّ العالمين يوجب ثوابًا أو عقابًا.

والآخَر: تعزير المتلاعب بالفتوى ومعاقبته والْحَجْرُ عليه _إن كان للعدلِ والدِّين دولةٌ_ زجرًا له ولغيره ممن لا يحسب حسابًا ليوم الحساب عن العبث بدين الله وعقول الناس ودمائهم وأموالهم لا سيما من له أتباع يتخذون من فتواه نصًّا قاطعًا وبِنَاءً عليها يحملون على عواتقهم سيفًا قاطعًا تُستباح به حُرُمات الكليات الخمس التي لم تحل في شريعةٍ قطّ إلا بموجب قاطعٍ نصّ عليه الشارع، فينبغي أن يعزَّر هذا الصنف من المفتين ويُحجر عليهم؛ إذ إن "دفع الضرر العام واجبٌ بإثبات الضرر الخاصّ: كالحجر على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن وهو الذي يعلم الناس الحيل" (4).

وأمَّا فقه الوقائع وتشخيصها لتنزيل النّص عليها أو ما يُسمَّى بتحقيق المناط فلا يُستنكَر أن يقال إنه ليس بأقل شأنًا وقدْرًا في الفتوى من فقه النص نفسِه، فهو بمنزلة تشخيص الطبيب للأمراض، والحكمُ المستنبط من النص وَصْفَتُهُ، فكلما تهيأت أسباب التشخيص وآلاته ووسائله وسبرَ الطبيب أحوال المريض سبرًا دقيقًا كانت الوصفة الطبية أعمق وأدقّ وأجدى وأنفع، وكلما كان تشخيصه صُوْرِيًّا لا مبالاة ولا جهد فيه يُذْكَر كانت الوصفة أقرب إلى الداء منها إلى الدواء، فكم من طبيب قتل مريضَهُ بجهله أو إهماله! والمفتي الماجن كالطبيب الجاهل، كلاهما ضامن؛ وكلما كان المرض أشدّ فتكًا وأسرع سريانًا وأمضى نحو المنية، وتولَّدت عنه أمراض أخرى فتَّاكة، استدعَى تشخيصُه وعلاجُه جهدًا أكبر وفريقًا طبيًّا متمرسًا ذا تخصصات متنوعة كلٌّ يبذل جهده في تخصصه ويستشير زميله فيما أشكل عليه، وتشخيصًا أسرع يسبر الأغوار ويكشف الأستار عن علل وأدواء كامنة أتت على المريض فما كادت تبقي أو تذر، وقل مثل هذا بتمامه في تشخيص الوقائع صغيرها وكبيرها، "فإن الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك" (5).

وتحقيق المناط أو فقه الواقعة وتنزيل النصوص عليها إحدى صور الاجتهاد الثلاث، فالاجتهاد هو "بذل الوسع في طلب الغرض، وهو على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط، أما تحقيق المناط فنوعان: أحدهما لا نعرف في جوازه خلافا، وهو أن تكون القاعدة الكلية في الأصل مجمعًا عليها ويجتهد على تحقيقها في الفرع" (6)، وثمة "أمور عُلِّقَت على المصلحة نصًّا وإجماعًا، ولا يمكن تعيين المصلحة في الأشخاص والأحوال إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم" (7). 

ووسَمَ الإمام الشاطبي وآخَرون فقه الوقائع وتنزيل النصوص عليها أو تحقيق المناط بأنه هو وحده الضرب الفريد من الاجتهاد الذي لا ينقطع إلى يوم القيامة قولا واحدًا لأنه بانعدامه وارتفاعه ترتفع الشريعة، وحسبك بهذه الصفة رفعةً وإعلاءً لشأن فقه الواقعة وتشخيصها، "وهذا النوع من تحقيق المناط هو الاجتهاد الذي لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة؛ وذلك لأن هذا النوع الخاص من تحقيق المناط كليٌّ في كل زمان عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه وذلك غير صحيح" (8).

"ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون، وكله اجتهاد؛ فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد؛ لكان تكليفا بالمحال، وهو غير ممكن شرعا، كما أنه غير ممكن عقلا" (9).

وحسب هذا الفقه أنه هو الضرب الذي لا يُستغنَى عنه بتقليد الأئمة، بل لا بُدّ منه حتى للعامّة في تطبيق بعض المسائل المعلومة لهم، بل حسبه أنه عُدّ أحد شطري الاجتهاد نفسه، وأنّه هو الاجتهاد المراد بقول من قال بجواز الاجتهاد للأنبياء، قال الإمام الشاطبي: "الاجتهاد على ضربين:

أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.

فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله، فلا يمكن أن يستغنَى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صوره النازلة نازلةٌ مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا؛ فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها؛ فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا، وهو نظر اجتهادي أيضًا.

ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حِدَتِها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك؛ فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما بها لامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين؛ فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالِم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يحقق تحت أي دليل تدخل، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب.

فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه؛ فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة؛ فلا بد من النظر فيها" (10).

ولفقه الواقعة أو تحقيق المناط قسمان لعل في ثانيهما دواءً للداء العضال الذي نشبت عنه فوضى فتاوى الإعلام والسلطان، وتفسيرًا لبعض الفتاوى النبوية التي تبدو مختلفةً والسؤال فيها واحد، يقول الشاطبي: "فكأن تحقيق المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر، وتحقيق خاص من ذلك العام؛ وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، فإذا نظر المجتهد في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية، ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، أوقع عليهم أحكام تلك النصوص، كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة، فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر.

أما الثاني، وهو النظر الخاص، فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشىء عن نتيجة التقوى... وقد يعبر عنه بالحكمة، ويشير إليها قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269]، قال مالك: "يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله"، وقد كره مالك كتابة العلم -يريد ما كان نحو الفتاوى؛ فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم، ثم لا تحتاجون إلى الكتاب.

وعلى الجملة، فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره.

ويختص غير المنحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد...، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود (11).

وما من أحدٍ يجهل أن الفقه: خطاب الله المتعلق بأفعال العباد لا بعقائدهم وقلوبهم، لذا عُدَّ من أسوأ أشكال تشخيص الوقائع أثرًا إحلالُ القلب محل الجوارح أو المعتقَد محل العمل أو العقيدة محل الفقه، وبناء الأحكام العملية استنادًا إلى تأويلات عقائدية مذهبية؛ فبينما يُسمِّي الله موالاة المسلم لغير المسلمين بما سوى العقيدةِ ظلمًا (12) يَعدُّها قومٌ كفرًا بناءً على قاعدتهم أن لازم المذهب مذهب ويولِّدون عن التكفير أحكامًا تتعلق بالدماء والأموال وغيرهما، فعندما يقوم المفتي بإحلال مسائل العقيدة محل أفعال المكلفين، ويبني على هذا التغيير في وصف الوقائع تغييرًا جذريًّا في الأحكام، تزداد الهوة اتساعًا بين المفتين بلْهَ المقلِّدين لهم المتمسكين بفتاواهم أشدّ من تمسكهم بنصّ قطعي الثبوت والدلالة، ويتسع الخرق على الراقع، فلا يكاد يجد من يحاول رأب الصدع وحقن الدِّماء للصلح مدخلا؛ ولنمثل لذلك بمسألة الاستعانة بالكفار في واقعة التظاهر:

رغم أن المتظاهرين في الواقعة التاليةِ عُزْلٌ رأينا أن بعض المفتين حَرَّمَ المظاهرات السلمية وعدَّها خروجًا مسلَّحًا على الحاكم يحرّمه جمهور فقهاء أهل السنة، فانبرى لهؤلاء المفتين قومٌ عدُّوا المظاهرات السلمية انتحارًا وأوجبوا على المتظاهرين الدفع بالسلاح وأسموه جهاد الدفع، وذهب آخرون إلى أن التظاهر السلمي نهي عن منكر يوجب الشرع إزالته بشروط وعلى درجات تتفاوت بتفاوت الاستطاعة، وأن دفاع المتظاهرين عن أنفسهم فيها مشروع توجبه ضرورة مقصد حفظ النفس من اعتداء المعتدين، وهذه الضرورة تقدَّر بقدرها؛ ثم إنّه لما استعان كل من الحاكم والمتظاهرين على الآخر بغير المسلمين عدَّ بعض المفتين كلًّا منهما مواليًا للكافرين، والولاء لهم كفر يوجب قتل الموالين؛ وعدّ مفتون آخرون استعانة الحاكم المذكور بغير المسلمين ضرورةً فرضتها محاربة الدولة للإرهاب، وأقام هذا المفتي دولة الإلحاد الداعمة مقام منظمة العالم الإسلامي، ونعى الأخيرة، وعدَّ استعانة المتظاهرين من الاستعانة بكافر على مسلم؛ وذهب آخرون إلى أن استعانة الحاكم المذكور من إعانة الظالم للظالم، واستعانة المتظاهرين من استعانة المظلوم بالقويّ القادر على رفع الظلم مثلما كان عليه الأمر في حصار قريش للمسلمين في شعب أبي طالب والاستعانة بالمطعم بن عدي على رفع الحصار وتمزيق الصحيفة مثلا.

هذه اتجاهات ثلاثة اختلفت في فقه الواقعة وتصويرها وتشخيصها، ولهم جميعًا في فقه النصوص التي دارت حولها تأويلات أسوؤها التلاعب بمقصد النص وَعَدُّ المتظاهر الناهي للحاكم الظالم عن منكرٍ منتحرًا، والطامة الكبرى كانت في إقحام فئة من هؤلاء المفتين للمسألة في قضايا العقيدة وتكفير إخوانهم والبغي عليهم وسفك دمائهم نتيجة لخلط العملي بالعقائدي وبناءً على أنّ لازم المذهب مذهب.

وأبرز مُخرجات هذا الخلاف أنَّه برهن على أنَّ فقه الواقع والوقائع يَعْظُم خَطْبه في مسائل السياسة والإمامة أي الحكم، فأولى بهذه المسائل أن يكون لها مجمع فقهي له القدرة على الانعقاد والاجتهاد دون انقطاع، قال الإمام ابن القيم في هذا المقام: "هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد... والذي أوجب لهم ذلك: نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر...

وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه...؛ وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفةً له" (13).

مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الثالثة هنا

=====-

(1) ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر شمس الدين: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تح: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت، ط1، 1411، 1991، (1/ 69).

(2) المصدر السابق (1/ 8).

(3) الشاطبي: الموافقات (5/ 91).

(4) ابن أمير الحاج شمس الدين محمد بن محمد ابن الموقت: التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام، دار الكتب العلمية، ط2، 1403هـ - 1983م (2/ 202)، أمير بادشاه محمد أمين بن محمود البخاري: تيسير التحرير، دار الفكر – بيروت، (2/ 301).

(5) العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 6).

(6) العكبريّ أبو علي الحسن بن شهاب الحنبلي: رسالة في أصول الفقه، تح: د.موفق بن عبد الله بن عبد القادر، المكتبة المكية - مكة المكرمة، ط1، 1413هـ-1992م، (ص: 79). ابن قدامة المقدسي أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد الجماعيلي: روضة الناظر وجنة المناظر، مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1423هـ-2002م، (2/ 145). الآمدي أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي: الإحكام في أصول الأحكام، تح: عبد الرزاق عفيفي، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان، (3/ 302).

(7) الغزالي: المستصفى (ص: 291).

(8) محمد بن علي بن حسين المالكي: تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، عالم الكتب، (2/ 133)، الشاطبي: الموافقات (5/ 11).

(9) الشاطبي: الموافقات (5/ 11).

(10) المصدر السابق (5/ 11).

(11) المصدر السابق.

(12) يُنظر: [المائدة: 51]، [التوبة: 23]، [الممتحنة: 9].

(13) ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر شمس الدين: الطرق الحكمية، مكتبة دار البيان، (ص: 12).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين