تقويم أخطاء الفتوى والاجتهاد المعاصر (3 -5) في ضوء علم أصول الفقه

 

(2)

القطعيات من الثوابت والظنيات من المتغيرات

القطعيات من الثوابت لذا لم تكن من مظانّ الاجتهاد ولا التعارض؛ فلا اجتهاد مع النصِّ القطعيِّ ولا في مورد النصّ، ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ كون الاجتهاد مع النصّ محالًا (1) لا يدل بحالٍ على منعِ الاجتهاد في النصّ لتحقيق مناطه، فالاجتهاد في النصّ القطعي لتنزيله على الوقائع ليس محلَّ نزاع.

وكما أنه لا اجتهاد في مقطوع به لتعيين المراد منه لأنه تحصيلُ حاصلٍ كذلك لا قطع في مجتهد فيه لأنّ كونه ظنيَّ الدلالة أو الثبوت يمنع القطع، وهذا مقتضَى كون الظنيَّات من المتغيرات؛ فالمتغيراتُ لا يتأتَّى فيها القطع، فيبقَى النص الظنِّيُ قابلًا للاجتهاد وإمكانيةِ التغيير في تعيين مدلوله وبيان المراد منه ما لم يقم إجماع يجعل الظنيَّ قطعيًّا.

وكما أنَّه لا تعارض بين القطعيات كذلك لا تعارضَ بين قطعيٍّ وظَنِّيٍّ، ولا يُقام الظني مقام القطعي في الدلالة على الأحكام ولا في تطبيقها وتنزيلها على الوقائع؛ وهذا يَكْشِفُ خَطَأَ مَنْ لم يعتدّ بصفة القطع في القطعيات وأَعْمَلَ عقله فيها فأفتى العامة بما تهوى أنفسهم، أو من أقام الظنيَّات مقام القطعيات وجعل خبر الآحاد كالنص القاطع، فاستباح المحرَّمات القطعية بالظنيات من مثل لازم المذهبِ والعملِ والمعتقدِ وكتأويله لنصوصٍ تحدَّثت عن آخر الزمان بوقائع بعينها وبناءِ الأحكام وَفْقًا لهذا التأويل.

ولا لبس في الفرق بين منع الاجتهاد مع وجود النص القطعي وبين الاجتهاد عند عدم وجود النص أو مع وجوده لكنه كان ظنيًّا أو قطعيًّا غير أنه يستند إلى علة أو عرفٍ قد يتغيران، فينظر المجتهد في ثباتهما أو تبدلهما، أو كان الاجتهاد في تنزيل النص القطعي على الوقائع لمعرفة مدى انطباقه عليها لكن لا شأن للمجتهد بتعيين المراد لأن مقتضَى كونه قطعيًّا أنه متعين في نفسه لا يحتمل إلا معنى واحدًا يُدرك بداهةً لا نظرًا، فلا يخفى أنَّ كون النص قطعيَّ الثبوت والدلالة أنَّ على المفتي أو المجتهد العمل بالنص قطعًا والوقوف عند حدوده وأنه لا يجوز له أن يُقدِم على التفكير بغير ما يدل عليه النص فضلا عن أن يُفتي بخلافه.

ورغم أنَّ الفقهاء لم يختلفوا في أنَّ القرآن قطعي الثبوت إلا أنهم اختلفوا في تعيين صفة وعدد ما هو متواتر قطعي الثبوت من الأحاديث كما اختلفوا في المتواتر المعنوي، وأمَّا قطعيّ الدلالة فهو ما لا تختلف فيه العقول ولا يحتمل إلا معنى واحدًا، وتتوقف قطعية الدلالة على انتفاء موانع القطع العشرة، وبعد التسليم بقطعية النص ثبوتًا ودلالةً وخروجه عن كونه مجتهدًا فيه يبقى تنزيل النص على الواقعة محل اجتهاد، وبهذا تفسر وقائع عدة لم ينطبق عليها النص قطعيّ الثبوت والدلالة عند تحقيق المناط فأفتى فيها الخلفاء الراشدون بما ظنَّه قومٌ أنه خلاف ظاهر النص، بينما لم يعْدُ ما قاموا به _رضي الله عنهم_ أن يكون نظرًا في تحقيق المناط ثم عدولًا عن الحكم القطعي لانعدام المحل أو لعدم استجماعه للشروط والصفات التي قام عليها الحكم، فهذا أشبه باستنباط معنى من النص يخصصه وليس من الاجتهاد المصادم للنص القطعي في شيء؛ فليس إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم مثلًا في عهد الفاروق ضربًا من التعطيل أو التعليق للنص القطعي بل إن الصفة والمحل انعدما فلم ينطبق الحكم على الواقعة، فلا هم بضعفاء الإيمان كما كانوا أول إسلامهم فيُؤلَّفون، ولا نحن بضعفاء الشوكة كما كنَّا لنؤلِّف ضعفاء الإيمان من ذوي الشوكة والقوة، فلو وعدهم الفاروق ليستميلهم بأنْ ألَّف قلوبهم فصاروا مؤلَّفة لوجب لهم سهم لا يجوز له منعه، فالأمر إليه إن رأى أن يؤلِّف ألَّف، فصار عنده مؤلَّفة مستحقون للسهم، وإن رأى في نفسه قوة فلم يؤلِّف انعدم المحل فارتفع الحكم، وهذا ما كان، فلما انعدم المحل لم ينطبق النصّ على الواقعة، فسهمُ المؤلفة باقٍ ثابتٌ إلى يوم القيامة لأنّه قطعيُّ الثبوت والدلالة ولم ينزلْ بعده ما ينسخه، وإنما المتغير هو المحل بحسب الوقائع؛ وهكذا الأسهم الأخرى فحيث وجد الفقر صُرِفَ سهم الفقراء، وحيث انعدمت صفة الفقر ارتفَع، والفرق أن صفة التأليف كصفة التوظيف للجباة يُحدِثها الحاكم، فمن جمع الزكاة من الناس ولم يستعمله الحاكم عليها لم يستحق سهم الزكاة، بل هو أولى بأن يحاسَب من أن يكافَأ لافتئاته؛ فالجهة التي اجتهد فيها سيدنا عمر _رضي الله عنه_ غير تلك التي دلَّ عليها النص بطريق القطع.

وأمَّا تجاوز أحدهم اليوم للنص القطعي بالتشهي والهوى لا لمعنى معتبر مما سبق في تنزيل النصوص على الوقائع فهو ضرب من العبث بالشريعة ونوعٌ من استبدال القانون والرأي والهوى بالشَّرع، وإلا فما الفرق بين مسألة إباحة بيع الخمر لترويج السياحة وتحريم الاتجار بالرقيق الأبيض وهو أكثر ترويجًا للسياحة؟! نعم لعلَّ خشية هؤلاء من سيف المجتمع وأعرافه أرهبتهم، فقصروا فتواهم على هواه فمنعوا الثانية، ولم يعبؤوا بتوقيعهم عن رب العالمين فأباحوا الأولى لانعدام تلك العلة عندهم.

مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الثانية هنا

========-

(1) الغزالي: المستصفى (ص345).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين