تأملات في الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم (2)

لقد كانت رسالته صلى الله عليه وسلم أشبه بالمظلة الباردة في اليوم القائظ ، وأشبه بالركن الدافئ في البرد القارس ، وأشبه بالغيث الصيّب في السنة الجائحة القاحلة، وهكذا شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثته المباركة فقال : « إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ ». (اخرجه البخاري ومسلم وغيرهما) أجل إنه صلى الله عليه وسلم كالغيث الهامع لهذه البشرية الشاخصة إلى السماء، أحيا الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، بل أحيا به الباري أمة كانت في مجاهيل النسيان، وبراثن الجهل، ومخالب الشتات والفرقة، فجعل منها أمة محورية بين الأمم، وحضارة مركزية بين الحضارات، أقامت راية السماحة والمحبة، ونصبت ميزان العدل والمساوة، وأنارت دروب العلم والمعرفة فكانت مثالاً يُحتذى ونبراساً يقتدى. 

هذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ذلكم الطفل اليتيم الذي نشأ وترعرع في ربوع مكة يرعى أغنامها، ويراقب أحلامها، ويعايش شبابها، ويرافق تجارها، ويخالط زعماءها، ويحضر مجالسها وأحلافها – حلف الفضول – ويشارك في حروبها – حرب الفجار – فكان مثالاً للرجولة، وعنواناً للأخلاق، ونبراساً للصدق والأمانة، فاستحق بجدارة لقب الصادق الأمين من أعدائه وخصومه قبل أقربائه وأصدقائه. فتهيأ لتحمل المسؤولية العظمى بأن يكون رسولاً للناس أجمعين، ورحمة مهداة للعالمين، ومبلغاً لآيات الوحي المبين.

فكان صلى الله عليه وسلم بإزاء هذه النعمة الكبرى عليه، وهذا الفضل الرباني العظيم {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [سورة النساء آية 113] لا يرى نفسه إلا عبداً لله " يجوع يوماً فيصبر ويدعو ويتضرع إلى ربه، ويشبع يوماً فيشكر ربه ويحمده " ( عن أبي أمامة الباهلي ، أن رسول الله قال : « عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا رب ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك ، وإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك ». راجع شعب الإيمان للبيهقي 343 / 21 وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني 133 / 8.) يرجو رحمة الله ويخاف عقابه أليس هو القائل : « لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ » . قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لاَ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» (أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما). 

وبرغم ما أكرمه الله به من النصر العزيز، والفتح المبين لم يشمخ بأنفه إلى السحاب كما يفعل القادة عادة، ولم يصدع رؤوس الناس بعظمته وانتصاراته كما يفعلون عادة، ولم يُنكّل بأعدائه وخصومه الذين آذوه وطردوه وقتلوا أصحابه وأحبابه، بل قال كلمته المشهورة التي ينبغي أن تُكتب برؤوس الأبر على آماق البصر، وبماء الذهب على شغاف القلب، قال صلى الله عليه وسلم "" اذهبوا فأنتم الطلقاء "لمن؟!

لمن طردوه وآذوه أشد الأذى، وقاتلوه أشد القتال، وتكالبوا عليه، وألّبوا عليه العرب، وقتلوا أعز الناس على قلبه! قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء! (انظر السنن الكبرى للبيهقي وسيرة ابن هشام وسائر المصنفات في السيرة أثناء الحديث عن فتح مكة).

يدخل الفاتحون المنتصرون عادة إلى البلدان المهزومة بالزغاريد والشموخ والأبهة والعظمة، فكيف دخل المصطفى صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة؟

دخل وهو يركب فرسه متواضعاً متخشعاً لله، يترنم بسورة الفتح، (دلائل النبوة للبيهقي 5 / 98) ويتطلع إلى السماء شاكراً لربه، ومستمطراً رحمته وكرمه.

إن حالة دخوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فاتحاً منتصراً وحوله كتيبته الخضراء، هذه الحالة من التواضع والتذلل في مثل هذا الموطن الذي يدعو إلى الزهو والتعاظم، لهي رسالة إلى كل عقل حر، وقلب حي، وإنسان صادق في بحثه عن الحقيقة تخبره عن حقيقة هذا الرجل من هو؟! أهو طالب ملك؟ ها هو الملك بين يديه فلماذا لا يتعاظم به؟ أهو رائد دنيا وعظمة؟ ها هي الدنيا والعظمة تتضاءل بين يديه فلماذا لا يمتلكها؟ أم هو نبي مرسل يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه ويبتغي رضوانه؟

أجل لقد اقترب منه رجل أعرابي فرأى حوله جنده وجيشه غاطسون في الحديد، فأخذته رعدة من الخوف فهدأ النبي صلى الله عليه وسلم من روعه وقال له: يا أخا العرب إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة! (رواه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).

أجل إنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه اللحظة الحاسمة بعد عشر سنوات من الجهاد والحروب ها هي مكة بين يديه ، وأهلها طوع أمره، وعتاتها وطغاتها في قبضته، إنها صورة رائعة تدعو إلى التطاول والكبرياء، وتغري بالانتقام، ولكنه صلى الله عليه وسلم وقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، تذكّر أن هذا فضل من الله ، وكرم وتوفيق ونصر منه ، ثم عاد مباشرة بذاكرته إلى الأيام الخوالي، يوم كان طفلاً يتيماً فقيراً مُعدما،ً يوم كانوا يرشون التراب في وجهه، يوم كان يرعى الأغنام، يوم الطائف، يوم الجزور، يوم الحصار والجوع، ثم توقف عند صورة مؤثرة هي: يوم كان يأكل القديد مع أمه بمكة !! أجل يا أخا العرب فأنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة!

في وسط البهجة والانتصار، وفي وسط المجد والفخار، وفي وسط العزة والاقتدار، يتذكر ويُذكّر النبي صلى الله عليه وسلم بحالة ضعفه وفقره لينفعل مع جيشه وجنده والناس جميعاً بالشكر لله عز جل، فكل ما هو فيه الآن هو محض فضل وإنعام من الله.

ولم يستطع بعض أصحابه أن يئد حالة الزهو والفخر في كيانه، فقال وهو يمر على بعض سادة قريش الواجمين المنكسرين: اليوم يوم الملحمة، ونُقل ذلك له صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بل اليوم يوم المرحمة (أخرجه البخاري وفيه زيادات مختلفة عند البيهقي في السنن ودلائل النبوة له أيضاً والمعجم الكبير للطبراني، وتراجع كتب السيرة المختلفة عند قصة الفتح)، ونزع اللواء من صاحبه وأعطاه لابنه – لابن صاحب اللواء - وهنا تتجلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وسياسته في إصلاح الأخطاء، وتأليف القلوب ، وتضميد الجراح ، وتنظيف الصدور ، وتطييب الخواطر .

إنه صلى الله عليه وآله وسلم قد كف نفسه عن شهوة السلطان والملك، وغرور القوة والتمكين، ورغبة التشفي والانتقام، وأراد للناس جميعاً أن يتعايشوا متحابين متكافلين تحت مظلة التوحيد والعدل.

جاءه عثمان بن طلحة بمفاتيح الكعبة، فتناولها منه النبي صلى الله عليه وسلم ففتح الكعبة المشرفة وصلّى فيها ثم أعادها إليه وقال له: خذوها لا ينزعها منكم إلا ظالم. ولا شك أن عثمان خجل من نفسه، وتمنى لو تبتلعه الأرض حين فاجأه النبي بهذا الكلام، ذلك لأنه يذكر يوماً آخر في مكة قبل هذا اليوم، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم فقيراً وحيداً مُكذَّباً طريداً، فقد طلب منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المفاتيح، فأبى عثمان، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كيف بك يا عثمان ذات يوم والمفاتيح بيدي أضعها حيث أشاء؟ فقال له عثمان: لقد ذلّت قريش يومئذ وهانت، فقال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم : بل عَمَرت وعزت. (راجع: زاد المعاد لابن قيم الجوزية 356 / 3). 

وقد ذكّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال له: ألم يكن الذي قلت لك؟ ولكن لا ليجرح خاطره، وإنما ليزيده إيماناً بنبوته، وقد فهم عثمان الرسالة فقال: بلى أشهد أنك رسول الله. وبدلاً من التفكير بالانتقام أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإكرام. أجل إنه يتمثّل قول الله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر آية 85] وقول الله عز وجل فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [سورة آل عمران آية 159].

هكذا كانت رسالته صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت دعوته: المحبة التسامح، والعفو والرحمة، والتواضع لله جل شأنه. تأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ». (أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما) كم يحمل هذا الحديث من دلالات معبرة ، ومعاني مؤثرة، فهو صلى الله عليه وسلم يرى أن الدين بناء شكل الأنبياء جميعاً فيه لبنات متماسكة، ولم يبق من هذا البناء إلا مقدار لبنة ، وكان البناء جميلاً وبديعاً تعجب منه الناس، وتمنوا لو وضعت تلك اللبنة، فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم هي لبنة الكمال، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل من نفسه ركيزة البناء، أو أحد جدرانه، وإنما جعل من نفسه لبنة في بناء النبوة، يتراصّ مع إخوانه من الأنبياء السابقين ليتكوّن للبشر بناء يحقق لهم المأوى والمثوى والسعادة في الدنيا والآخرة، فلم يبخس النبيُّ إخوانَه من الأنبياء - جميعاً - حقهم، ولم ينكر فضلهم وجهادهم .

إنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتكامل " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 4 / 28 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي في تعليقه: على شرط مسلم. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10 / 192 والطبراني في المعجم الأوسط 15 / 165). ويعلمنا كيف نتواضع فيقول: «وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». (أخرجه مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد وأبو داوود في سننه وابن ماجه والبيهقي في سننهما وغيرهم.) ويعلمنا كيف نتعاون ونتراصّ، لكي نكون أقوى في مسيرة الحياة، وأقدر على الإعمار، وأصبر على الشدائد.

أما هو صلى الله عليه وسلم فقد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمّة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وخُيِّر فاختار الرفيق الأعلى "" الرفيق الأعلى (أخرجه البخاري ومسلم) 

ولقد قصّرت الأمة في الوفاء بحقه صلى الله عليه وسلم في هذا العصر، فلم تحسن عرْض سيرته على الناس، فتعرّض له الناس، وأساؤوا لأعظم إنسان عاش على ظهر هذه الأرض، وجاهد لتطهيرها من الفساد والظلم والخداع والكذب والاستبداد.

ومن واجب الأمة الآن أن تخاطب الأمم بلغاتها، ومن خلال ثقافاتها وحضاراتها، وأن تراعي تغيرات الأفهام، وتبدلات الأعصار، واختلاف الوسائل، والتباس المسائل، فتكشف الغيوم الداكنة بشمس الحقائق الساطعة، وتكنس الأوهام المتراكمة، بالحجج النيرة والبراهين الميسَّرة عن سيرة وشخصية وحياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تخاطب بذلك الناس جميعاً، بمختلف بلدانهم وعقولهم ولغاتهم، وأن تحشد لذلك كل الإمكانات العقلية والفكرية والسياسية والإعلامية والمادية.

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين.

الحلقة الأولى هـــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين