تأملات في الرسالة والرسول صلى الله عليه وآله وسلم (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ * آمين. 

والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الصادق الأمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

يشعر الكاتب بالضآلة حين ينوي الكتابة عن سيد البشر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجد في قاموسه العبارات التي تترجم الشعور بأمانة للقارئ، يكفيه أن ربّه وصفه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم آية: 4]. إن هذه الجملة تتعاقب فيها كما هو واضح - لمن يتذوق لغة العرب - عناصر المدح والثناء بإلحاح شديد.

كما يقف الكاتب حائراً وهو يتأمل في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية 107] فهو يحصر رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الرحمة العالمية، الرحمة الشاملة، فهل تبقى أية قيمة لحديث البشر بعد هذا الثناء الرباني والتوجيه الرحماني؟!

لقد كان قلبه يفيض بالرحمة مذ كان طفلاً كيف لا وقد غسلته الملائكة الكرام بها - أي بالرحمة - يوم كان يرعى الأغنام مع أبناء حليمة! ولقد رقق اليتم قلبه إذ وُلد يتيم الأب فلم يحظ بحنان الأبوة، وحين ذهب ذات يوم مع أمه لزيارة قبر أبيه ماتت أمه في الطريق فغسلت دموع أجفانه صفحات قلبه.

وهذَّبه الفقر حين عاش مُعدماً يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، فعاش حياة الفقراء واليتامى، يشعر بمشاعرهم ويتألم بآلامهم، فأكسبه ذلك حسًّا مرهفاً وشعوراً نبيلاً دفعه لمباشرة العمل بالتجارة، حتى لا يكون عبئاً ثقيلاً على عمه أبي طالب، فخالط الناس وعاشر أصنافهم، وخبر أخلاقهم، وأخذ وأعطى بيعاً وشراء ليعيش الواقع كما هو بحلوه ومره، برخائه وشدته.

ولكي لا ينجرف في تيار الواقع حَبّب الله إليه الخلاء ليعتزل الناس، ويخلو بنفسه يراجعها يحاسبها، ويعتني بقلبه تزكية وتطهيراً، ويتجه إلى ربه تعبداً وتلقياً وتفكيراً.

ولم يكن ذلك صدفة بل كان تقديراً إلهياً، وتدبيراً ربانياً لرجل اختاره الباري جل شانه لأعظم مهمة على مر الدهور، مهمة الرسالة الخاتمة، والرحمة الشاملة.

إنها مهمة ذات وجهين:

الأول: الصلة مع الله، والانخراط في عالم الملكوت، والانسلاخ من عالم الملك والشهادة، والتلقي عن الله.

الثاني: التواصل مع الناس على سبيل البلاغ والبيان والهداية.

إنها مهمة عظيمة وخطيرة، إنها مفترق الطرق بين عالم الشهادة وعالم الغيب، عالم الدنيا وعالم الآخرة، إنها صلة الوصل بين عالمين.

ولذلك هيأه الله ورباه لتحمل هذه المهمة، فاتصل بالناس، وعرك الحياة بمرها ومرارها، وخلا بربه ليصفو قلبه من أدران الكون، فيتهيأ عقله وتستعد روحه للتلقي عن المكوّن.

إن أصعب مهمة يعاني منها الدعاة اليوم هي الانسلاخ من واقعهم العاجي والانخراط في الواقع العادي للناس. يعيش الداعية معاني الإيمان والهداية والتقوى فتصفو روحه وتميل إلى الاكتفاء بربها خلوة وعبادة وتبتلاً، فإذا ما شعر بالمسؤولية تجاه الناس تبرمت روحه وضاقت، لأنه يريد العودة بها من جديد إلى عالم الأذى والهوى.

هذا على مستوى الدعاة المخلصين من آحاد الأمة فكيف بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؟! إن حالته من أشق الحالات، لأنها تتضمن الانسلاخ من البشرية إلى الملائكية لتلقي الوحي، ثم الأوب من جديد إلى عالم البشر، لتحمل مسؤولية كبرى!، وهل يرضى الإنسان الذي يدخل الجنة ويعيش نعيمها وسعادتها أن يعود إلى دنيا الهموم والأحزان؟!

إن أمر الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب أو من عالم الملكوت إلى عالم الملك أشق – فيما أحسب - مما نتصور إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية الأسباب فقط.

ومن هنا كانت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم هدفها المحوري هو الارتقاء بالبشرية، والصعود بالإنسانية من المستوى البهيمي أولاً إلى المستوى الإنساني، ثم من أدنى درجة في الإنسانية إلى أعلى درجة فيها حيث تبدأ الرتبة الملائكية.

إذن فالإنسانية التائهة والبشرية الضائعة وجدت ضالتها في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث السمو والرفعة والأمان، لأن الهدف هو الإنسان والغاية هي سعادته ونجاته.

وإذا ما نظرنا في جوانب هذه البعثة السمحاء سنجد ذلك متجلياً في مختلف الأوامر والنواهي، سواء القضايا العقدية أو الوصايا الأخلاقية أو المسـائل التشريعية.

فللإنسان تساؤلاته الكبرى منذ أن ولد على ظهر هذه الأرض: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وكيف أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين المصير؟ وما الغاية؟ ولقد تتابع الوحي الإلهي تترا كما قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون آية 44].

لكي يطمئن الإنسان ويريحه، ويحل له ألغاز الوجود، وينقذه من عذاب التساؤلات، وظلام الحيرة، وقلق الشك، وكلما ابتعد الإنسان عن منارة الوحي هاجمته شكوكه، وأقبلت عليه وساوسه، واستبد به شياطين الإنس والجن، وأحدق به أنصار الشر والفساد. فأراد الله لهذه البشرية الهائمة رسالة خالدة، تحمل أجوبة خالدة، تظل ماثلة أمام العقول، وملامسة شغاف القلوب، فكانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعجزته الخالدة المشرقة في القرآن الكريم. 

ومن نعم الله ورحمته بهذه الأمة أنه تفضل عليها بالقرآن ومثله معه:" ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " (سنن أبي داوود 13 / 324. ومسند الإمام أحمد 37 / 107)؛ ليكون بياناً ساطعاً، ونوراً مشرقاً، يسد الباب أمام عشاق الأوهام، وخفافيش الظلام، الذين ينشطون لأشكلة الواضحات وتعويص الهينات. فجاءت بحمد الله:

- رسالة كاملة شاملة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة آية 3].

غطت كل جوانب الحياة العقدية والتشريعية والأخلاقية، وقام جهابذة العلم فيها بما يشبه المعجزة في التعليم والبيان، والتأليف والإبداع في الأصول والفقه والحديث والتفسير والكلام، وكل ذلك ظل دائماً مشدوداً إلى الأصلين العظيمين الكتاب والسنة.

- هادية منيرة مصحّحة مسدّدة :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } [ سورة النساء آية 174 ] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة آية 15 – 16 ] تخرج الناس من الظلمات إلى النور : من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، ومن ظلمة الشك إلى نور اليقين، ومن ظلمة الخوف إلى نور الرجاء والأمان، ومن ظلمة الجور إلى نور العدل والقسط ، ومن ظلمة العصبية والجاهلية إلى نور الأخوة الإنسانية .

- واضحة بينة: " بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " (سنن أبي داوود – المستدرك على الصحيحين للحاكم – مسند الإمام أحمد – سنن ابن ماجه – المعجم الكبير للطبراني) لا لبس فيها ولا غموض، ولا رموز ولا كتمان، إنها أجلى من الشمس في رابعة النهار غير أن الأعشى لا يراها والأعمى لا يستفيد من نورها.

- ليس فيها حرج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية 78]. 

- سهلة يسيرة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة آية 286] " إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.. " (صحيح البخاري – وسنن النسائي)" يسِّروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا "(صحيح البخاري – وصحيح مسلم). 

- فيها تنوع وثراء في تشريعاتها وتوجيهاتها، تمد الوجود الواقعي والحياتي دائماً بمعطياتها ونصائحها دون عسف أو غمط للواقع، ودون إهمال أو تفريط به.

- وفيها تنوع في خطابها بحسب أصناف الناس وقدراتهم وطاقاتهم من تقاعس أو نشاط، وقوة أو ضعف، فتشجع القوي والنشيط وتحثه على المزيد " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"(صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه) ولكنها لا تقنط الضعيف والفقير " ففي كل خير ".

- وتراعي حال المريض والمحرج والمضطر:{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية : 91 ]{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}[ سورة النور آية : 61 ] {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ سورة البقرة آية 173 ]

- ولا تؤيس العاصي والمخطئ بل تدعوه إلى التوبة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور آية 31] {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 160]. " التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (سنن البيهقي الكبرى وشعب الإيمان للبيهقي أيضاً وسنن ابن ماجه والمعجم الكبير للطبراني).

- ولا تقطع أمل المنحرف والمسرف على نفسه بل تفتح له نافذة من الرجاء والأمل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة الزمر آية 53] لاحظ كيف يصف المسرفين بأنهم عباده ويضيفهم إلى نفسه، ثم ينهاهم عن القنوط واليأس من رحمة الله، ثم يعدهم بمغفرة الذنوب جميعاً دون استثناء، ثم يعقب ذلك بوصف نفسه بالمغفرة والرحمة. ثم تأمل في هذه الآية كم فيها من معاني الرجاء للعصاة والمذنبين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران آية 135].

- كما أنها بعدلها وإنصافها لا تسوّي بين الكسول المتقاعس والنشيط الجاد، ولا بين المهمل المقصر وصاحب الهمة والعزيمة، بل تفتح الباب لكل واحد منهما للرقي والسمو، وذلك عبر المراتب الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان.

فمن أراد أن يرقى فدونه الجبل لا أحد يمنعه، ودونه القمة فليتسلق إليها لا أحد يدفعه. {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }[ سورة الإسراء آية 19 ] فمن يعمل ويسعى ويجاهد ليس كمن ينام ويتقاعس:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [سورة العنكبوت آية 6 ] وليس الناس على درجة واحدة من الهمة والعزيمة والقصد { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [ سورة فاطر آية 32 ] 

- والإسلام طَموح ويعلم أبناءه الطموح والهمة العالية " يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ..."(سنن الترمذي وسنن النسائي الكبرى وصحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد والمعجم الكبير للطبراني) ويربط الرقيّ بالعمل، بل بإتقان العمل أيضاً، ويدعو أبناءه إلى طلب القمة والسعي إليها " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى "(صحيح ابن حبان والمعجم الكبير للطبراني).

هذه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، رسالة الإنسان، رسالة السعادة، رسالة الحضارة رسالة العدالة، رسالة الرحمة. لا تنظر إليها من زاوية من الزوايا إلا وتجد فيها التشوّف إلى سعادة الإنسان وراحته، ومنفعته وقد يدرك الإنسان أبعاد هذه المنفعة والسعادة وقد تخفى عنه فلا يلاحظها إلا بعد حين. 

إنها رسالة تراعي سر الخلق في كيان الإنسان، لأنها تنزيل من العليم الخبير {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [ سورة الملك آية 14 ] فالإنسان مكوّن من جسد ونفسٍ وعقل وقلب وروح ، هذه هي كينونة الإنسان، وكل جزءٍ من هذه الكينونة له متطلباته وحاجاته، له غذاؤه الذي يليق به ، فجاءت رسالة الإسلام خاتمة الرسائل متوائمة مع متطلبات هذه الكينونة، تقيم التوازن في تلبية حاجاتها، وإن أي خلل في تلبية أجزاء هذه الكينونة يؤدي إلى شقاء الإنسان، فللروح غذاء العبادة والتبتل، وللجسد غذاء الطعام والشراب، وللنفس الطيبات من الرزق، وللعقل العلم والمعرفة ، وللقلب التفكر والتدبر ، وإذا ما طغى جانب من هذه الجوانب على غيره فإنه يؤدي إلى اختلال في توازن الإنسان ، وانفراط في نظامه فيشقى الإنسان [ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ] [ سورة طه آية 124 ] . 

فجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة الرحمة لتحفظ نظام الكيان الإنساني من الانفراط، وعقد الكينونة من الاختلال، فأعطت كل ذي حق حقه " فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا..." ( صحيح البخاري – وسنن النسائي وصحيح ابن حبان وغيرهما) ورفضت نظام الترهبن والانسحاب من الحياة " أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وإني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " ( صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما) .

فكانت تشريعاً معجزاً بديعاً، تستطيع أن تقول وأنت واثق من نفسك: إن نظام الرسالة المحمدية الكوني ينسجم تماماً مع الكون، وتتطابق بشكلٍ رائع آيات القرآن مع آيات الكون، كذلك إن نظام الرسالة التشريعي يتطابق بشكلٍ عجيب مع نظام الكينونة الإنسانية فرداً ومجتمعاً {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك آية 14]. 

هذه رسالة الإسلام ، رسالة الإنسان ، رسالة الرحمة الإلهية ، وفي كثير من الأحيان يجهل الإنسان بدوافع من رغباته وأهوائه كم هو محظوظ، لأنه يتقلب في ربيع النعمة الإلهية ، والبركة المحمدية فيعرض الإنسان فرداً أو جماعة عن الاحتماء بمظلة الإسلام ، ويهيم ملاحقاً شهواته في فيافي الأوهام، ومفاوز الآثام ولا يكتشف ضلاله وضياعه إلا بعد فوات الأوان ، وكان يكفي الإنسان لكي يقي نفسه هذا الضلال والتيه أن يثق بربه ، ويقبل رسالته الهادية، ويقبل رسوله المبلّغ المبشّر، ويعتصم بحبله المتين ،ونوره المبين، فيوفر على نفسه ألواناً من الضنك وأشكالاً من الخيبة في مسيرة الحياة .

وهذا ما عمل وجاهد من أجله الأنبياء جميعاً عبر الأحقاب الزمنية المتوالية، ثم جاء خاتمهم المصطفى صلى الله عليه وسلم ليكمل البناء وينير الطريق وينشر العدل ويتمم الهداية.

فكان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للبشرية في الأخلاق والأعمال، وكان الأسوة الحسنة لمن أراد أن يرقى في مدارج الكمال، وكان النموذج المتألق في التأنق والتحضر والجمال، وكان العلم الباسق في الرزانة والرصانة والثقة والاتزان والاعتدال صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن منفصلاً عن الناس يعيش في برجه العاجي، بل كان يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون وينام كما ينامون.

" ينام على الحصير فيؤثر في جنبه حتى يبكي سيدنا عمر تأثراً على حال رسول الله " (صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما) 

"" وتمر الليالي والشهور ولا يوقد في بيته نار "(بَلْ كَانَ هَدْيُهُ أَكْلُ مَا تَيَسّرَ فَإِنْ أَعْوَزَهُ صَبَرَ حَتّى إنّهُ لَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَيُرَى الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَلَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ. راجع زاد المعاد لابن القيم 1 / 142) أي لا يوجد ما يطبخونه. 

"" ويشد الحجر على بطنه من الجوع " (راجع تهذيب الآثار للطبري 21 / 3 وحلية الأولياء لأبي نعيم 137 / 2 والسيرة النبوية لابن كثير 188 / 3. وسبل الهدى والرشاد 104 / 7.) 

" ويمر على نسائه فلا يجد طعاماً فيقول إني صائم "(سنن النسائي وسنن البيهقي الكبرى الكبرى).

"ويطوي الأيام ثم إذا وجد الخل أكل منه فحمد الله ثم قال نعم الإدام الخل ". (أخرجه مسلم) 

{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ...} [سورة التوبة آية 128]. أجل إنه صلى الله عليه وسلم من أنفُسنا ومن أنفَسنا، حريص علينا، شفوق بنا، يحزنه عصياننا وانحرافنا، رؤوف رحيم بنا، يقف على الصراط ويقول:

" رب سلم رب سلم " (أخرجه مسلم) ويطيل السجود والدعاء والتبتل يدعو لأمته بالنجاة والسعادة والهداية. ويوم القيامة يسجد تحت العرش فلا يرفع رأسه حتى يقال له: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع! فيقول: يا رب أمتي. (الحديث في البخاري) لقد جعل همه هماً واحداً هو رضوان الله جل شأنه ، وتفرع عن هذا الهم حرصه الشديد على أمته رحمة ورأفة ورجاءً وهذا ما يعبر عنه هذا الحديث الشريف "" حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - - يَقُولُ : « إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا ، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ، وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا "( الحديث في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما).

إن غايته الكبرى هي نجاة أمته، نجاتها في الدنيا من دار الغرور، وفي الآخرة من العذاب الحرور، فهو لم يكن يخشى علينا الفقر، بل كان خوفه علينا من الدنيا وانبساطها وإغرائها أشد كما قال للأنصار ذات يوم: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ». (أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما) 

وقال لسيدنا عليّ يوم خيبر: " فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» (أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما) لأنه سيكون سبباً في إنقاذ رجل - بل ربما أسرة ممتدة إلى يوم القيامة - من الشقاء الأبدي والجحيم السرمدي.

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين