العشر الثانية من الهمسات الخطابية في براعة الإلقاء وفن الخطابة (2)

 

أخي الكريم 

- خطيبًا 

- محاضرًا 

- موجّهًا 

- تربويًّا 

- دعويًّا 

- إعلاميًّا 

هاتِ يدك لنمضِي في العشر الثانية في دوحة تحسين المقال، وطيب الكلام.

1- إنَّ وسيلة التواصل مع المستمعين والجمهور هو اللغة، واللغة بحر خضمّ لا يجفّ، فمن الضروري الاعتناء بالألفاظ والتراكيب والجمل لأنها زينة الخطبة وأداة بلوغها للعامة، فحريٌّ بك أن تمثّل التراكيب والجمل لتعطي الصورة التي تريدها مرئية للمستمعين.

أمَا تلحظ أن الله تعالى حين أراد تحذير عباده من الانزلاق في مهاوي الردى قال: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين}

إنَّ هذه الآية صورت لك ضعاف الإيمان والقلوب بمن يمضي على طرف الطريق وحافّته وهو معرّض لأن يهوي في وادٍ سحيق، بأي فتنة تعترضه.

نعم أرِهم الصورة التي تريد، وأسمعهم الأصوات التي تريد، بتلك الأداة العظيمة وهي اللغة العربية التي جعلها الله تعالى لغة كلامه في القرآن الكريم حيث قال:{ بلسان عربيّ مبين }.

2- احذر من الاسترسال غير المنضبط، والحديث عن غير الموضوع الذي انطلقت به، إذ إنَّ هذا استطراد مذموم يشوّش الأذهان عن صلب الموضوع، ويضيّع الفكرة، ويتعب السامعين، ويضطرّك لأن تطيل في الخطبة.

وتكون خطوات الحذر من الاستطراد هو استحضار عنوان الخطبة في الدرجة الأولى، ثم الأفكار الرئيسة التي ستوضّح فكرة الخطبة وتعالج الموضوع في الدرجة الثانية، مع التنبه إلى عدم الإطالة في إحدى الأفكار على حساب الأخرى.

أخي الملقي:

البلاغة في الإيجاز، والقليل المنتظم خير من الكثير المتناثر، وأن يخرج المستمعون وهم يطلبون المزيد خير من أن تُعرِض قلوبهم من طول الخطاب، وتنافر الأفكار، وتناثر الموضوعات، وقلة الانتفاع.

3- تأليف القلوب، وتحبيب الجمهور، وجذب مشاعر المستمعين بألفاظ التودد والتوقير، وإظهار احترام الجميع أدعى للتأثير في النفوس، وإيصال الأفكار.

فقد يخطئ البعض في زجر المستمعين على العموم وتغليظ القول من شدة الخطب، وقد يكون هذا عن حسن نية من الخطيب، ولكنه مزج بين شناعة الفعل وتغليظ القول فيه، وبين الغلظة على المستمعين، ووضعهم في قفص الاتهام.

وإن من المعاريض لمندوحة عن هذا التشنيع على منهج النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا..".

4- مراعاة الفروق الفردية عند الخطاب، ليحظى كلٌّ من المستمعين بنصيبه من الخطبة، فتشمل الخطبة اللافت للانتباه، والجديد على الأسماع، والجزل من الألفاظ، والعميق في المعاني، وذلك للجهابذ والنخب والأفذاذ.

ثم للمستمعين من العامة فيوافق أذواقهم وأفكارهم، ويحرك مشاعرهم، ويقدّم لهم التذكرة والجديد، والنافع الناجع الحميد.

وأخيرًا لا بد من أن يحظى المتأخر بفائدة، وذلك بأن يفهم مضمون الخطبة وفكرتها الرئيسة العامة - على أقل تقدير -

5- لا تظنّنّ أنه من المطلوب منك أن تحفظ خطبتك غيبًا، لتؤديها غيبًا - عن ظهر قلب -

بل حضّر خطبتك وأعِدّ لها لتمتلئ قناعاتك الداخلية بها، ثم خاطب الناس بملء شعورك، ورقّة إحساسك، وعظم قناعاتك، لتدخلهم في عالم فكرتك بأقصر الوسائل، وأيسر الطرق.

إن الخطبة ليست بكلمات مدوّنة على الأوراق، يتلفّظ بها أحدنا على مرأى ومسمع من الناس، بل الخطبة فكرٌ ودعوة، وأحاسيس ومشاعر، ومفعمة بعاطفة جياشة، تثير العامة للمضيّ قُدُمًا إلى الأمام.

6-استفِد من غيرك، وأفِد غيرك، فالخطابة والإلقاء تراكم خبرات، ونتائج تجارِب، وفنّ يجمع بين الماضي والحاضر، فكن صاحب استماع وإنصات للآخرين وإصغاء لهم. وتنبّه لأولئك الذين ينصتون لك فأرعهم اهتمامك، وانقل خبرتك لهم، فالأمة مفتقرة إلى من يدخل هذا المضمار ويمضي في حَلَبَة السباق.

7- اعتنِ بلغة الجسد، وحركة اليد المنضبطة بالكلمة والفكرة، والالتفات المتوازن الذي لا يُغفل القاصي ولا الداني.

واعلم أن تعابير الوجه ولغة الجسد ترفع عنك ثقل إيصال الفكرة بنسبة كبيرة جدًّا، وهي وسيلة لتعزيز رسالتك وإبعاد الملل، بل تشدّ انتباه المستقبِل، وتوصل له الفكرة بصورة أسرع.

8- خذ جرعاتٍ ثقافيةً دائمة منتظمة، لتدرك ما يجري من حولك وما يحيط بمجتمعك، وما يحدق به من مخاطر. فلا يكفي أن تحمل في جعبتك كمًّا هائلًا من العلوم التي تختصّ بها، أو الموضوع الذي تتحدّث عنه، بل لا بدّ من أن تحمل زادًا من الثقافة والوعي، لتنتقي للمستمعين بلسم الجراح، ودواء السقام والأمراض التي يعانون منها.

9- لا تقرأ خطبتك من الورقة، ولا تعوّد نفسك على رفعها معك إلى المنبر، إذ مهما كان تواصلك مع المستقبِلين مميّزًا فإن النظر إلى الورقة المكتوبة سيضعف هذا التواصل لأنك أفقدتهم نظرتك، وأشركتهم ورقتُك.

وبالطبع فإن قراءة الخطبة من الورقة لها ميّزات، فهي تضبط الموضوع بعناصره، وتنقل النصوص بدقّة متناهية كما تم تحضيرها، ولكن الخطابة إلقاء مباشر، ونقل أحاسيس ومشاعر لا قراءة بيان رسميّ، أو مدوّنة قواعد، أو قرار قضاء.

والمتلقّون سيعفونك عن عدم التناهي في الدقة اللغوية والأكاديميّة، مقابل أن يستمعوا لخطاب يعتنون به، وتشرئبّ أعناقهم له.

خذ القرار من الآن، وذرِ الورقة قبل أن تمتطيَ منبرك، وستجد نفسك حرًّا طليقًا من كل مؤثّر خارجيّ، ولن يخرج من فيك عندها إلا ما وقر في قلبك واستقرّ في عقلك.

وستلحظ النور يضيء من فيك إلى قلوب المستمعين، من دون عوارض أو مشوّشات.

10- كثير من السادة الخطباء يتخذ سلسلة من الخطب مترابطة بعضها مع بعض، وهذا له إيجابياته وثماره ولكن ينبغي على الخطيب أن يضع نصب عينيه أن المتلقّين منه ربما لم يستمعوا خطابه بالأمس، أو لم يتسنّ لهم الربط مع الخطب السابقة ومن هنا فعلى الخطيب أن يبني خطبته باستقلالية تامة عن الخطبة السابقة بحيث يستوعب المستمعون الجدد - ومن في حكمهم - الخطاب منفصلًا عن الخطاب السابق واللاحق.

وحبذا لو يمهّد الخطيب لخطبته بما تناوله بالأمس بصورة موجزة مختصرة ثم يشرع في خطبته الجديدة.

ولنتنبّه إلى أن الخطب المتسلسلة تولّد لدى المستمعين التشوق والمتابعة لحلقة جديدة من السلسلة الخطابية والتطلع بتشوف لإتمامها، على ألّا تطول السلسلة بذاتها بحيث يضيّع آخرُها أولها.

ولا حرج من قطع السلسلة لحدث مهم يقتضي معالجته في الخطبة مما لا علاقة له بالسلسلة لكيلا تكون الخطب المتسلسلة قيدًا سلبيًّا تحول بين الخطيب وواقعه وما فيه من مستجدّات.

t.me/waddahaboalnour

  انظر الحلقة الأولى على الموقع في هذا الرابط هنا 

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين