العسكرية الإسلامية: تاريخ جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3)

فإن الرجل لحبه لولده، أو لعتيقه، قد يؤثره (1) في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، وكذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، يأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه (2) في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته(3).

لقد ولَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه قيادة الصحابة بعد إسلام خالد مباشرة(4).

وما يقال عن خالد بن الوليد يقال عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقد ولاه قيادة الصحابة بعد إسلام عمرو مباشرة(5).

وقال عنها لأصحابه الذين كانوا من حوله: (ألقت اليكم مكة أفلاذ كبدها) (6).

وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه غنياً، فأفاد المسلمون من ثرائه، ولم نسمع(7) أنَّ الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام كلَّف عثمان منازلة الأقران يوم الطعان.

وكان حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه شاعراً مجيداً، فاستفاد المسلمون من قابليته الشعرية، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجعله مع النساء عندما يتوجه للجهاد.

وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعدُّون من أشجع الشجعان، ولكنهم بقوا جنوداً في جيش المسلمين، ولم يتولوا مناصب قيادية، لأنهم كانوا جنوداً متميزين، ولم يكونوا قادة متميزين.

وكان من بين أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم من يُحسن القراءة والكتابة، فجعلهم كتاباً للوحي ومحررين لرسائله إلى الملوك والأمراء.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف حق المعرفة كل مزايا أصحابه، فيُفيد من تلك المزايا ويُبرزها للعَيَان، ويشجع أصحابها ويثني عليهم أطيب الثناء.

ولكنه في الوقت نفسه، يُغض الطرف عن النواقص ويتستر عليها ويبذل جهده لإصلاحها، ولا يذكرها بل يذكر المزايا فحسب، ويأمر أصحابه بذكر مزايا اخوانهم فحسب أيضاً.

واستفادته عليه الصلاة والسلام من كل مزية لكل مسلم، واستقطاب تلك المزايا لبناء المجتمع الإسلامي الجديد، فلا يضع لبِنَة إلا في مكانها اللائق بها والمناسب لها، جعل هذا البناء يرتفع ويتعالى سليماً مرصوصاً يشد بعضه بعضاً.

وكان ذلك سببا من أهم أسباب انتصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عسكريَّاً وسياسيَّاً واجتماعيَّاً واقتصاديَّاً، وفي أيام الحرب وأيام السلام.

فلما التحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، خلف بين المسلمين عدداً لا يكاد يعد ولا يحصى من القادة والأمراء، والولاة والجباة والعلماء والفقهاء والمحدثين، قادوا الأمة الإسلامية عسكريَّاً وسياسيَّاً وإدارياً ومالياً واجتماعياً وفكرياً إلى المجد والسؤدد والخير، والى الفتح والنصر والتوفيق، والى طريق الحق وسبيل الرشاد.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديت)(8)، فهؤلاء هم القادة الرواد، من خريجي مدرسة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام.

لقد نسي النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وركَّز على تفكيره عملاً دائباً لمصلحة المسلمين.

استطاع بالدعامة الأولى: العقيدة الراسخة، أن يجعل من ضمير الفرد رقيباً عتيداً عليه، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وأن يجعل من المجتمع الإسلامي أخوة متحابين في الله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]).

واستطاع بالدعامة الثانية: القدوة الحسنة، أن يجعل من الفرد المسلم مؤمناً بأن العقيدة الإسلامية قابلة التطبيق عملياً، وأنَّ ما لا يمكن أن يكون، يمكن فعلا أن يكون، وأن يجعل المجتمع الإسلامي مؤمناً بأنه المجتمع المثالي الذي يؤمن بعقيدة مثالية جاءت لمصلحة المؤمنين والناس جميعاً ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].

واستطاع بالدعامة الثالثة: اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب، أن يجعل الفرد المسلم يعتمد على قدرته وكيفياته وإيمانه للتقدم لا على حسبه ونسبه وانحرافه عن مبادئه،، ويجعل المجتمع الإسلامي يثق بعدل القيادة وترفعها عن التحيُّز والأهواء.

هكذا أعدَّ الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم الفرد المسلم، وكل فرد مسلم جندي مجاهد في جيش المسلمين، مؤمناً بعقيدته الراسخة، واثقاً بقيادته الأمينة، لا يخشى على مستقبله الظلم والانحراف، مطمئناً على حاضره غاية الاطمئنان.

وهؤلاء الأفراد يؤلِّفون المجتمع الإسلامي، وهو جيش المسلمين المجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، يشيع فيه الانسجام الفكري بالعقيدة الراسخة، يثق بقادته، ويتولَّى أمره الزبدة المختارة من أبنائه من أصحاب الكفايات العالية والقابليات المتميزة والايمان العميق والماضي المجيد.

هذا المجتمع الذي يدافع عن عقيدته ويحملها إلى الناس كافة لا يحملهم عليها، ويدافع عن أرضه وعرضه - ولا أقول عن أعراضه، لأن عرض كل مسلم عرض المسلمين جميعاً، كل أفراده يتساوون بالحقوق والواجبات، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم قوة على سواهم، ليس بينهم تمييز طبقي ولا عرقي، هو جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومثل هذا الجيش لا يقهر أبداً ولا يتقهقر أبداً.

-5-

وجيش المسلمين الأول في تاريخه، يتلخص بأربعة أدوار، تدرج بها من الضعف إلى القوة، ومن الدفاع إلى الهجوم، فأصبح بالتدريج قوة ضاربة ذات عقيدة راسخة ومعنويات عالية، تعمل تحت قيادة واحدة، لتحقيق غاية واحدة.

وهذه الأدوار الأربعة هي بحسب تسلسلها الزمني وتطورها التدريجي: الدور الأول هو دور الحشد: من بعثته صلى الله عليه وآله وسلم سنة (610م)، إلى هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة سنة (622م) واستقراره هناك.

وفي هذا الدور، اقتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الدعوة ونشرها: يُبشِّر وينذر، ويرسِّخ العقيدة، ويجاهد بكل طاقاته لتبليغ الدعوة ونشر الإسلام.

وبهذا الجهاد الأكبر، كوَّن الخميرة الأولى لجيش المسلمين، ثم حشدهم في المدينة المنورة بالهجرة إليها، فكانت المدينة في القاعدة الأمينة الأولى لجيش المسلمين.

والدور الثاني، هو دور الدفاع عن العقيدة: وقد اقتصر في السنة الأولى من الهجرة على تنظيم الجيش الإسلامي وإعداده للجهاد.

وبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول آية الأذن بالجهاد الأصغر: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ﴾[الحج: 39-40] ، يرسل السرايا بقيادة القادة من أصحابه، وقاد بنفسه الغزوات، وانتهى هذا الدور: دور الدفاع عن العقيدة، بانسحاب الأحزاب عن المدينة المنورة بعد (غزوة الخندق) في شوال من السنة الخامسة الهجرية(9)، وقيل في ذي القعدة سنة خمس الهجرية(10) ومعنى هذا، أن هذا الدور استمر أربع سنوات تقريباً.

وفي هذا الدور كان مولد الجيش (تنظيمياً)، مولد الجيش الإسلامي جيشاً مجاهداً في ظل مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فازداد تعداد المسلمين وأحرزوا انتصاراً حاسماً في غزوة (بدر الكبرى) في رمضان المبارك من السنة الثانية الهجرية(11)، وأثبت جدارته في الدفاع عن العقيدة الإسلامية، وعن الدعوة الإسلامية، وعن حرية انتشارها بين الناس، تجاه أعداء المسلمين من المشركين والمنافقين ويهود، المتفوقين على المسلمين عَدَداً وُعًدَدا.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

(1) يؤثره : يفضله ويقدمه.

(2) المداهنة: المصانعة والمواربة.

(3) السياسية الشرعية : 11.

(4) أسد الغابة (3/382) والاستيعاب (7/1034).

(5) المصدر السابق.

(6) المصدر السابق.

(7) سنن النسائي (2/124) وانظر حاشية السندي على هامش سنن النسائي (2/124).

(8) رواه البيهقي في السنن ، انظر مختصر الجامع الصغير للمناوي مصطفى محمد عمارة (1//389).

(9) الدرر 179، وعيون الأثر 2/55.

(10) طبقات ابن سعد 2/65 ، والمغازي للواقدي 2/440.

(11) سيرة ابن هشام 2/266 ، وطبقات ابن سعد 2/12 ، والدرر :110، والمغازي 1/2، 1/21 ، وعيون الأثر 1245.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين