العدوان الثلاثي في الإعلام على وعي العوامِّ -4-

كلُّ ما رأيتَ فيما سبق من ضروب المسخ البنيوي يُنبئُ بأن للعدوان الثلاثيّ على الوعي جراثيم هجوميّة وأخرى ناشرة، منها المعلوم ومنها المجهول، وكلها تتآزر لتبث سمومها بمخلبين أو نابَيْنِ هما من أخطر أسلحة تلك الجراثيم صناعةً ونشرًا وانتشارًا وحراسةً:

الأول: الإضرامُ المستمرّ بغلوٍ وإيغالٍ في رُهَابِ الثنائيات، وتأجيج نيرانها بوَقودِ المغضوبِ عليهم الذين أنبتَهم أو استنبَتَهم المفسدون في الأرض وعيونُهم وعملاؤهم ووكلاؤهم ومخابراتهم وإعلامهم، والشيء من معدنه لا يُستغرَب؛ فهؤلاء دأبهم وديدنهم الغلوّ في تشبيبِ أُوار النيران بين المختلفين في تبنيهم لفكرٍ أو رؤيةٍ أو تصوُّرٍ أو مذهبٍ أو دينٍ أو عرقٍ أو سياسة، وبين المتنازعين جرَّاءَ انتمائهم إلى حزبٍ أو مدرسةٍ أو حضارةٍ أو تجمُّعٍ أو جماعةٍ دينية أو دنيوية.

والآخَر: غلوُّ الإعلام التقليدي والرقمي وبرامجه وكتَّابه ومتحدِّثيه وسَدَنَةِ سادتِه المستثمرين تجارَ الدمِ والدِّين، لا سيما أولئك الإعلاميين الذي يستغلون مبدأ حرية الإعلام لتجنيد ألسنتهم وعقولهم وأقلامهم ومصوِّراتِهِم ومهاراتهم الفنية وأحكامهم المطلقة خدمةً للمفسدين في الأرض ومخابراتهم، بل إنَّ غلوَّ هؤلاء لطالما تجاوز المبالغة إلى الكذبِ الصريح باستعلاءٍ وصفاقة، فحقيقٌ بأحدهم لقب الكذَّاب الأشر لا الغالي في مبالغاته إحقاقًا للحق بتسمية الأمور بأسمائها، وهذا ليس من الجفاء والفظاظة في شيء كما سيأتي في الحديث عن تزييف المصطلحات؛ فعلى قدر الجريمة يكون التوصيف (وقد أثبت علم نفس الجماهير كما أكدت الخبرة أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار الملح لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع، وتنظر سيكولوجية وسائل الإعلام الجماهيرية إلى التلفزيون على الأخص باعتباره وسيلةً، ليس لإخضاع الإنسان فحسب بل الجوانب الغريزية والعاطفية بحيث تخلق فيه الشعور بأن الآراء المفروضة عليه هي آراؤه الخاصة، وهكذا أصبح التليفزيون تهديدًا للحرية الإنسانية أكثر خطرًا من البوليس والسجون ومعسكرات الاعتقال السياسي، وأعتقد أن الأجيال القادمة -ما لم تكن قدرتها على التفكير قد دُمِّرت تمامًا- سوف تُصدم باستشهاد الجيل الحالي المستهدف بدون عائق لتأثير هذه القوة الضاربة التي لا رابط لها؛ فإذا كانت الدساتير في الماضي توضع للحد على سطوة الحكام فإن دستورًا جديدًا سنحتاج إليه لكبح جِماح هذا الخطر الجديد الذي يُهدِّد بإقامة عبودية روحية من أسوأ الأنواع)(1).

في عصر الإعلام الرقمي بدأنا نرصد ظاهرةً عُجابًا مضتْ سنةً في شبكات التواصل والفضاء الإعلامي الغادر بالوعي بسيفٍ ماضٍ مسمومٍ؛ فاليوم نشهد (رحلة انتقال "الحمقى والمغفلين" من كتب الأخبار إلى شاشات الأخبار، فما رواه كُتَّاب الأخبار والأمثال والطرائف في كتب الأدب وأخبار الحمقى والمغفلين لم يعد يُقال الآن للتندُّر والضحك ومجالس الفكاهة، بل صار يقال في وسائل الإعلام على أنَّه حقائقُ جادة، وحين ينتقل الحمقى والمغفلون من خانة النوادر إلى منافذ التوجيه والتأثير ينتقل معهم الناس من النور إلى الظلمات، يشترون الضلالة بالهدى وهم لا يبصرون)(2).

روى ابن قتيبة في عيون الأخبار أن أبا حية النميري -وكان مشهورًا بالجُبن والكذب والكِبر- سمع يومًا صوتًا فظنَّه لِصًّا، (وكان له سيف ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان يسميه لعاب المنيَّة، فانتضاه وشمَّر وهو يقول: أيها المغترُّ بنا والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به مشهور ضربته لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك، إني والله إن أَدْعُ قيسًا تملأ الأرضَ خيلًا ورَجِلًا، يا سبحان الله، ما أكثرها وأطيبها! ثم فتح الباب فإذا كلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخكَ كلبًا وكفاني حربًا)(3). (واليوم يُبعث أبو حية هذا إعلاميًّا له قناة، يستطيع إقناع الناس حقًّا بأن الذي في يديه كان سيفًا صقيلًا، وأن الذي حاول التهجم عليه كان بشرًا وقد مسخه الله كلبًا!)(4) وإنك مهما تكن قاطعًا بهول أساليب تثبيتِ الكذب المزيِّف للوعي فإنك على أهوال القطع بتكذيب الحقيقة المعاينةِ أقوى وأشد {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15]، يُروَى أن صيَّادين أبصرَا شبحًا أسود على قِمّة تلٍّ، فقال أحدهما لصاحبه: إنما هو غراب، وقال الآخَر: بل هو عنزة، وبينما هما فيه يختصمان إذا به يطير، فقال الأول: ها هو الغراب قد طار، فقال له صاحبه: عنزة ولو طارت! وتلك هي سنة كُبراء الجاحدين الذين يستهدفون تزييف الوعي: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].

وإنك لَترى إعلامَ الإجهازِ على الوعي في دولتَي فرعون وموسى لا ينفكُّ عن التلبُّس بالخديعة والغررِ والجهالةِ والنفاق لتلبيس الأمور على جنادب العامَّة وفَرَاشهم بفنون التغرير والتجهيل في ثياب التمثيل والفُكاهة والفجيعة أي الكوميديا والتراجيديا وما يلازمهما من مخدرات العقول كتحريش النفوس وتهييج الغرائز في التمثيل والفكاهة وكالندب والعويل في الفجيعة والتراجيديا، والأمرُ في ذلك دُوَلٌ فهم بالأمس سحرةُ فرعون واليومَ سامرة قوم موسى ومنافقوهم، حتى إذا انجلت الأمور كالشمس في رابعة النهار توارَوا فلا تسمع لهم ركزًا، ولن تعثر لهم على اسم ولا رسم، ثم يظهر غيرهم ليقوم بما قد أسند إليهم، وهؤلاء أشدُّ وأنكى بوعي العامَّة من إعلامِ الأمس الذي كان يتدثر بثوب الحرباء، وإن كان الثاني سليل الأول، وفي الأساطير ما يقرِّب إلى الأذهان ماهية حبال هؤلاء السحرة وعصيهم، يُروَى أن أرنبًا وضَبًّا اختصما فاحتكما إلى الثعلب:

الخصمانِ: يا أبا حسل، الثعلب: سميعًا دعوتما، الخصمانِ: جئناك لتحكم بيننا، الثعلب: عادلًا حَكَّمْتما، الخصمانِ: فاخرج إلينا، الثعلب: في بيته يُؤتى الحَكَم، الأرنب: وجدتُ تمرة، قال: حلوة فَكُليها، الأرنب: فخطفها الضبُّ، الثعلب: ما أراد إلا الخير، الأرنب: فضربتُه، الثعلب: بِحَقِّك أخذتِ، الأرنب: فضربني، الثعلب: حرٌّ انتصف لنفسه، الأرنب: فاحكم بيننا، قال: قد حكمت. وإلى اليوم لا أحد يدري بم حكم أبو حسل؟!

في الإعلام يمتاز خوارجُ الفكر وبُغاةُ الوعي بسرعة البداهة واستمراء الكذب إلا أنَّ بغاياهن أمهر من بغاتهنّ، فلا عفة لهنَّ في لسانٍ ولا فكر، ولا حياءَ يَزَعهنَّ ولا سيِّد يُكرِهُهنَّ، شعارهنَّ: أَلِّف، ولا تقل: لا أعرف، هذا ومما اشتهر في آداب العرب أنَّ ابن صاعد الأندلسي كان ذا بديهة عجيبة لكنه كان كذّابًا، وكان يَدَّعي العلم في كل أمرٍ، فيخترع ولا يقول: لا أعرف، حتى قيل له يومًا: "ما هو الخنفشار؟"، فانطلق يقول في ثقة وثبات: "نباتٌ ينبتُ في أطراف اليمن، أبيض الثمرة بلا رائحة، إذا شربته العير انعقد لبنها، وقد قال الشاعر:

لقد عقدت محبتها بقلبي=كما عقد الحليبَ الخنفشار

والحقيقة أنه لا شيء اسمه الخنفشار، وإنما أراد السائل أن يفضح ادَّعاءه العلم، ولا أصدق في هذا الضرب من قول الكاتب الساخر جلال عامر: "كان بالإمكان أن أكون خبيرًا استراتيجيًّا لكني فضّلتُ أن أُكمِلَ دراستي"، فهم من فرط الجهل بمكانٍ وإنِّما يبرِّح بنا الأسى لعجز أهل الحق عن مقاومتهم وتصديق العامة لهم حتى إنَّ تصديقهم لهم في شأن محرقة رابعة وكيماوي بشار أغرب وأعجب من تصفيق قومٍ وإشادتهم بعلمِ من سُئل: متى وُلِدت؟ قال: وُلِدتُ غُرَّةَ الهلالِ في نصف رمضان بعد العيد بأسبوع! فاحسبوا كيف شئتم!" وسُئل: ماذا تشتهي؟، فقال: رأس كبشيْن، فقيل له: ذلك لا يكون، فقال: فَرَأْسَيْ كبشٍ! ومثله أنَّ الإمام أبا حنيفة كان في مجلس فيه رجل وقور، فثنى الإمام قدمه احترامًا له، فلما تكلّم الرجل سأل الإمام وقال: "ماذا لو غربت الشمس في أذان الظهر هل يجوز للصائم أن يُفطِر ظهراً؟!، ساعتئذٍ قال الإمام كلمته السائرة: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه".

أمَّا العامَّة الراضون بمجزرة الوعي هذه دون أن يستبشعوا دماءها ولا ينكروا عقابيلَها ولا يكترثوا بعواقبها ولا يطلبوا ديةً ولا عقلًا من قتلةٍ أو عاقلةٍ فإنَّما حملهم على ذلك ظنهم أنَّ الحماقة تُطعِم أما الكياسة فلا تسمن ولا تُغني من جوع، يروى أنَّ الشاعر الحمدوني كان يتحامق -أي يصطنع الحماقات-، ولما عاتبه العقلاء في هذا قال: "حماقة تعولني خير من عقل أعوله!"، وأنشد:

عذلوني على الحماقة جهلًا=وهي من عقلهم ألذّ وأحلى

حُمْقي اليوم قائم بعيالي=ويموتون -إن تعاقلتُ- ذُلًّا

ومن أخفى أضراب الغلوِّ في الأحكام وإعلام الحكَّام أن تَجْمعَ في موضعٍ واحد أو في مقامٍ وخطابٍ واحد كلَّ ما قيل عن معنى أو شخص أو أمرٍ ما أو واقعة علمًا أنك إن نظرت في مفردات ما جمعتَ لم تر فيها مبالغة، لكن جمعها وسوقها في مقامٍ أو خطاب واحد يغدو كذلك.

إن لِلُّغة الإعلام المشبعةِ بالمبالغة في الأحكام والتصورات أثرًا اجتماعيًّا لا يكاد يجهله أحد، بل يمكن القول إنها حالة مَرَضية غير مُرضية لأحد وما من أحد إلا وبه منها لوثة، فهي أحدُ عوامل الحروب وتضليل العامة في تبيُّنِ الحقائق، والباعثُ على تكفير قوم لشخص وتقديس آخرين له، ومؤشِّرٌ على الانحطاط الحضاري لدولةٍ ما كما تشهد على ذلك أحوال دول التخلف والانحطاط، فبينما كانت سورية ريشةً في مهب رِيح انبرَى إعلامها ليبثَّ ما يقوله عضو في مجلس الشعب يطري سفَّاحها الكيماويّ قاتل المليون ناعقًا: قليلٌ لمثلِك يا سيادة الرئيس حكمُ سورية بل حقيقٌ بكَ أن تحكم العالَم!

هذا وقد اعتاد الإعلام على تضليل وعي العوامِّ، فأغرى مجتمعنا بحروب المثالية والواقعية، وغدا فريقٌ من مجتمعنا حالِمًا بالمثاليات الفرضيات، فهو ينسج له صورًا خيالية ومثاليات من العسير تحقيقها، لذا تجد مجتمعنا لا يتفق على شخصية تمثله لأنه ينزع إلى شخصية خيالية الأوصاف والقدرات لن يجدها في بني البشر.

هذا؛ وغالبا ما تلفي المغرم بالمبالغة قد انعدمت ثقته بنفسه وعاش تجارب خاسرة فاشلة فيجد في إطلاق الأحكام والصفات عوضًا عما فات وكأنها منظومة دفاعية يستر بها سوءة خسارته وهزيمته فإذا به يؤكِدها من حيث لا يعلم(5).

وكل من قَتَل الوعي بسهام الغلو في إطلاق الأحكام فقد أحيا في نفوس مرضى القلوبِ أدواءً، وبعث فيها أمراضًا تجمع للفرد والمجتمع: الوهمَ والإيهامَ، والغَيَّ والعِيَّ، والمراء والنفاق، والاستكبار والتعالي والمكر، والتمادي في الباطل وتنكب طريق الحق، والموازين المختلَّة والطبائع المنحلَّة، كما أنَّ ثمةَ من أماتَ بحراب صفاته المطلقة وأحكامه المثبِّطة: قلوبَ نَشْءٍ تنبض بالحياة وأتى على قِمَمِ هِممٍ من قواعدها فقضى على حلم جيلٍ يستهدف إحياء أمجادِ أمَّةٍ كانتْ يومًا ما رائدةً قائدةً.

وإذا كان توازن الثنائيات ينبغي أن يعد مؤشِّرًا دالًّا على سلامة بنية الوعي، فإنه يلزم أن يكون لغلو المبالغات كبيرُ الأثر في ظاهرة اختلال موازين الثنائيات هذه، وحسبك في ذلك أن تتأمَّل الحريات بين طرفي كلٍّ من زنازين الاستبداد الاجتماعي أو السياسي أو الفكريِّ أو الدِّيني المحرَّف أو الوضعيّ وبين غابات الانفلات المطلق على الآخَرين تجسُّسًا وتلصُّصا وهتكًا لحرماتهم وخصوصياتهم واعتداءً على حقوقهم، ومثلها كفاية الذات بين طرفي تعذيبِ الجسد جوعًا وحَرًّا وقَرًّا ورهبانيةً وتعذيبِ العقول بحجر التفكير وإعدام المفكرين وبين النَّهم والإفراط في السِّمنة وإشباع الشهوات والإدمان هدْرًا للطاقات والعقول والأوقات وتضييعًا للشباب وقتلًا للطفولة ووأدًا للفطرة.

أمَّا يوم أن كانت سوق توازن الثنائيات رائجة فقد كان الممدوح يحثو في وجه المدَّاحين التراب، وأنى لك أن تقف يومئذٍ على واحدة فقط من دونكيشوتيات العجرفة والتطرُّف في المغازي والسِّير على مدى ثلاثة وعشرين عامًا؟! وأنت خبير أن قانون السببية سنَّةٌ لم تتخلف ولو مرَّةً واحدة اللهم إلا أن يكون للمعجزة مقتضٍ وباعث يستدعيها لتحقيق غرضها وإصابة هدفها في سياق التحدِّي بشقيه: تحدي المنكرين للنبوة، والتحدي في مواجهةِ بقاء أو فناء.

ولو كان للدونكيشوتية أدنى وجود في هدي نبيِّنا لَما أثنى على خالد ومن معه يوم مؤتة بأنهم كرار، هذا بينما كان الْحُمْسُ من الناس للجيش يلومون وإياه ينادون: يا فرّار، فررتم في سبيل الله! وليسوا بفرار إلا أنَّ منهم من كان يعد الإخفاق في الفتح فرارًا، ولو أنَّ للدونكيشوتية وجدت إلى عقول صحابته صلى الله عليه وسلم من سبيلٍ لَمَا تريثوا وتداولوا الأمر قبل مؤتة ولأوردَ خالدٌ -بعد استشهاد الأمراء الثلاثة- الجيشَ المهالك وألقى به إلى التهلكة إعراضًا منه عن عوامل النصر والهزيمة وإيغالًا في غلو عقائد وهمية تنتظر النصر بالعقيدة دون أن تعد له العدة التي يأمرها بها كتاب العقيدة الذي وعد بالنصر لمن نصر مبادئه وعقائده جملةً واحدةً لا لمن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي بدر وأحد وحنين ومؤتة دروس لا إِخَالك بحاجةٍ إلى استفصالها.

وفي ضوء ما سبق تلزمنا دراسة ميدانية للبحث عن إجابة للأسئلة الآتية:

1. ما أثرُ ثلاثيةِ العدوانِ المفترضة على الوعي الفردي والجمعي؟

2. ما أوجهُ تأثير هذه الثلاثية على بنية الوعي ومستوياته؟

3. ما أهمُّ طرق الوقاية والعلاج في مضمار مكافحة العدوان الثلاثي على الوعي؟

وينبغي أن تعتمد الإجابة عن هذه الأسئلة على دراسةٍ ميدانيةٍ تستطلع رأي فئاتٍ متفاوتةٍ تكشف إحصاءَاتُها وتفسيراتُها الأثرَ وأوجهَ التأثير وطرقَ العلاج، ويعتمد تفسير النتائج على كشف أوجه العدوان وأثره وعلاجه انطلاقًا من مقياسِ قويمٍ للقيم، وهو ما كان عدْلًا أو وسطًا بين طرَفين كما في الأثر: أحببْ حبيبَك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغضْ بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما(6)، فالفضيلة هي الحدُّ الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وأساسها الأمرُ بالاعتدال والنهيُ عن الغلو والتشنيعُ على الغلاة: أما أنا فأصوم وأفطر(7)، عليكم من الأعمال ما تطيقون(8)، "إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"(9)، وجوهرُ الوسطية قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ"(10).

فمبلغ العلمِ فيه أنَّه بشرٌ=وأنه خير خلق الله كلِّهم

والأسئلة المذكورة حقيقةٌ بأبحاث ميدانيةٍ يُعنَى بها علم الاجتماع وعلم النفس معًا، وآمل أن تضطلع تلك الدراسات بمهامِّها بمنهجية تتسم بالموضوعية والثبات والصدق الظاهري والتلازمي والتنبُّؤي؛ فالمأمول منها تقديم نتائج علمية صِرفة لتغدو منطادًا للوعي الفرديِّ والجمعيِّ يطير به من الواقع إلى المتوقَّع.

1 علي عزَّت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، مؤسسة العلم الحديث - بيروت، ط1، 1414، 1994م، ص 108_109.

2 https://ar.islamway.net/article/17563/

3 ابن قتيبة: عيون الأخبار (1/ 260).

4 https://ar.islamway.net/article/17563/

5 إياد الزهيري: لغة المبالغة وأثرها الاجتماعي، http://www.almothaqaf.com/qadayaama/qadayama-16/902389 

6 سنن الترمذي، 25- أبواب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، 60- باب ما جاء في الاقتصاد في الحب والبغض، تح: بشار عواد معروف، (3/ 428)، رقم (1997).

7 صحيح البخاري 67 - كِتَابُ النِّكَاحِ، بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ، (7/ 2)، رقم (5063).

8 صحيح مسلم، 6 - كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، 30 - بَابُ فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الدَّائِمِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهِ، (1/ 540)،( 782).

9 صحيح البخاري 30 - كِتَابُ الصَّوْمِ، بَابُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَى أَخِيهِ لِيُفْطِرَ فِي التَّطَوُّعِ، (3/ 38)، رقم (1968).

10 صحيح البخاري 60 - كِتَابُ أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] (4/ 167)، (3445).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين