الضرب في آية القوامة.. آراء ومواقف (4)

المطلب الثالث: القوامة ومفهوم الضرب في السنة

الآية محكمة لم تُنسخ بلا خلاف، بل نَسَخت حكما في السنة النبوية حين جاءت امرأة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام تشتكي زوجها، فقيل إن «الآية نزلت في سعد بن الربيع، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها؛ فقال أبوها: يا رسول الله، أفرشته كريمتي فلطمها! فقال عليه الصلاة والسلام: لِتقتصَّ من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال عليه الصلاة والسلام: ارجعوا هذا جبريل أتاني، فأنزل الله هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: أردنا أمرًا وأراد الله غيره، وفي رواية أخرى: أردت شيئا، وما أراد الله خير، ونقض الحكم الأول»[15].

فالآية نسخت حكم النبي عليه الصلاة والسلام في حكمه للزوجة بالقصاص من الزوج، وقيَّدت هذا الضرب بحالة النشوز فقط، يقول القرطبي: «ودلَّت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإن حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يُسيء الرجل عشرتها»[16] ويُستخلص من هذا أن الضرب في غير هذا الموقف نوع من العدوان والاعتداء، قال عز وجل: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34] يقول التوحيدي: «فلا تطلبوا عليهن سبيلا من السبل الثلاثة المباحة، وهي الوعظ والهجر والضرب، وقيل: يحتمل أن يكون تبغوا من البغي وهو الظلم...، وقيل: المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا من سبل البغي عليهن، والإضرار بهن»[17] فترتفع هذه العقوبات في حالة الطاعة كما ذكرنا سابقا.

وجدير بالذكر أنه لم يذكر ضرب المرأة الناشز بشكل صريح في غير هذا الموضع من سورة النساء، يقول القرطبي: «فاعلم أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صُراحا إلا هنا وفي الحدود العظام...، إنَّما جوّز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة»[18]، فهذا حكم خاص مرتبط بهذا الموقف، فلا حق لأحد في أذية مؤمن أو مؤمنة بغير وجه حق إلا أن يأتي ما يستحق عليه العقوبة والجزاء، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وتأتي الأحاديث من السنة النبوية مؤيدة لما دلت عليه الآية، جاء في حَجة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح)[19] فهذا الحديث يدعم الآية ويثبت جواز الضرب، وقيده بـــ «غير مبرح» فبيَّنه ابن عباس حين سئل: «ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه»[20] فهو ضرب لا يترك أثرا، ولا يكون إلا دلالة على اللوم والعتاب كونه خطوة أخيرة بعد الوعظ والهجر.

وتمييزا لهذا النوع من الضرب نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضرب المبرح، وقد جاء عند البخاري في باب ما يُكره من ضرب النساء وقوله تعالى: {واضْرِبُوهُنَّ} أي ضربا غير مبرح: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم)[21] فالضرب الذي يقصد به التأديب هو الضرب الخفيف الذي لا يفضي إلى آثار ولا جروح ولا كسور، وحددته السنة النبوية في غير المبرح مثل الضرب بالسواك تنبيها إلى رمزيته النفسية، ونهى عن الضرب المبرح والجلد في الحديث الآخر، ولا يكون هذا الضرب إلا آخر العقوبات «فجمهور العلماء على أن الواجب على الزوج أن يسلك في معالجته لزوجته تلك الأنواع الثلاثة على الترتيب...، بأن يبدأ بالوعظ ثم الهجر ثم الضرب لأن الله تعالى قد أمر بذلك، ولأنه تعالى قد رتّب هذه العقوبات بتلك الطريقة الحكيمة التي تبدأ بالعقوبة الخفيفة، ثم تتدرج إلى العقوبة الشديدة ثم الأكثر شدة»[22].

ولما كان الضرب آخر العقوبات، كان تركه أولى «لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قط أنه ضرب زوجته»[23] جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل)[24] أما ما ثبت من أنه عليه الصلاة والسلام دفع بيده في صدر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فلم يكن ضربا بل دفعًا من باب الملاطفة أو التنبيه، وقد ذكرت ذلك عائشة في حديث طويل يوم خرج الرسول عليه الصلاة والسلام إلى البقيع في ليلتها، قالت: (فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله)[25] واللهد لغةً الدفع، فهو من باب الملاطفة أو التربية والتنبيه على إساءتها الظنَّ وليس ضربًا، فكمال خلق النبي عليه السلام وتنزهه عن مثل هذه الأمور كان أكبر من أن يسقطه فيها.

يتبع

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين