الضرب في آية القوامة.. آراء ومواقف(3)

المطلب الثاني: مفهوم الضرب عند المعاندين

إن تفسير الحكم الأخير في الآية بالضرب المعروف هو ما تُجمع عليه تفاسير القرآن الكريم، لكن نجد اليوم من ذهب مذهبا آخر، فأوجد للآية تفاسير أُخَرَ، ومنهم من وصل به الأمر إلى القول بتاريخانية القرآن الكريم وما فيه من أحكام، ومنهم من دعا إلى ضرورة الانعتاق من سلطة النص فيجب التحرر من دلالاته والعمل بمقاصده فقط، فقدَّموا للقرآن قراءات جديدة تُناسب العصر كما يدَّعُون، فلَقِيَت هوًى عند كثير من المدونين المتحدثين باسم حقوق المرأة، وقالوا إن المعنى المقصود بـ «الضرب» هو:

1. الإعراض والهجر، فالضرب هنا بمعنى «الإضراب»![6] فإذا نظرنا في تفسيرهم للضرب بـ «الإضراب»، نجد أن المعاجم اللغوية تتفق على أن الضرب حقيقة في الفعل المعروف، وتأتي منه استعارات، يقول ابن فارس: «الضاد والراء والباء أصل واحد، ثم يستعار ويحمل عليه، من ذلك ضرَبْتَ ضربًا إذا أوقعتَ بغيرك ضربا، ويستعار منه ويشبه به»[7] فالأصل الضرب المعلوم، وما جاء بعده استعارات، ولعل ذلك ما جعل ابن منظور يقول: «الضرب معروف...»[8]؛ لأن الذهن ينصرف أولا إلى المعنى الحقيقي المعروف، فإذا أبهم المعنى انتقل القارئ إلى البحث عن دلالات أخرى تُفسِّر المعنى وتعطيه وجها دلاليًّا مقبولًا، وينتهي ابن منظور إلى أن معنى «الإضراب» من الفعل «أضرب» بمعنى «الصرف والكف» يقول: «وضربَ الجُرحَ ضَربانًا... إذا آلمه...، وأضْربتُ عن الشيء: كفَفْتُ وأعْرَضْت، وضرَبَ عنه الذِّكرَ وأضْرَبَ عنه: صَرَفَه»[9]، ويضاف إلى هذا فائدة أخرى أن «أضرب» متعدٍ بحرف الجر «عن»، ليتم به المعنى ويستقيم بعده الكلام، وكذلك "ضرب" الذي يفيد "أعرض" متعدي بعن، وهذا لم يرد في الآية، فيكون المعنى الأول الظاهر للضرب في الآية هو الأصل، وقد ذكر القرآن معنيَيْ الصد والإعراض بألفاظهما نفسها في آيات منها قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ومِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وكَفَى بجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:55]. وقوله: {رَأَيْتَ الـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]. وجاء لفظ الإعراض في قوله تعالى: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17]. وقوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} [النساء: 63].

وإذا قلنا تجاوزًا: إن الضرب في الآية بمعنى «الإضراب» -الانصراف عن الشيء والامتناع عنه- فسنكون أمام عقوبتين من نفس الجنس في الآية، وهما الهجر والإضراب؛ لأن الهجر امتناع، وفي الإضراب امتناع أيضا، ولم يرد في القرآن الكريم عقوبة من نفس الجنس في آيةٍ واحدة على التوالي لا على سبيل التأكيد ولا على سبيل التكرار.

2. تفسير الضرب بـعدم الضرب، فقالوا المعنى: "أوقفوا الضرب عليهن"[10]

وهذا القول مردود إذ ليس هو المقصود لأن النهي عن الضرب عدوانًا يأتي عقب الآية ضمنًا في جملة النهي (فلا تبغوا عليهن) الذي وقع جوابا للشرط (فإن أطعنكم)، فلا يأتي النهي عن أمر إلا بعد ذكره صراحة في الخطاب، فسبق التصريح بالضرب عقوبة ولحقها النهي عند ارتفاع السبب فقال: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ... فَلَا تَبْغُوا}. قال التوحيدي في شرح {فَلَا تَبْغُوا}: «لا تطلبوا عليهن سبيلا من السبل الثلاثة المباحة، وهي الوعظ والهجر والضرب...، وقيل: المعنى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا من سبل البغي عليهن والإضرار بهن»[11] فتُرفَع العقوبة بارتفاع الذنب، والأحكام متعلقة بمواقف، فتتوقف عند عدم وجود الواقعة أو النازلة[12]؛ فهذا التفسير مردود لأن النهي عن الضرب جاء في موقع آخر من الآية في سياق النهي عن العدوان والظلم بعد الطاعة.

3. اتخاذ موقف، قولهم: الضرب بمعنى اتخذوا موقفا علنيا بسحب القوامة عنهنَّ[13]

هذا قول محمد شحرور، لكن الجمهور ربط رفع القوامة بالإنفاق، يقول التوحيدي: «وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المعقود الذي شُرع لأجله النكاح»[14] فالقوامة مشروطة بالإنفاق، والإنفاق لا ينحصر في الأمور المادية فقط بل يتجاوزها إلى أمور معنوية مثل الحماية والولاية والرعاية والدفء...، فالمرأة تحتاج دائما إلى سند قوي يدعمها في الحياة، والدليل على ذلك أن المرأة رغم خروجها إلى العمل وتحقيق استقلاليتها المادية، ورغم ما حقَّقته من تفوق في كل مناحي الحياة إلا أنها مازالت تحتاج إلى «سكن» بالمعنى القرآني: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمُ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] سكن يبعث على الهدوء والطمأنينة والأمن والأمان.

ولا يصح التفسير بهذا الوجه الذي يقوله شحرور؛ لأن الشرع الحنيف أمر الزوج بالإنفاق على المرضعة حتى تضع حملها والمطلقة طلاقا رجعيًّا، ونهى عن كل ما يضر بها، يقول عز من قائل: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6]، فإذا كانت هذه الوصية الربانية في حق المطلقة فكيف يُعقل تفسير الضرب برفع النفقة عن المرأة التي ما زالت في علاقة زوجية مع زوجها!

يتبع

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين