السيرة بلغة الحب والشعر(4)

فصل: في السيرة بين لغتين: لغة الرواية ولغة الشعر والحب ونماذج على ذلك

متى دخل الإنسان في الإسلام فقد وجبت عليه فرائض، ومن الفرائض التي تُفترض على المسلم حُبُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).

ومن الفرائض على المسلم أن يُحب في الله ويكره في الله، وأن تكون عواطفه مع المسلمين وأن يحب ما أحب الله ورسوله، وأن يكره ما كره الله ورسوله، وأن يعظم شعائر الله. ومن ثَمَّ فإن الإسلام بالنسبة للمسلم لا يكوّن عقله قط، بل يكوّن عواطفه.

وعلى هذا فالمسلم في أي قضية من القضايا له موقف قلبي وجداني كما له موقف عقلي فهو يكره الشرك والمشركين، والكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين، كراهية عقلية وكراهية وجدانية. وهو ذو موقف عملي وعقلي ووجداني من أي قضية من قضايا الصراع بين الكفر والإيمان.

هذا موضوع مهم جداً يغفل عنه الكثيرون. وبناء على هذا فالمسلم بالنسبة لسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس موقفه عقلياً فقط بل هو موقف وجداني كذلك.

فمولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنده ونشأته وطفولته وشبابه وخلوته ودعوته وموقف الناس منه وإسراؤه ومعراجه وهجرته وغزواته وأحواله وأقواله ووفاته كل ذلك له جانب عاطفي وجداني يتجاوز جوانب المعرفة المحض.

تُرى لو أنّ إنساناً كانت عواطفه مع المشركين يوم بدر هل يمكن أن يكون مسلماً؟ حتماً لا؛ وإذن فالجانب العاطفي والوجداني من أحداث السيرة هو جزء من أجزاء الإيمان ولازم من لوازمه.

ومن ثَمَّ فإنَّ أيَّ مسلم في العالم لا ينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظرته إلى بقية السير، ولا يتكلم عنها بلغة منفصلة عن لغة الحب حتى وهو يعرض هذه السيرة عرضا إخبارياً محضاً فإنَّ الجانب الآخر موجود ضمناً.

ولئن وجد من المسلمين من عرض للسيرة بلغة الأخبار أو التحليل أو التدليل دون أن تظهر القضايا العاطفية في كلامه فإن آخرين تكلموا بلغة الحب فقط عن كل قضية في السيرة وحيثما وجد الحب وجد الشعر ومن ثَمَّ فقد عبَّر المعبِّرون عن قضايا السيرة بلغة الحب شعراً وهو جانب يعتبر مكملاً لأي حديث عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فلئن كان خطاب الكافرين يقتضي تحليلاً وتعليلاً وتدليلاً فإن خطاب المسلمين وكلام المسلمين عن رسولهم عليه الصلاة والسلام يقتضي حباً ووجداً.

ونحب في هذا الفصل أن نذكر نماذج على تكميل لغة الشعر والحب للغة الرواية في تأدية حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قالت لغة الرواية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولِد في ربيع الأول وأنَّ له صلى الله عليه وآله وسلم نسباً يصل إلى ابراهيم عليه السلام.

وقالت لغة الحب والشعر: (لم تزل في ضمائر الكون تختار لك الأمهات والآباء) يقول لنا لسان الحال منه = وقول الحق يعذب للسميع

فوجهي والزمان وشهر وضعي = ربيع في ربيع في ربيع

إ نما موكب الربيع احتفاء = كل عام بعيد مولد أحمد

ما كان ميلاد الرسول المصطفى = إلا الربيع نضارة وتضوعاً

يوم أغر كفاك منه أنه = يوم كأن الدهر فيه تجمعا

يوم يتيه على الزمان صباحه = ومساؤه بمحمد وضاء

- 2 -

وتحدثت الرواية عن رضاعه من حليمة وفصاله؛ وقالت لغة الشعر:

فأتته من آل سعد فتاة = قد ابتها لفقرها الرضعاء

أرضعته لبانها فسقتها = وبنيها ألبانهن الشاء

أخصب العيش عندها بعد محل = إذ غدا للنبي منها غذاء

وإذا سخَّر الإله أناساً = السعيد فإنهم سعداء

وأتت جده وقد فصلته = وبها من فصاله البرحاء

ورأى وجدها به ومن الوجد = لهيب تصلى به الأحشاء

فارقته كرها وكان لديها = ثاوياً لا يمل منه الثَّواء

-3-

وحدثتنا لغة الرواية عن حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وعن زواجه بخديجة عليها رضوان الله وقالت لغة الشعر:

ألف النسك والعبادة والخلوة طفلاً وهكذا النجباء

وإذا حلت الهدية قلباً نشطت في العبادة الأعضاء

ورأته خديجة والتقى والزهد فيه سجيَّة والحياء

فدعته إلى الزواج وما أحسن ما يبلغ المني الأذكياء.

وحدثتنا لغة الرواية عن غار حراء ونزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وقالت لغة الشعر:

يا مغاني حراء اذ مسها=أول وحي أتي به جبريل

هزت (اقرأ) شماريخ = ذراها ورجّها التنزيل

وتلقت جبال مكة أمر الله = (اقرأ) أصداؤها تهليل

أي أمر هذا الذي اهتز منه السهل والوعر والفلا والتلول

وحدثتنا لغة الرواية من دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه وما عانى فيها وقالت لغة الشعر:

ثم قام النبي يدعو إلى الله = وفي الكفر نجدة واباء

ويح قوم جفوا نبيا بأرض = ألفته ضبابها والظباء

- 5 -

وحدثتنا لغة الرواية عن الهجرة إلى الحبشة وقالت لغة الشعر:

زاد طغيان قريش حدة = فتباروا في اضطهاد المسلمين

فرأى بعضهم أن يخرجوا = ويقروا عند قوم مؤمنين

عيسوين نصارى فمضوا = للنجاشي فباتوا آمنين

هاجروا خوفا على دينهم = وهو فيض الله رب العالمين

-6-

وحدثتنا لغة الرواية عن الإسراء والمعراج وقالت لغة الشعر:

فصف الليلة التي كان للمختار فيها على البراق استواء

وترقى به إلى الرب قاب قوسين وتلك السيادة القَعْساءُ

فطوى الأرض سائراً والسموات العلا فوقها له إسراء

رتب تسقط الأماني حسرى دونها وما وراء هن وراء

-7-

و حدثتنا لغة الرواية عن الهجرة كيف كانت وقالت لغة الشعر:

ويمضي رسول الله والبيد حوله = تطالعه أسرابها وسرابها

أكاد أراه ثاني اثنين أمسيا = على خطة ليست تهون صعابها

يقول له لا تخش فالله فوقنا = ورحمته يهمي علينا انسكابها

وفي مكة تضري قريش وتفتلي = بأضغانها مخزومها وكلابها

أعدت مذاكيها وسلَّت سيوفها = وضجت بمحموم الحقود غضابها

تواصوا على حطم النبي ودينه = وتلك منى أعيا قريشاً طلابها

غفا الأسد من أهليه عنه وسالوا = عليه فهبت تبتغيه ذئابها

نبي جلاه الله للخلق رحمة = يضيء دياجير الوجود شهابها

أضاء به الأكوان شرقاً ومغرباً = إلى يوم يطوي كالزمان كتابها

إلى يثرب يهفو مُجداً محاذراً = فلما توفاها أطمأن اضطرابها

تحاشد أقطاب القبائل حوله = وخف إليه شيبها وشبابها

-8-

وحدثتنا لغة الرواية عن استقبال الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم المهاجر وحدثنتا عن آثار الهجرة وقالت لغة الشعر:

والعذارى قد تجمعن له من كل حي

خاطرات طائفات كمالها حول النبي

قلن والدُّفُّ بأيديهن في صوت ندي

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا الله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

بدأ التاريخ في الدنيا بملقى رحله

حل في أهل فأنسوه تجنى أهْلِه

أعلى دين الله واطرق كل حيّ كل باب

وأقطع الصحراء للمدن وبشر بالكتاب

أنت في الأمن فاهد الخلق للحق اللباب

-9-

وحدثتنا لغة الرواية عمَّا كان من تراحم بين المهاجرين والأنصار وقالت لغة الشعر:

يا هجرة فجرت حباً ومرحمة فالقوم فيها الأحياء الأخلاء

تقاسموا نعمات العيش وائتلفوا = كما تآلف في الأجساد أعضاء

كل يرى لأخيه الخير أجمعه = والخير موطنه الرهط الأعزاء

جرى الإخاء عليهم بهجة وسنا = فاستعذبوه ودنيا الود فيحاء

وطيبة الخير بيست ضم شملهم = جلاله الدهر أبناء وآباء

-10-

وتحدثنا لغة الرواية عن عودة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المهاجر فاتحاً وتقول لغة الشعر:

هذا المهاجر لم ينم يوما على = ضيم.. ولم يخلد إلى الخذلان

هذا المهاجر عاد يوماً.. حوله = خفق البنود وصولة الفرسان

ليقول للتاريخ: إنَّا أُمَّةٌ = لم نرض بالتفريط في الأوطان

-11-

وتحدثنا لغة الرواية عن بدر وقالت لغة الشعر:

وقف الحق وقفة عند بدر = شحذت في الغيوب سيف القضاء

وقريش في جيشها اللجب تسعى= بين وهاج القنا وزهو الحداء

وعيون النبي شاخصة ترقب = وفي هدبها طيوف الرجاء

قُضِيَ الأمر يا قريش فسيري = واندبي على الأشلاء

يوم بَدْر يوم أغرّ الأيام = باقٍ إن شِئتِ أو لم تشائي

ايه يا بدر أطلقي واستعيدي = ذكريات العلا رموز الخلود

وانفحينا من الهدى بعبير = عبقري الشدي زكي الورود

ايه يا بدر فاصدعي بالمعاني = وَلْيَدُكّ الفرقان كل جحود

هذه نماذج على تكامل لغة الرواية والشعر في تأدية حقِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحقِّ سيرته من أجل إيجاد المعرفة الصحيحة والعاطفة الصحيحة وكلاهما مرغوب ولكل منها محله.

فصل: في خطاب الرسول عن بعد وفاته

كثيرون من يهمهم تحرير التوحيد مما يخدشه لا يرتاحون أن يُخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعر أو في النثر مخافة أن يكون في الخطاب معنى الوثنية أو الشرك، والحساسية في هذا الموضوع طيبة فإنَّ البعد عما يخدش التوحيد من أهمِّ ما ينبغي أن يحرص عليه المسلمون.

غير أنَّ علينا أن نلاحظ في هذا المقام أموراً:

أولاها: أنَّه ليس كل خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولو بعد وفاته يُعتبر شركاً بدليل أننا نقول في كل صلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

ثانيها: أنَّ أساليب العرب في التعبير التخييل والتجسيم فهي تفترض الميت حياً وتخاطبه وتفترض الجماد حياً وتخاطبه فإذا سلمت العقيدة وعرفت الحدود فلم تتجاوز فلا حرج.

ثالثها: أنَّ العرب تستعمل في أساليبها التشبيه والاستعارة والكناية فيما كان واضحاً فيه مثل هذه المعاني واستعمل في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا حرج.

رابعها: أنَّ الشعر الذي رُثِيَ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أصحابه كان فيه بعض الخطابات له عليه الصلاة والسلام فقد ذكر ابن هشام من شعر حسان في رثاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأبيات:

يا خير من وطئ الحصى لا تبعد

وجهي يقيك الترب لهفي ليتني

غيبت قبلك في بقيع الغرقد

أمسى نساؤك عطلن البيوت فما = يضربن فوق قفا ستر بأوتاد

يا أفضل الناس إني كنت في نهر = أصبحت منه كمثل المفرد الصادي

فبوركت يا قبر الرسول وبوركت = بلاد ثوى فيها الرشيد المسددّ

وبورك لحد منك ضمّن طيبا = عليه بناء من صفيح منضد

إن هذه المعاني كلها تجعل الطريق مفتوحاً أمام الشعراء أن يبدعوا وأن يتفننوا في القول مع ثلاث ملاحظات:

أن يعرفوا أنَّ الدعاء لا يجوز أن يتوجه به مسلم إلا لله تعالى، ذلك صريح قوله تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ [الرعد: 14].

وأن يعرفوا أنَّه لا يصح أن يتجاوز برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحدود التي نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مجاوزتها.

وأن يبتعدوا عن أي معنى يمكن أن يوجد لبساً وعليهم مع هذا كله:

أن يعرفوا حدود الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

يتبع....

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية محرم 1400هـ.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين